في بيان تضمن الكثير من عبارات الاحترام لحرية الرأي والتعبير، تقدّمت وزارة الدولة للإعلام باعتذار لأبناء صعيد مصر بعد أن انتقد الإعلامي تامر أمين في إحدى حلقات برنامجه آخر النهار الأسبوع الماضي ارتفاع معدلات المواليد في الريف والصعيد ثم تشغيل هؤلاء الأطفال لاحقًا حرفيين أو عاملات خدمة منزلية، ما أثار موجة غضب واسعة لم ينهها قرار المجلس الأعلى للإعلام بإيقاف بث البرنامج وإلغاء ترخيص مزاولته المهنة.
لم يكن تامر أمين وحده من تناول في برنامجه ملف الزيادة السكانية وأثرها السلبي على التنمية، الذي أصبح حديث الساعة منذ أن تطرق إليه الرئيس عبد الفتاح السيسي، أثناء افتتاحه مجمع طبي بمحافظة الإسماعيلية يوم 16 فبراير/ شباط الجاري عندما حذر من "الآثار الخطيرة للزيادة السُكانية على معدلات النمو وشعور المواطن بالتحسّن في المعيشة"، مؤكدًا أن "المعدل الأمثل للزيادة السُكانية هو 400 ألف مولود جديد سنويًا، وأن مصر بحاجة إلى تريليون دولار لتتناسب مع الزيادة السُكّانية".
ولم يكد السيسي ينهي كلمته؛ حتى تلقّفتها جهات رسمية مثل وزارة التخطيط ودار الإفتاء لتدعمها، ووضعتها المؤسسات الإعلامية والصحف على رأس أولوياتها التحريرية، بتناغم أوركسترالي لم يختل إيقاعه إلا عندما خرج تامر أمين قليلًا عن النص، حسبما رصدت المنصّة.
نظرية مؤامرة
صباح أمس الأول، خصص برنامج 8 الصبح المذاع على قناة دي إم سي جزءًا من فقرة قراءة الصحف للحديث عن العناوين المتعلقة بها، مستعينًا بالكاتب الصحفي والمحلل السياسي أحمد رفعت للتعليق على الأمر، بينما اقترحت مذيعة البرنامج هبة ماهر إضافة الصحة الإنجابية للمناهج التعليمية. وفي المساء، تناول برنامج اليوم المذاع على القناة نفسها هذه القضية، لكن من زاوية أخرى، إذ استضافت مقدمته سارة حازم الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية ماهر فرغلي، ليناقش ما أسموه "محاولات تنظيم الإخوان الإرهابي لتشويه خطط الدولة لمواجهة الزيادة السكانية".
وبالعودة بضعة أيامٍ إلى الوراء، وفي اليوم التالي لحديث الرئيس، وعلى قناة أخرى هي Ten، استضاف برنامج صباح الورد خبيرًا في التطوير الحضاري والتنمية المحلية، هو الحسين حسان، ليتحدث عن مخاطر الزيادة السكانية، بعد أن سبقه مقدم البرنامج بالتأكيد على أن "للدولة جهودها"، وتساءل عن مسؤولية المواطن في هذا الأمر، مبديًا خوفه من الزيادة السكانية بقوله "أنا امبارح لما شوفت الأرقام اتخضيت، والأرقارم المتوقعة كمان اتخضيت أكتر، والأرقام المستهدفة بعيدة شوية عن الأرقام الموجودة".
أما الخبير فأشار إلى قلة معدلات الزيادة السنوية بعد حملات التوعية التي تطلقها وزارة الصحة، وذلك من 2.5 مليون زيادة سنوية منذ ثلاثة أعوام، إلى 1.8 مليون، معتبرًا أنها ما زالت "زيادة كبيرة"، ومؤكدًا "أهمية حملات التوعية المباشرة للمواطن بخطورة الأمر، خاصة داخل القُرى".
