تصيم: يوسف أيمن- المنصة
وحيد حامد.

وحيد حامد: البونابرتي الأخير

منشور السبت 9 يناير 2021

كانت دقائق قليلة مرت على إعلان وفاة وحيد حامد وتناقل صفحات فيسبوك له، ليستقر الخبر عند من يطلق على نفسه "المؤرخ الإسلامي"، فراح يعيد صياغته بكل عبارات الفرح والحبور لـ"نفوق أكثر من عادى الإسلام والمسلمين، وشوّه صورة الملتزمين في أعماله"، وتحول البوست إلى احتفال واسع يتواصل حتى كتابة هذه السطور.

قبل هذا التهليل وبالتبادل مع بوستات أخرى تُعدد مثالب الراحل في وصف الإسلاميين، نشر "المؤرخ" بوستات بكائية في ذكرى سقوط الأندلس، الذي يوافق نفس يوم وفاة وحيد حامد، يوم 2 يناير، حتى إنني خشيت على مشاعره البائسة المتأرجحة بين الحزن الشديد والفرح المبتهج برحيل وحيد حامد. والحقيقة أن أمر الإسلاميين في التعامل مع الموت بات غريبًا جدًا، حتى على العقيدة وأحكامها، فموت خصومهم بات عندهم يشبه حضوره في الأساطير اليونانية؛ عقاب في حد ذاته، ليس بعده شيء سوى العذاب في الجحيم، لا حساب ولا رحمة بالطبع، ولا تحقيق ولا محاكمة، ولا يغير من ذلك، إذا مات الخصم مريضًا أو معافى، شابًا أو عجوز، ناجحًا أو ذليلًا، وهو منطق اختلف عن الأجيال السابقة منهم الذين كانو يدبجون الأساطير لظروف وفاة من لا يحبون.

يحكون أن هذا صدمته سيارة خرجت منها أسياخًا حديدية اخترقت حنجرته فعجز عن ترديد الشهادتين في آخر لحظاته، وذاك وجدوا كليته مكان مخه عند تشريح جثته، لأنه كان يقرأ الفاتحة بالمقلوب، وهناك بالطبع من طفحت المجاري في قبورهم ولم يكن أمام المشيعين سوى إلقائهم فيها والهروب بسرعة لنتانة الرائحة، وأساطير كثيرة كنت أحب متابعتها في كتاباتهم لطرافتها.

خطاب هيستري 

وبعيدًا عن موضوع الموت ومركزيته عند هؤلاء، وهذه قصة أخرى، فإن الفرح المقيم بوفاة وحيد حامد والهيستريا المصاحبة له انصب خطابها على أن وحيد حامد قبّح في أفلامه صورة المتدين وحوله إلى مُسخة مضحكة، كاذب وشهواني، أو كما كتب أحدهم "أكثر الأقلام المسمومة والكاذبة والفاحشة، التي طالما سخرت من الإسلام والعاملين له. له نصيب عظيم من نفور الناس من الدين وأهله.."، وأن مشروع وحيد حامد كله انصب على محاربة الدين وربط الإسلام بالإرهاب، كونه كان كاتب أمن الدولة، والتدليل على ذلك بفيلم الإرهابي، الذي يعرف الجميع أنه فيلم من تأليف الكاتب الراحل لينين الرملي وليس وحيد حامد أصلًا، لكن الإسلاميون دائمًا ما يهرفون بما لا يعرفون وهذا ديدنهم، فليس عليهم حرج.

ووحيد حامد فعلًا لم ينصب مشروعه على محاربة الإسلاميين، أو رؤيتهم خطرًا مركزيًا قويًا وحيدًا على المجتمع والنظام العام، بالعكس الرجل في خماسيته مع عادل إمام "اللعب مع الكبار" و"الإرهاب والكباب" و"المنسي" و"طيور الظلام" و"النوم في العسل"، كان واضحًا في اختيار عدوه، وهو ترهل الدولة وارتعاش الحاكم إلى الحد الذي يجعل للنظام أحواشًا خلفية تمتلئ بالانتهازيين والبيروقراطيين الجهلاء ومعدومي الكفاءة، مما قد يهدد بانهيار النظام في لحظة غضب مصادفة، أو يعجل بالانتقام الفردي، وهي الفكرة التي عبّر عنها وحيد حامد أكثر في فيلميه "الغول" و"البريء".

