"أنا فرحان إن الناس فاكرة مامتي.. ماما بطلة شجاعة"؛ يتذكر بلال السحلي، ذو السنوات العشر، شيماء الصباغ وفق تلك الصورة، كلما كُتب عنها على فيسبوك، أو أراد التعبير عن اشتياقه لأمه التي توافق اليوم ذكرى وفاتها الخامسة.
شيماء الصباغ شاعرة وناشطة سياسية من الإسكندرية، قُتلت خلال مسيرة نظمها حزب التحالف الشعبي الاشتراكي لإحياء ذكرى الثورة الرابعة، مساء السبت 24 يناير/كانون الثاني 2015، بميدان التحرير، بعد إصابتها بطلق خرطوش في الوجه من بندقية ضابط بجهاز الأمن المركزي، أطلقها باتجاه المسيرة لتفريقها.
قبل أن تتجه شيماء للمشاركة في المسيرة التي أودت بحياتها، تركت في الإسكندرية طفلها بلال البالغ من العمر وقتها خمس سنوات ونصف، بصحبة إحدى صديقاتها، بحسب زوجها أسامة السحلي، الذي اضطر للإبقاء على الولد بصحبة تلك الصديقة نفسها لعدة أيام أخرى حتى يستطيع تدبر الأمر بعد الحادث، وجمع شتات نفسه لكي يستطيع نقبل الخبر إلى نجله، لكنه اكتفى بالرد على سؤال ابنه الذي سأل عن أمه حين لم يرها بصحبة أبيه الذي جاء لاصطحابه إنها انتقلت إلى السماء، بحسب تصريحاته للمنصَّة.
لم يخبر الأب ابنه بأي تفاصيل أخرى عن مقتل أمه سوى أنها "في السما"، لكنه أكد له "بكرة هتفتخر بماما، وتعرف إنها أعظم أم في الدنيا"، ربما لم تسعف أسامة غير تلك الكلمات البسيطة التي قرر أن تكون رده الدائم لتفسير غياب شيماء مع كل سؤال للطفل عن تفاصيل وفاتها "كان صعب عليا أوريه صور الحادثة، وكنت خايف ده يأثر على نفسيته، وكان صراع كبير جوايا، لحد ملقيت دكتورة من مركز النديم بتنصحني إن الطفل لازم يشوف صور الحادثة ويعرف اللي حصل حتى لو عيط، بس لازم يفهم".
لكن السحلي انتظر سنة كاملة قبل أن يتخذ قراره بعرض الصورة على ابنه، حتى حلت ذكر مقتلها "خدت الصورة الشهيرة اللي انتشرت في كل الجرايد والصحف وقتها، وحطتها على الفوتو شوب، قللت الدم اللي فيها، وورتها لبلال انفجر في البكاء، وحكت له اللي حصل، وإن ماما بطلة وشجاعة، وكلنا فخورين بيها".
صار عمر بلال الآن عشر سنوات ونصف، وأدرك الصف الخامس الابتدائي، لكن الحادث لم يؤثر عليه نفسيًا خلال تلك الفترة، على العكس يرى أبوه "الولد لما عرف اللي حصل متأثرش سلبيًا، بالعكس ده بقى ليه تأثير إيجابي عليه، وبقى فخور بأمه طول الوقت، وبيحكي لأصحابه عنها، وبيطلب منهم يعملوا سيرش على اسمها على جوجل، علشان يعرفوا قصتها".
ربما ساعد الأب وابنه على تجاوز تلك الآثار النفسية الجسيمة التي مرا بها بعد وفاة شيماء، أنهما يعيشان صحبة جدة بلال وأم أسامة، التي يعتبرها الجندي المجهول الذي استطاع تعويضهما جزئيًا عن غيابها "محدش ممكن يعوض غياب شيماء عني أو عن بلال، بس أمي رغم إنها ست كبيرة، بس هي الجندي المجهول في رعاية بلال ورعايتي كمان، هي عوضت غياب أمه نفسيًا، وبتدلعه كمان وساعات بنتخانق بسبب ده، بس ده من كتر حبها فيه، فعلًا لولا وجودها كان ممكن ننتنكس ونبقى في حالة أوحش من كده".