.. ووصايا مسؤولين
لم تستعِن التغطيات الإخبارية لكلمة الرئيس بـ"الخبراء" فقط، بل كان هناك مساحة للمسؤولين، مثلما كان في برنامج اليوم على قناة دي إم سي، الذي ناقشت مذيعته دينا عصمت يوم الجمعة 19 فبراير مع نائب وزيرة الصحة لشؤون السكان طارق توفيق هذه القضية ومخاطرها، وقدّم توصيات للتغلب عليها.
لكن النصائح لم تأت من مسؤولين حاليين فقط، بل استعان الإعلام بمسؤولين سابقين، مثل السفيرة مشيرة خطّاب، وزيرة الدولة للأسرة والسكان سابقًا، التي استعرضت في مداخلة هاتفية مع برنامج "مانشيت" مع المذيعة رانيا هاشم على قناة اكسترا نيوز هذا الأمر، وتحدّثت عما ورد في قانون الطفل من ضمانات لحياة آمنة.
رجال الدين على الخط
بعد ساعات من كلمة السيسي، قال الإعلامي أحمد موسى عن الزيادة السُكانية "دي قضية الدولة اللي مش عارفين نحلّها. كل ما تلاقي حل يخوفوك. طيب نعمل إيه؟ وهنواجه الأمر ده إزاي؟"، مُطالبًا بتدخل جميع الفئات في هذا الملف، وخصّ بالذكر منهم رجال الدين.
وبالفعل، لم يفوّت رجال الدين القضية بمشاركات اختلفت بين النصح والفتاوى و"استنكار التواكل"، ففي حلقة 18 فبراير، وبعد كلمة الرئيس بيومين، خرج الشيخ خالد الجندي في برنامج "لعلهم يفقهون" على قناة دي إم سي، ليتحدث عن الأمر في صورة "خاطرة" واتته، وقال "بعض الناس اللي مش فاهمين يقولك كل عيّل بييجي برزقه. أكبر مصيبة وأكبر كارثة. الكلمة دي أكبر خطأ بنقع فيه. مش بالضرورة كل عيل بييجي برزقه".
وأضاف الجندي "أنا عايز أفكرك إنت وهو وهي إن احنا بنزيد مولود كل 13 ثانية، يعني بنزيد تقريبًا 2 مليون كل سنة. لو كل عيل بييجي برزقه؛ كُنّا نبقى أغنى دولة في الكرة الأرضية".
في اليوم نفسه لكن عبر برنامج يحدث في مصر على قناة إم بي سي مصر، أكد الشيخ مبروك عطية في تصريحات مع الإعلامي شريف عامر، جواز عزل الرجل عن زوجته بهدف تحديد النسل.
وسبق الجندي وعطية بيوم واحد شيخ آخر، هو مجدي عاشور مستشار مفتي الجمهورية، الذي تحدث في 17 فبراير لبرنامج رأي عام على قناة TEN، مع الإعلامي عمرو عبد الحميد، عن الزيادة السكانية، وشرح أيضًا مفاهيم متداولة شعبيًا مثل "لُقمة هنية تكفّي ميّة" و"العيل بييجي برزقه"، مطالبًا بالتوقف عن "التوكلية المزيفة على الله".
في ذلك اليوم نفسه، تحدث الأمين العام لسنودس النيل الإنجيلي القسّ رفعت فتحي عن الزيادة السُكانية، عبر مداخلة هاتفية مع برنامج صالة التحرير في قناة صدى البلد، وقال إنها "كفيلة أن تلتهم كل مشروعات التنمية التي تتم. فالحكومة بتقوم بمشروعات رائعة وغير مسبوقة بالمرة، لكن إذا ماكناش نقدر نتعامل مع المشكلة السكانية بشكل مختلف؛ مش هنشعر أبدًا بامتيازات ونتائج وثمار هذه التنمية"، مشيرًا إلى إجراءات الكنيسة في هذه القضية عبر جمعيات تابعة لها تمارس دور في تحديد النسل وتنظيم الأسرة.
