برخصة المشاع الإبداعي: البيت الأبيض، فليكر
بايدن وأوباما في المكتب البيضاوي

السيسي وبايدن: أين تنتهي الضغوط؟

منشور الثلاثاء 17 نوفمبر 2020

في برنامجه التلفزيوني باختصار تحدث أستاذ العلوم السياسية معتز عبد الفتاح عن مخاوف النظام المصري إزاء تولي جو بايدن الحكم في الولايات المتحدة. وبعيدًا عن الشق الساخر من حديثه الخاص بـ "الضرب على القفا واللعب في المناخير"، فالرجل لخص مخاوف الدولة في أسئلة محددة ستطرحها الإدارة الأمريكية الجديدة على نظيرتها في مصر: "عندكم أحزاب؟ عندكم مجتمع مدني؟ عندكم حرية رأي؟ بتعملوا إيه بالمعونة اللي بنديها لكم؟ إيه ظروف السجن عندكم؟".

لم يمض أسبوع على حديث عبد الفتاح عن تحركات للدولة المصرية ورغبتها فتح قنوات للاتصال مع الإدارة الجديدة، حتى أعلن موقع متخصص في متابعة جماعات الضغط في العاصمة الأمريكية واشنطن، عن تعاقد مصر مع شركة علاقات عامة مقابل 65 ألف دولار شهريًا لتشكيل لوبي يدافع عن المصالح المصرية فور فوز بايدن بالانتخابات الأخيرة.

قلق النظام المصري من وصول الديمقراطيين للحكم يأتي من وعيه بنقاط الخلاف المنتظرة مع الإدارة الأمريكية الجديدة والتي يمكن اختزالها في كلمة: الحريات، وهو توجس له ما يبرره، فالمؤشرات تشي بوضوح عما هو قادم.

في الثالث عشر من يوليو/ تموز الماضي غرّد جو بايدن منددًا بوضع الحريات في مصر، معلنًا أنه لن يكون هناك شيكات على بياض بعد الآن لـ "ديكتاتور ترامب المفضل"، قاصدًا السيسي الذي نعته ترامب بهذا الوصف في وقت سابق. وفي خطابها الأول احتفالًا بالنصر أكدت كامالا هاريس نائبة الرئيس الأمريكي المنتخب على أن الديمقراطية لا بديل عنها.

 

السؤال الآن؛ ما هي أوراق الضغط التي تستطيع بها واشنطن إجبار القاهرة على تعديل مسارها؟ وهل سترضخ القاهرة فعلًا لتلك الضغوط أم أن النظام المصري لديه ما يمّكنه من رفض التوجهات الجديدة للبيت الأبيض والاستمرار قدما في نهجه الحالي مع بعض التعديلات والمناورات؟  

قبل الإجابة عن السؤال السابق من المهم التذكير بأن الإدارات الأمريكية على اختلافها، ديمقراطية كانت أم جمهورية، تتنازعها مدرستان، الأولى ترى أن دعم الحريات ومساعدة المجتمع المدني في تلك البلدان سوف يقلل من الاحتقان الذي لا يفرز سوى إرهابيين، ينفجرون في النهاية في وجه أمريكا والغرب. نذكر هنا كوندوليزا رايس الجمهورية، وهيلاري كلينتون الديمقراطية.

المدرسة الثانية: تؤمن أن وجود أنظمة قوية ومسيطرة على الأمور هو الضامن الحقيقي لاستقرار تلك البلدان ومجابهة الإرهاب، وأن الكتالوج الغربي لا يصلح للتطبيق بحذافيره في كل الدول، فأهل مكة أدرى بشعابها. ونذكر هنا دونالد ترامب الجمهوري، وللمفارقة جو بايدن نفسه وقت أن كان نائبًا للرئيس عام 2011.

