قبل دقائق من بلوغ الرابعة عصرًا كل أربعاء، تحدث حركة غريبة لا يلحظها المارة العاديون في شارع زكريا أحمد في وسط القاهرة. إذا نظرت بعيني طائر، سترى شبابًا وشابات يحملون كتبًا، أو حقائب صغيرة مليئة بالكتب، ويتدفقون من شوارع الألفي، أو رمسيس، أو الجمهورية في اتجاه مبنى قديم مكون من ثلاثة طوابق، هو مبنى مؤسسة التحرير، حيث يقع مقر جريدة المساء. أمام الاستعلامات، يتبادلون الابتسامات والتحايا وبعض الأخبار أثناء تسجيل أسمائهم وبياناتهم، قبل الصعود إلى الطابق الثالث، حيث ينتظر الأستاذ.
لن تخطئ عيناك الأستاذ محمد جبريل بمجرد أن تجتاز قدماك باب صالة التحرير، فهو ذلك الرجل ذو الشعر الأبيض، الذي تراه موليًا ظهره للباب، جالسًا على رأس طاولة كبيرة، كانت قبل قليل من وصولك طاولة التحرير المركزي لصحيفة المساء، وستصبح خلال دقائق معملًا أسبوعيًا لتفريخ أهم مواهب جيل الثمانينيات في الشعر والرواية والنقد والقصة القصيرة. هنا ندوة المساء الأسبوعية.
تقول الصفحة المخصصة لمحمد جبريل على ويكيبيديا "روائي وقاص مصري ولد في الإسكندرية في 17 فبراير 1938، وتجاوزت مؤلفاته خمسين كتابًا. كان أبوه محاسبًا ومترجمًا له مكتبته الخاصة. وقد أفاد محمد جبريل من مكتبة أبيه في قراءاته الأولى، ويعتبرها سببًا أساسيًا في حبه للأدب. بدأ حياته العملية سنة 1959 محررًا بجريدة الجمهورية مع الراحل رشدي صالح ثم عمل بعد ذلك في جريدة المساء. عمل في الفترة من يناير 1967 إلى يوليو 1968 مديرا لتحرير مجلة الإصلاح الاجتماعي الشهرية، وكانت تعني بالقضايا الثقافية. عمل خبيرًا بالمركز العربي للدراسات الإعلامية للسكان والتنمية والتعمير. عمل رئيسًا لتحرير جريدة الوطن بسلطنة عمان لتسع سنوات"، قبل أن يعود ليعمل رئيسًا للقسم الثقافي في جريدة المساء.
ولكن الصفحة لا تشير، بأي حال، إلى الدور الذي لعبه محمد جبريل في خدمة الثقافة والأدب في مصر بتأسيسه ندوة المساء الأسبوعية، التي جعلت منه، في تقديري، آخر كشافي المواهب الأدبية الأحياء في مصر الآن، هو والأستاذة هدى العجيمي، مقدمة برنامج مع الأدباء الشبان على موجات إذاعة البرنامج العام، أطال الله عمريهما.
يشعر الكثير من أدباء جيلي الستينيات والسبعينيات بامتنان غير محدود تجاه الأديب الأستاذ عبد الفتاح الجمل، لأنه ساهم في اكتشاف مواهب أبناء هذين الجيلين، وساهم في نشر أعمالهم في صفحته الثقافية في جريدة المساء. على المقعد نفسه، جلس محمد جبريل ليكمل رسالة الجمل، ليس بالنشر، ولكن بإتاحة مساحة للحوار والتفاعل بين أدباء كانوا يتحسسون خطواتهم الأولى في عالم الأدب، ويحتاجون إلى التحقق من كونهم يمشون على الطريق الصحيح، لا بتلقي النصائح، ولكن بتفاعل التجارب، وبالمناقشات المفتوحة بين أذواق مختلفة من صانعي الكتابة ومتلقيها. هذا بالضبط ما وجده أبناء جيل الثمانينيات في ندوة المساء.
كان ذلك الزمان عامرًا بكشافي المواهب الأدبية، ففي الطابق الثاني من مبنى مؤسسة التحرير، كان هناك الأستاذ الشاعر محسن الخياط، الذي كان يقدم صفحة أسبوعية بعنوان أدباء الأقاليم، شكلت نافذة مهمة للكثير من المواهب الأدبية البعيدة عن مركزية القاهرة وأضوائها. ولم يكن غريبًا أن يمر مرتادو ندوة المساء الأسبوعية على مكتب الأستاذ محسن الخياط، بعد نهاية ندوتهم، ليلقو التحية على الشاعر الكبير، أو ليتركوا نصًا قد ينال نصيبه من النشر.
وغير بعيد عن مبنى مؤسسة التحرير، كان هناك مقر مجلة إبداع التي تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب. يقع المقر أعلى مكتبة دار المعارف في تقاطع شارعي شريف وعبد الخالق ثروت. كان النشر في إبداع في ذلك الوقت يمثل طموحًا كبيرًا لكل أديب، ليس في مصر فحسب، ولكن في كل البلاد العربية تقريبًا، لأنه يعني اعترافًا بمولد أديب، أو تكريسًا لتأثيره في عالم الأدب. احتلت إبداع مكانتها هذه ما طاقم تحريرها الذي كان يرأسه الدكتور عبد القادر القط، الناقد والأكاديمي الكبير، ويضم مديريّ تحرير مهمَّين هما الناقد الأستاذ سامي خشبة والقاص الأستاذ عبد الله خيرت، رحم الله ثلاثتهم، وكان لهم فضل اكتشاف الكثير من المواهب الأدبية الجديدة، على اختلاف ما يكتب أصحابها وتنوعه.