الحديث بعبارات دينية لم يأت من شيوخ وقساوسة فقط، ففي برنامجه على قناة TEN شدد الإعلامي نشأت الديهي على أهمية الجاهزية قبل إنجاب الأطفال، مستنكرًا عبارة "الأطفال اللي بييجوا برزقهم"، ومستعرضًا قضية الزيادة السكانية مستعينًا بآيات قرآنية وقصة من سيرة أحد الصحابة.
وبالاستعانة بآلة حاسبة، تحدّث الديهي عن عدد المواليد الذين "يزيدون بمعدل 5 أطفال كل دقيقة"، واصفًا الموضوع بالخطير، بينما يعرض على الشاشة الساعة السُكانية التابعة للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
وعلى الرغم من استخدامه خطابًا دينيًا، فإن الديهي قال إن هذه القضية "لن يكون لها ناتج مختلف عن طريق الوعظ والإرشاد"، بل "قد تحتاج إلى إجراءات وقرارات من الدولة.. ووضع حد حاسم وقاسي وواضح ومعلن"، مشددًا على أن الزيادة السكانية "عدو لا يقل سوءً خطرًا عن الإرهاب والإهمال والفساد".
لوم المواطن
التليفزيون الحكومي لم يغب عن هذه القضية، فعبر القناة الأولى وفي برنامج التاسعة الذي يلي النشرة المسائية، استعرض الإعلامي يوسف الحسيني أجزاءً من كلمة الرئيس حول الزيادة السكانية، وعلّق عليها بإلقاء أكبر اللوم على مجتمع الريف فيما يتعلق بإنجاب أكثر من طفلين، وتدمير صحة الأم وطفولة أبنائهم عبر ضمهم للعمل معهم منذ الصغر.
وأضاف الحسيني، فيما يخص التريليون دولار التي تحدث عنها الرئيس كضرورة للإنفاق والتنمية بما يناسب ارتفاع معدلات السكان، بقوله "الدولة طول الوقت بتجري علشان توفر هذه الأموال اللازمة للنمو. لكن لينا أسقف، يعني مهما عملنا هنعمل إيه؟ مش هنخترع فلوس ولا موارد اقتصادية".
أيضًا، لم يمّر الحديث الرئاسي على الإعلامي أحمد موسى دون التعليق عليه في برنامجه، "على مسؤوليتي" بقناة صدى البلد فبجانب مناقشته لهذه القضية مع خبير هو الدكتور عمرو حسن، مقرر المجلس القومي للسكان سابقًا، وصفها الإعلامي بأنها "المشكلة الرئيسية لمصر، وتلتهم كل تنمية"، وأكد أنها "مسؤولية المواطنين وليس الدولة وحدها".
مثل موسى، وفي حلقته سالفة الذكر خاطب نشأت الديهي المواطنين، متحدثًا عن طموحات الرئيس، وقال "يا اخي ما كل أسرة تجيب عيل. أقصى حاجة عيلين. لكن طموحنا إن البلد كلها تزيد في السنة 400 ألف. ألمانيا بتزيد صفر في الميّة أو بالسالب. فيه مشكلة في الإنتاج البشري في أوروبا بالكامل".
"العيال عزوة"
في صباح يوم 17 فبراير، استضافت قناة إكسترا نيوز خبيرًا في برنامج "هذا الصباح" الخبير الاقتصادي محمد البهواشي، الذي قال إن الزيادة السكانية "التهمت معدلات النمو الجيدة في ظل جائحة كورونا"، خاصة وأن "القاعدة العريضة في التشكيل السكاني فئة غير منتجة"، وذلك بعد أن استهلت مقدمة البرنامج خلود زهران حلقتها بانتقاد عبارات مثل "العيال عزوة" وأنها ما زالت سائدة في المجتمع على الرغم من "تعدد حملات التوعية".