لا يعني هذا أنه كان ناقدًا ثوريًا للنظام، بل كان يحاول أن يكون كاشفًا ومحذرًا من مغبة ذلك، داعيًا إلى حكم ودولة قوية، تتخلص من ذراعها الطبقي ورجالها المترهلين، وأن تنتبه إلى خطورة الغضب الأعمى للمواطن المغيَّب، فذلك هو العدو الحقيقي لها، حتى في "الإرهاب والكباب" سخر من وصفة الأمن الجاهزة بأن مُجمع التحرير وقع في أيدي جماعة إسلامية، لمجرد أن شخصًا ملتحيًا قال "ثكلتك أمك" بينما لم يكن الرجل أكثر من موظف بائس وجبان. لقد كان وحيد حامد بونابرتيًا في رؤيته السياسية، يطمح إلى حكم قوي يضرب يمينًا ويسارًا، ويحمي المواطن من أصحاب المصالح والفاسدين، وقوى الرجعية في آنٍ، ليحافظ على جهاز دولة قوي، ويمنح البسطاء خبز يومهم ويعتمد عليهم في حُكمه، لا الساسة ولا الأغنياء ولا المسؤولين البيروقراطيين، الذين أشبعهم وحيد حامد في أفلامه سخرية أكثر مما فعل مع الإسلاميين بكثير.

كان وحيد حامد، في تقديري، ومن بين كل التجارب التاريخية في الحكم معجبًا كبيرًا بتجربة لويس نابليون بونابرت مؤسس الإمبراطورية الفرنسية الثانية، وأعتقد أن هذه التجربة اعتنقها بالكامل في الثمانينيات والتسعينيات مع التدهور الواضح في الخدمات، ووسط الصراع الدائر بين ما تبقى من نظام ثورة يوليو وبيروقراطيته ورجاله، وأبناء انفتاح السادات، ورجال الأعمال في عهد مبارك، وهو الصراع الذي يلتهم جهاز الحكم ويفتح شقًا في جداره قد ينفذ منه الإسلاميون للحكم، مستفيدين من الطاقات الرجعية المتوافرة في داخل مؤسسات الدولة وتنتظر تحريرها.

بونابرتية مصرية

لكن وحيد حامد كان يريد بونابرتية مصرية أشبه بتجربة محمد علي في الحكم، وليست تجربة عبد الناصر، على أن تنزع للتحديث واحتكار القوة والسلاح ويحركها عقل واحد، حتى وإن كانت بالطبع تجربة غير ديموقراطية، فالديموقراطية قد تأتي بالرعاع، والثورة قد تنفجر في لحظة غضب ثم لا تصل إلى شيء سوى طلب الكباب، وهو نفس الوصف الذي أطلقه هيكل في تصريح شهير له عقب رحيل حسني مبارك عام 2011، قائلًا إن شباب ثورة يناير كمن وصلوا إلى القمر ثم طلبوا كيلو كباب.


اقرأ أيضًا: وحيد حامد: أو البحث عن الأيام "المفقودة" التي أحبها

 

 

الندوة الأخيرة لوحيد حامد في مهرجان القاهرة- ديسمبر 2020. الصورة: مروان حامد- فيسبوك

في رؤيته السياسية تلك، كان وحيد حامد في خماسيته السينمائية التي أشرت إليها، ضد الجميع؛ ضد المثقف الغارق في الشعارات لكنه لا يقدم على خطوة لتحقيقها، مثل أحمد راتب في طيور الظلام، والنموذج الآخر المهووس بالغرب ويتابع كل ما يأتي منه لكنه يردد هذا الكلام مثل الببغاء في نموذج "في أوروبا والدول المتقدمة" في فيلم الإرهاب والكباب.

وكان بشكل أكبر ضد البيروقراطي الفاسد معدوم الكفاءة مهما كان منصبه أو وضعه في دولاب الدولة، اﻷسيوطي ضابط أمن الدولة (مصطفى متولي) في اللعب مع الكبار، ووزير الداخلية في الإرهاب والكباب، والوزير رشدي الخيال في طيور الظلام، ووزير الصحة في النوم في العسل، ومعهم كل رجال الأعمال ممن يحيطون بالسلطة ويتآلفون معها، وبالطبع الإسلاميين وإن نالهم من الهجوم نصيب أقل دائمًا.   لهذا كله، لم يكن وحيد حامد من المرحبين بثورة يناير، إذ كانت تمثل كابوسه الذي سعى للتحذير منه، ولم كذلك مستغربًا عليه أن يدعم بقوة ووضوح كل الإجراءات السياسية بعد عام 2013، لكن دعمه لم يستمر طويلًا، وبدأ يظهر تبرم وحيد حامد من التضييق وتغول الرقابة وغيرها، فالتجربة التي تمناها كانت شيئا مختلفًا على الأرض، والواقع مثل السينما، لا يمكن دون مبرر درامي  إسقاط سمات وإمكانيات شخصية على أخرى، وبشكل عام ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.