وعلى بعد خطوات من مقر مجلة إبداع، في 36 شارع شريف، كان هناك مقر مجلة الشعر التي تناوب على رئاسة تحريرها الكثير من كشافي المواهب، من بينهم الدكتور القط نفسه، ثم الشعراء عبده بدوي وفتحي سعيد وأحمد هريدي الذي شرفت بالعمل معه محررًا لباب "بريد القراء"،قبل أن أشرف بالعمل سكرتيرًا لتحرير المجلة مع أبي الروحي الروائي الكبير الراحل خيري شلبي. تستطيع أن تتوقف كثيرًا أمام خيري شلبي كواحد من أهم كشافي المواهب الأدبية، إذ كان مكتبه في مجلة الإذاعة والتليفزيون قبلة للكثير من الموهوبين الذين فتح أمامهم أبوابًا كثيرة، وكنت ممن أسرني بأفضاله الكثيرة على الجميع.
في ذلك المناخ الثقافي، عاد محمد جبريل من عمله رئيسًا لتحرير صحيفة الوطن في سلطنة عمان. كانت الحياة الأدبية في مصر تشهد الكثير من التغيير. كان هناك جيل جديد من الأدباء يولد، ويتشكل من رحم جيل السبعينيات، وضده في آن. وفي الوقت نفسه كان هناك العديد من الندوات الأسبوعية التي تعقد في أماكن مختلفة: ندوة الفجر بقيادة الراحل الدكتور يسري العزب، وندوة جمعية الأدباء، وندوة نادي القصة في شارع قصر العيني، وندوة قصر ثقافة الغوري التي كانت تجمعًا لمن تبقى من أشهر الزجالين المصريين، وندوة أتيلية القاهرة للكتاب والفنانين يوم الثلاثاء من كل أسبوع. وكان الجيل الشاب من الأدباء ينتقل من ندوة إلى أخرى، محملًا بالكثير من القصص والقصائد والرؤى المتمردة، والنقاشات الحادة التي لا تفسد للود قضية. ووسط كل هذه الندوات احتلت ندوة المساء الأسبوعية مكانة خاصة، بفضل الروح التي أضفاها عليها محمد جبريل.
اختار الأستاذ جبريل ألا يكون وصيًا على ندوته، واكتفى بدور المُيسّر الذي ينظم مرور الآراء بين الحاضرين، دون أن يعكس آراءه الخاصة في الكتابة والأدب. وفوق ذلك، كان الاحترام الذي يتعامل به الأستاذ جبريل مع الأدباء الشبان درسًا مهمًا للحضور في أهمية الاختلاف وثرائه كمصدر للتعدد والتنوع الثقافيين. وربما كان هذا هو السبب في حرص الكثيرين على عدم تفويت تلك الندوة، حتى أن الكثير من سكان الأقاليم القريبة من القاهرة كانوا يحضرون إليها خصيصًا، وكنت أحرص، حال كوني في بلدتي في الصعيد، على ركوب قطار الخامسة صباحًا، لألحق بالندوة في الساعة الرابعة من يوم الأربعاء.
اجتمعت في ندوة المساء أصوات كثيرة لشعراء وأدباء أحدثوا تغييرات مهمة في مسيرة الأدب المصري في النصف الثاني من عقد الثمانينيات وبعده. كان هناك مجدي الجابري وصفاء عبد المنعم وشحاتة العريان، والسماح عبد الله الأنور وسعيد نوح حاتم رضوان، وسيد الوكيل ويسري حسان ومؤمن أحمد، وعماد غزالي ومحمد الحسيني ورضا العربي، وأشرف أبو جليل وعصام أبو زيد وعلية عبد السلام، وآخرون. وكان المشهد في صالة تحرير المساء يوم الأربعاء أشبه ما يكون بمسرحية ليلى والمجنون للشاعر الكبير صلاح عبد الصبور، إذ نشأت فيها علاقات حب، ونمت في رعاية الرجل الذي أحب الجميع، وأحبه الجميع.
لماذا أكتب عن محمد جبريل الآن؟
ساءني، في مارس الماضي، أن يصل الأمر إلى حد توجيه نداءات للمسؤولين لعلاج الرجل الذي فتح مكتبه وبيته لجيل كامل من الموهوبين. ساءني أن يصل بنا الأمر إلى حد عدم معرفة ما قدمه أشخاص مثل محمد جبريل من خدمات للثقافة والأدب في مصر. وساءني أن يصل العبث إلى حدوده القصوى قبل شهر، عندما أصدرت محكمة حكمًا غيابيًا بالحبس على الأستاذ، في قضية لا ناقة له فيها ولا جمل، ولا تقل عبثا عن عدم معرفتنا بفضله على أجيال منحها من روحه الكثير من الثقافة، والكثير من الأدب.
صحيح أن الأستاذ جبريل تلقى العلاج، وعوفي من مرضه، وصحيح أن القضية العبثية التى كان مهددًا بالسجن فيها حُفظت، لكن الموقفين يطرحان أسئلة كثيرة حول الكيفية التي ترد بها بلادنا الجميل لحراس ثقافتها مثل الأستاذ محمد جبريل والكثير غيره.