كنت في زيارة لمستشفى العريش لزيارة والد صديق وعندما عدت للبيت قبل نهاية النهار؛ رن جرس الهاتف فإذا بصديقي الذي كنت معه في المستشفى يبلغني رسالة "مصطفى.. البقية في حياتك. حسن بيقول لك إن أشرف العناني تعيش إنت".
تلك اللحظة تصارعت في خيالي رصاصات طائشة. قمر ينكسر. شجرة الكينيا العتيقة التي تتوسط الشيخ زويد وهي تسقط. غيمة سوداء تطارد طيفًا أبيض، أو جبل الحلال يفقد إحدى قممه. كما أنني عرفت حينها فقط معنى السؤال الذي كان بيننا عند اللقاء الاخير. فلم يكن سؤالًا بقدر ما كان طلب نجدة واستغاثة أخيرة من قلب انهارت أعمدته في معبد لحب سيناء. أو أنه كان يبحث عن قبلة حياة.. ربما.
قبل ثلاثة أسابيع من وفاته سألني: كيف يا مصطفى مفيش حاجة قريبة أو نهاية للي بيحصل؟.
بدا السؤال فى ظاهره هزيلًا، خاصة وأن مَن يردده دائمًا هم الأهالي الذين يتحرون نهاية للأوضاع التي يعيشونها منذ العام 2013، واعتقادي أن صديقي له من الرؤية ما يجعله يمتلك مساحات قلبية وعقلية هائلة تستوعب ما حدث ويحدث وسيحدث. تسرّعت وقلت له لا أنتظر هذا السؤال منك. فردّ "يعني إنت ممكن تكون بتعرف بحكم عملك الصحفي.. أو هي أمنيات" وتابعنا حديثنا في مسارات أخرى بعد أن تجاوزنا السؤال.
بعد أن فقد دكانه وبستانه واختياره مجال "الحكايات"؛ واظب على التنقل من البيت إلى العمل دون أن يغادر الشيخ زويد ربما لمرة أو مرتين طوال الأعوام التي انقلبت فيها أمور سيناء رأسًا على عقب؛ بقى وفيًا للمكان الذي فيه تشكلت فصول حياته ومنه أطلق قصائده وكتاباته.
على عجل ارتديت ملابسي وانطلقت إلى الشيخ زويد فلم أطيق الانتظار في العريش لصباح جديد، وقد شارفت ساعات حظر التجوال على بدايتها. تمكنت من اللحاق بسيارة والوصول عشية إلى منزلي هناك. وأمام ترتيبات أسرته وخيارات أهله؛ علمت أنهم قرروا نقله إلى مقابر الأسرة في عزبة العنانية في محافظة الدقهلية.
في هذا الوقت كانت قد دخلت مدينة الشيخ زويد في فترة حظر التجوال، وعندما علمت أنه سيدفن هناك؛ قررت أن أنال لحظة وداع. ذهبت إلى منزل أهل زوجته حيث الجثمان، وبصوت منخفض قلت "نعم أنا هنا يا صديقي. و داعًا".
انطلقت سيارة الإسعاف قبل منتصف الليل بتنسيقات أمنية خاصة. في السيارة رافقه الزوجة والابن الأكبر زياد الذي كان يحمل كفن أبيه، قبلها بعام كان زياد يحصد المركز الأول على مستوى الإدارة التعليمية رغم انعدام الإنترنت وعدم جدوى جهاز التابلت، كما صعد لسيارة الإسعاف شقيقاه مهند ولؤي، والخال حسن وهم مَن يمثلون مصدر دفئ في تلك الليلة الباردة.
إذن هي لحظة الرحيل المهيب. تنطلق السيارة في الشوارع الصامتة الخالية من البشر. تمر بجوار شجرة كينيا معمرة زرعها الإنجليز قرب مسار خط السكة الحديد المنقرض. في يوم من الأيام كنا نمرّ سوية بالقرب منها فقال لي "نحن يا صديقي كطائر الفينيق، كلما يعتقد البعض أنه هلك يخرج بهيًا قويًا كما كان". قالها تزامنًا مع الظروف بالغة الصعوبة التي يعيشها أهل الشيخ زويد وخروجهم، وخروجها، من معركة 1 يوليو 2015 الشهيرة بأقل قدر من الخسائر.