انتقالًا للحظة الحالية؛ فالفتور بين الديمقراطيين والسيسي بدأ مبكرًا قبيل الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016 حين هاجمته هيلاري كلينتون بوضوح واصفة نظامه بـ "الديكتاتوري العسكري"، وهو ما دفعه لإلقاء رهانه على المعسكر الآخر معلنًا بوضوح دعمه للمرشح الجمهوري قائلًا "لا يوجد شك دونالد ترامب سيكون قائدًا قويًا" وذلك أثناء لقائه التلفزيوني مع شبكة CNN الإخبارية، على هامش مشاركته في أعمال الدورة الـ71 للجمعية العامة للأمم المتحدة.

كسب السيسي رهانه وأصبح ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، ونعمت القاهرة بعلاقة دافئة مع واشنطن طيلة الأربع سنوات الماضية، ساهمت إلى حد كبير في دعم الاعتراف الدولي بالنظام الجديد وترسيخ أقدامه، كما نجح ترامب في وقف محاولات الكونجرس فرض عقوبات على مصر على خلفية ما وصف بـ انتهاك صارخ لحقوق الإنسان، فضلًا عما بدى دعمًا، ولو نسبي، للجانب المصري في ملف سد النهضة حين قرر ترامب إيقاف المساعدات المالية لأديس أبابا، ثم تصريحه أن مصر قد تفجر هذا السد.

ومع اقتراب الانتخابات الأخيرة  ظهرت أزمة جديدة بين القاهرة والديمقراطيين حين نشرت شبكة CNN في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول الماضي تقريرًا عن تحقيقات فيدرالية جرت حول حقيقة حصول حملة دونالد ترامب على 10 ملايين دولار من أحد البنوك الحكومية المصرية قبيل انتخابات 2016، وهي التحقيقات التي عمل عليها المحققون، وفقا للتقرير، لثلاثة أعوام لكنهم لم يستطيعوا في النهاية إثبات التهمة. ورغم براءة الطرفين رسميًا، إلا أن تلك القضية وما تبعها من تسريب للصحف، قد تكون أحد عوامل زيادة التوتر في علاقة السيسي بالإدارة الجديدة، التي ليست في حاجة لمزيد من التوتر خصوصًا بعد تصريح بايدن عن "ديكتاتور ترامب المفضّل".

تداعيات وصول بايدن للحكم

الاحتفاء العام من قِبَل قوى المعارضة المصرية بوصول بايدن للحكم والمتزامنة مع حالة الضيق والقلق من الموالين للنظام، تعطينا انطباعًا بأننا أمام أزمة كبرى قد تفضي لتغيير شامل في المشهد السياسي المصري.

 لكن في الحقيقة ذلك غير وارد. فالضغوط الأمريكية لها حدود، وواشنطن لن تغامر بخسارة مصر كحليف استراتيجي هام في الإقليم، ومهما خفت الدور المصري وتراجع ستظل القاهرة محطة ارتكاز هامة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، قد تمارِس الأخيرة عليها ضغوطًا إلى أبعد نقطة ممكنة، لكنها لن تغامر بخسارتها كليًا. ولذلك فإن الحديث عن الإطاحة بنظام السيسي يبدو عبثيًا ولا يستقيم مع معطيات المشهد الحالي. فالمعارضة المصرية مفتتة ولا يوجد بها كيان متماسك يمكن التنسيق معه أو التعويل عليه كبديل حال سقوط النظام، حتى جماعة الإخوان المسلمين انقسمت على ذاتها ولم تعد ذلك التنظيم المهيمن على المشهد كما كان الحال في 2012. والشخصيات التي كانت أسماءً محتملة كحلول وسطية مثل عمرو موسى أو محمد البرادعي ذهب بريقها بفعل السن والاختيارات الخاطئة.

أضف إلى ذلك نجاح السيسي في إحكام قبضته بدرجة كبيرة على أجهزة الدولة النافذة، فضلًا عن تمتعه بظهير شعبي لا يمكن تجاهله، بالطبع قلت شعبيته مقارنة بيوليو 2013، لكنه يظل حتى الآن بالنسبة للكثيرين خيارًا للاستقرار في مقابل الفوضى والانفلات الأمني.  