أما الإعلامية لميس الحديدي فخصصت حلقة كاملة من برنامجها كلمة أخيرة على قناة أون، فخصصتها مقدمته لميس الحديدي بالكامل لمناقشة هذه القضية مستعينة بخبراء، لكنها أدلت بدلوها أيضًا، وقالت "مهما اتعمل هنفضل غير راضين. ليه؟ لأن احنا كتير جدًا. وأي حاجة بتتقسم على كتير غير لما بتتقسم على قليل".
https://www.youtube.com/embed/bqVmm9dPcEcوتابعت الحديدي "وده الريأكشنات (ردود الفعل) اللي عندنا على السوشيال ميديا: انتو اللي فشلة، انتو اللي مش عارفين تستغلوا الطاقة البشرية، شوفوا الصين. هذه دول اتخذت إجراءات عنيفة، الصين دي اتخذت إجراءات عنيفة إنه عيل واحد بس".
وبينما أشادت الحديدي بالرئيس بقولها عنه إنه "تكلّم ببساطة توصل للناس"، إلاّ أنها ومثل زميلها نشأت الديهي، رفضت ما يتردد من أحاديث حول الإنجاب كما استنكرها الرئيس نفسه قبلهما، وقالت "الناس تقولك كل عيل برزقه، ما العيال عزوة، دول بيساعدوني ويشتغلوا معايا"، مستعرضة ردّ الرئيس على هذه العبارة وقالت "إنت شوف إمكانياتك وهتقدر تقسمها على عدد قد إيه من العيال".
غضب صعيدي
في مداخلتها سالفة الذكر مع إحدى البرامج، تحدّثت السفيرة مشيرة خطّاب عما سمّته "روافد عمالة الأطفال"، قائلة "احنا بنشوف أسر بتولد كتير علشان بتبعت الولاد يشتغلوا ويجيبوا دخل. فالطفل بيتحول لمصدر دخل للأسرة".
الحديث عن عمالة الأطفال باعتباره أحد تبعات الزيادة السُكّانية وردت في برنامج آخر من الإعلامي تامر أمين، لكن بنبرة صوت أعلى وبعبارات حادة تنتقد استمرار روافد عمالة الأطفال التي أشارت إليها خطّاب، عندما أشار إلى أن الكثير من الأسر في محافظات الريف والصعيد، ينجبون أطفالًا لا لتعليمهم أو العناية بهم بل لتشغيلهم في أعمال حرفية أو في الخدمة المنزلية، وهو ما رأى فيه البعض "إهانة" للصعيد.
تعددت الجهات التي أعربت عن غضبها مما قاله تامر أمين، نائب محافظة سوهاج في مجلس النواب مصطفى سالم وكذلك النائب مصطفى بكري الذي طالب باستدعاء وزير الدولة للإعلام أمام المجلس، قبل أن يسارع هذا الأخير بإصدار بيان للتعليق على الأزمة، يؤكد أن ما قاله أمين "يُخالف السياسة الإعلامية المصرية، التي تقوم على احترام جميع المواطنين".
لكن الأمر لم يقف عند استنكار أو لوم وتأنيب، فالتحرك الأبرز جاء من المجلس الأعلى للإعلام ورغم اعتذار أمين، إذ أصدر المجلس ثلاث قرارات هي "تغريم القناة (النهار) 250 ألف جنيه وإنذارها بسحب الترخيص حال تكرار المخالفات، ووقف برنامج آخر النهار (الحلقات الخاصة بتامر أمين ومنع ظهوره في وسائل الإعلام لمدة شهرين، وإحالة البلاغات المقدمة للمجلس إلى النائب العام"، ليبقى الإعلامي في انتظار تحرك أو حفظ هذه البلاغات.
على مدار أيام فيما بعد 16 فبراير وحتى اليوم، بقيت قضية الزيادة السُكّانية أبرز ما تتناوله البرامج عبر مختلف الفضائيات المصرية، وربما يستمر الأمر لأيام عديدة مقبلة، لكن ستكون بأحاديث ذات محاذير أكبر، بعد أن تبيّن أن الخروج عن النصّ ستكون عواقبه وخيمة، وسيجلب ليس فقط عقوبات، بل هجومًا ممن كانوا بالأمس زملاء.