خارج الغرفة قال لي أحد مرافقيه "في شقته بحي الكوثر شعر أشرف بعد عودته من عمله بحرقان في الصدر. لم يبدُ شيئًا كبيرًا. فضّل أن يخلد لنوم القيلولة على تناول وجبة الغداء. استلقى على سريره الذي كان يحرص على أن يغلق شباكًا مجاورًا له، لم يفعلها هذه المرة كعادته اليومية. و فجأة وجد نفسه محاطًا بأبنائه مخترقين طقوسه اليومية. فقال لهم أنتم حولي وأنا عايز أنام. وأغمض عينيه. طلبوا سيارة الإسعاف، والباقي معروف. هكذا غادر العناني كما عاش مرتبًا مؤدبًا.
أشرف العناني الذي حط الرحال في العريش في ثمانينيات القرن الماضي، ثم استقر في الشيخ زويد حيث تزوج من إحدى عائلاتها. امتهن في الشيخ زويد مهنة العطارة وفتح محلًا قرب ميدان الشيخ زويد، لا يزال موصد الأبواب حاليًا، بعد أن ناله ما نال المكان من آثار الحرب والتفجيرات. وبقيت اللافتة كما هي مثبته تحمل اسم عطارة العناني.
الجزء الخلفي من المحل كان أشبه بمكتب للعمل، ومنه أدار مدونته الأشهر وربما أولى مدونات شبه الجزيرة سيناء حيث أنا، والتي كانت تضم قصصًا متنوعة رصدها وعايشها خلال فترة تجواله الدائم في شبه الجزيرة. وعند نهايات العام 2012 أغلق المدونة وأصدر كتابًا بعنوان "سيناء حيث أنا.. أرض التيه" ضم بعضًا مما نشره في هذه المدونة.
تواصل سيارة الإسعاف مسيرتها الجنائزية بعكس مسار رحلة العناني: تمر بـ قرية النخلات الخالية تمامًا من البشر. هنا عاش لفترة ومنها شكّل علاقاتٍ بأبنائها رسمت في وجدانه شغفًا متجددًا لتفاصيل حياة البادية. وبعدها قرية الغراء التي تخلو أيضًا من سكانها، وفيها كان يتردد على مسكن صديقه الشاعر الطبيب أحمد السواركة، وينسج علاقات إنسانية مع أهلها، مشكّلًا إدراكه الكامل لطبيعة الأماكن جغرافيًا وثقافيًا. وبعدها تلوح قرية الخروبة التي عمل في مكتبها الصحي فترة من الزمن، وتخلو هي الثالثة من البشر.
غابت عن طريق العناني نخلة وحيدة كان ممتنًا لرؤيتها دائمًا باعتبارها أنيسًا للعابرين ولكن سنوات الحرب غيّبتها، فقُطعت.
استقرت سيارة الإسعاف في العريش و كانت ليلة المبيت الأولى. هنا العريش التي اشتبك فيها مع أندية الأدب، وفيها جال مستكشفًا النفس والمكان برفقة صديقه الشاعر محمد المغربي ودائرة أصدقاء الأدب: سالم شبانة وسامي سعد وعبد الله السلامة وحاتم عبد الهادي وحسونه فتحي وآخرين، ولكنه كان يرى فيها خللًا ما.
تنطلق السيارة مجددًا في النهار. نمرّ على عشش النازحين في طريق ما بعد العريش حتى مشارف محافظة الإسماعيلية. هنا يعيش الآن سكان تلك القرى المهجورة التي مرّ عليها جثمان العناني في الليل، وكأن القدر يؤنس طريقه في رحلة الوداع الأخيرة حتى نهاية حدود سيناء، أو كأنه هو الذي يودّعهم.. فالجميع أصابته ندوب الحرب.
تعمق العناني في حب سيناء، ولم يكتف بالثبات مراقبًا للأماكن. فعندما استقر بشقته في حي الزهور التي كان موقعها المرتفع يتيح له النظر بعيدًا حتى تلوح خيالات جبل الحلال وسط سيناء، والذي كان بمثابة نداهة تدعوه للكتابة: كتب عن هذا الجبل. زار الحسنة ونِخِل حيث كان يقيم صديقه شاعر البادية حسين التيهي الذي اعتبره خليفة شاعر البادية الأشهر عنيز أبو سالم، أمير شعراء البادية.