يحب بلال ألعاب الفيديو، ويعتبره مدرسوه طفلًا ذكيًا، وقد دشَّن في سبيل حبه لألعاب الكمبيوتر والبرمجة قناة خاصة به على يوتيوب ليشارك أصدقاءه خبرته مع ذلك العالم، الذي يطمح أن يكون أحد رواده في المستقبل، ويجيب عن سؤال والده "عاوز تطلع إيه لما تكبر؟" فيرد "يوتيوبر"، فيحترم الأخير رغبته مقررًا عدم التدخل في اختيارته"، ربما تنفيذًا لوصية أمه التي درست في أكاديمية الفنون، وعملت في مجال توثيق التراث الشعبي، لكنها قررت ترك حرية الاختيار لبلال في اختيار دربه في الحياة، وهو ما يحرص الأب على تنفيذه "أنا حتى مش بتدخل في كتاباته على فيسبوك ممكن أعدل له الأخطاء الإملائية مثلا، لكن أنا مكمل في مسيرة شيماء، ولو هو قرر يدخل عالم السياسية لم يكبر أنا متمناش ده، بس مش همنعه، لكن أنا نفسي يكبر يروح أي بلد تانية تحميه، بس في النهاية ده قراره".
أنجزت شيماء الصباغ عددًا من الدراسات حول التراث الشعبي، وزارت العديد من القرى والموالد، لتسجيل الثقافة الشعبية والموروث الفلكلوري، ويرى أسامه أن زوجته الراحلة كانت إنسانة غير عادية "يمكن في كتير يشوفوا البوستات اللي بتتشير عن شيماء فيها نوع من المبالغة، علشان هي شهيدة أو علشان الواقعة اللي حصلت، بس فعلا هي كلمات من غير مبالغة، شيماء إنسانة مش عادية، وكانت أم مش عادية".
تعرف أسامة على شيماء من خلال اضطلاعه بالتدريس في كلية الفنون الجميلة، التي عمل فيها لنحو عشرين سنة، حيث التقى بها خلال أحد عروض العرائس "عرفتها عن قرب، وجدتها إنسانة مثقفة خفيفة الظل، فانبهرت بها، واكتشفت كمان بعد الجواز إنها طباخة ماهرة".
يرى أسامة في بلال وجه آخر من شيماء؛ طفل ذكي محب للآخرين ويسعى دائمًا لمساعدة زملائه، ويشجعه أساتذته في المدرسة على ما يقدمه من تفاعل في الأنشطة الاجتماعية، ويعتبر أن ذلك بذرة شيماء في داخله، لذلك يسعى هو ووالدتها على رعاية ما بثته أمه فيه "أنا ووالدتي كملنا اللي شيماء بدأته، هي سابت لنا بذرة كملنا عليها اللي هي كانت بتحلم بيه، إنه طفل يكون حر في اختياراته وقراراته، عارف القيم والمبادئ وهو اللي يختار طريقه، من غير توجيه من حد".
وعلى الرغم من السنوات القليلة التي قضتها أمه في رعايته، لكنها لم تغب أبدًا عن ذاكرة الطفل، الذي يحب الحكي عنها لأصدقائه، ويحب في المقابل الاستماع لما يحكيه له أبوه وجدته عن حياتها، كما حوَّل صفحته الشخصية على فيسبوك لمنصة تحمل صورها، ويكتب من خلالها رسائل يوجهها إليها لعلها تصل فتعرف كم يحبها ويشعر بالفخر من كونها أمه، وفي ذكراها السنوية من كل عام، يجتمع وأبوه ليختارا من صورها ما سينشرانه بعد أن يرفقها ببوست يكتبه بالإنجليزية التي يفضل التعبير من خلالها، لكنه هذا العام سيكتب عنها بالعربية "كل مرة بسيبه يقول اللي عايزه رغم إني مش عاجبني يكتب عن مامته بالإنجليزي، بس هو بيستسهل التعبير بالانجليزي عن العربي وده عيب، السنة دي أقنعته إن البوست العربي بيجيب تفاعل أكتر".