لم تكن وسط سيناء نهاية خطوات العناني جنوبًا؛ إذ نسج علاقات مع أبناء الشمال الذين كانوا يصلون لمضارب قبائل الجنوب للتجارة ورافقهم ليضيف إلى موسوعته طباع القبائل والأصول ويكتب عن أقدم القبائل التي توطنت شبه الجزيرة.
في دكانه خلف أرفف العطارة التي تعبق رائحتها المكان؛ استقبل أشرف العناني أصدقاءه ومنهم صحفيين ليعرفوا قصص سيناء، وفي الأشهر الأخيرة من العام 2013 ضربت أكثر من سيارة مفخخة جدران قسم الشرطة المقابل للمحل على بعد عشرات الأمتار فقط من ميدان الشيخ زويد الرئيسي، فأصابت المحال والبيوت حتى تم إغلاق الميدان و الشوارع المحيطة نهائيًا دون أن يتمكن الأهالي من نقل أغراضهم، وفقد العناني دكّان عطارته ومكتبه ومكان قراءته.
عندها؛ اتجه إلى رعاية بستان صغير امتلكه قرب حي الزهور الذي كان على تلة عالية مطلًا على البحر شمالًا ومقابر المدينة جنوبًا، وكأنها الحياة بين حافتي الموت والحياة. حرص على تنويع أشجار البستان. وجد فيه واقعًا أفضل من بقية تفاصيل الحياة خارج أسواره، حتى تم منعه نهائيًا من الوصول إلى البستان نظرًا لوجود معسكر أمني ملاصق للحي.
ذبلت الأشجار وماتت مساحة أخرى في قلب العناني. لم يتوقف فرحل لاحقًا من حي الزهور إلى حي الكوثر لتمكين أبنائه من البقاء قريبًا من مدارسهم بعيدًا عن المحظورات الأمنية، وظل ملتزمًا بالبعد عن وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي مفضلًا أن يختبر قدرة قدميه كل يوم للتنقل إلى عمله الوظيفي في المكتب الصحي للمدينة.
أشرف الذى بقي على خط ثورة 25 يناير، دائمًا ما كان يردد "لا تيأس يا صديقي، فالثورة محظوظة بغباء أعدائها"، وظل هذا رهانه كموقف ثابت حتى في أحلك اللحظات عند التنازل عن تيران وصنافير والحديث عن صفقة القرن، طل يردد "خليهم يلعبوا في الخرائط كما يحلو لهم. خليهم يشيلوا الليلة كلها".
قصيدة "مزايا أن أيأس" من ديوان صحراء احتياطية. تصوير: محمد عليّ الدين.
عن أشرف العناني
الكاتب والشاعر أشرف العناني، يحمل اسم أشرف أنور أحمد عبد الرحمن، المولود في 13 أكتوبر 1964، أمضى جزءًا من حياته متنقلًا مع الأسرة بين عرب الرمل بالمنوفية، وبنها بالقليوبية قبل أن يستقر في سيناء بشكل نهائي من بداية الثمانينيات حتى وفاته عن عمر يناهز 55 عامًا قبل نحو أسبوع حيث دفن فى مقابر الأسرة بكفر العنانية في محافظة الدقهلية.
للعناني ديوان عزف منفرد، صادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة 1996، وصحراء احتياطية، عن دار شرقيات في ربيع 2012، وكتاب يوميات بعنوان سيناء حيث أنا.. سنوات التيه، وأبحاث ودراسات عن تاريخ سيناء.
كتب فى العديد من المواقع الشعرية الإلكترونية والصحف اليومية والأسبوعية ومنها الحياة اللندنية وأخبار الأدب والقاهرة، وتولى العديد من المناصب في تشكيلات نوادي الأدب والمؤتمرات الثقافية، معتقدًا أن تلك المؤتمرات ما هي إلا تسخين السطح تحت أقدام المثقفين، كقصة الكتاكيت الشهيرة كما يقول، ليبدو الأمر في ظاهره وكأن هناك أجواء ثقافية حقيقية.