إذن ما هي الأوراق التي تملكها الولايات المتحدة؟

الورقة الأبرز في يد واشنطن هي المعونة والتي بدأت منذ عام 1978 في إطار اتفاق السلام مع إسرائيل، والتي تنقسم إلى قسمين؛ الأول: عسكري ومقداره  1.3 مليار دولار، لا تتلقاها القاهرة نقدًا بشكل مباشر، ولكنها تودع في بنك الاحتياطي الفيدرالي، ويتم السحب من ذلك الحساب لشراء السلاح الذي تحتاجه مصر من مصانع أمريكية. القسم الثاني من المعونة اقتصادي وينفق منه على دعم مشاريع التنمية المجتمعية. وخفضت الإدارات الأمريكية هذا القسم على مراحل من 800 مليون دولار إلى 250 مليون دولار في الوقت الحالي.

ظلت المعونة الأمريكية ورقة ضغط على مصر تستخدم عند الحاجة إلى ذلك. ففي عام 1997 ونتيجة لاختلاف بين القاهرة وواشنطن على خطوات عملية السلام في الشرق الأوسط؛ قرر مجلس الشيوخ إيقاف المساعدات لمصر، ثم التراجع عن ذلك بعد تفاهمات على نقاط الخلاف. وفي 2004 طرح الكونجرس مشروعًا لخصم ما يقرب من 570 مليون دولار من المساعدات العسكرية وتحويلها إلى مساعدات اقتصادية على خلفية عدم تعاون القاهرة بشكل كافٍ في ملف مكافحة الإرهاب ومعاداة السامية، وعادت نفس الفكرة للظهور مرة أخرى بعد أحداث 2013 حين عُطلت المساعدات بشكل مؤقت، وامتنعت واشنطن عن تسليم طائرات F16 لمصر بسبب الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي.

إلا أن الضربة الحقيقية جاءت على يد الرئيس الأسبق باراك أوباما الذي لم يكن على وفاق مع نظام السيسي، إذ نجح في إجراء تعديل على نظام المعونة العسكرية، عندما أوقف خاصية التدفق النقدي والتي كانت تسمح للجيش المصري بشراء أسلحة وقطع غيار بشكل فوري على أن يتم السداد من قيمة المعونة في العام القادم حال تعذر السداد.

وهل المعونة مهمة في حد ذاتها؟

الإجابة مركبة إلى حد بعيد. فأهمية المعونة لا تقتصر فقط على الأموال القادمة لمصر، لكنها تخلق حالة من التميز الدولي تدرك مصر أهميته، وتوقف ذلك يعني ضمنيًا أنك من العواصم المغضوب عليها، وهو ما سيكون له تبعات سياسية واقتصادية سلبية لا ترغب الإدارة المصرية في الوصول إليها. وبجانب الأموال تتيح جودة العلاقة مع واشنطن الحصول على دعم سياسي واقتصادي يساهم في تخطي كثير من العقبات. ولعل أزمة 1986 ما تزال حاضرة، حين حَلّ موعد سداد أقساط الديون، وتعثرت مصر في السداد جراء انهيار السياحة الناجم عن أحداث الأمن المركزي، والذي تزامن لسوء الحظ مع انخفاض سعر الدولار. وكادت مصر تدخل في أزمة اقتصادية كبرى لولا التدخل الأمريكي لدى صندوق النقد والبنك الدوليين لحل الأزمة على أن تتعهد مصر بتقليص الإنفاق الحكومي وتحرير القطاع العام، وهو ما حدث بالفعل بعد هذا التاريخ بنحو ثلاث سنوات.

كيف ستتعامل القاهرة مع الضغوط القادمة؟

هناك حالة قلق مفهومة ومنطقية داخل أروقة الحكم في مصر من غياب ترامب عن المشهد وصعود بايدن. وهو القلق الذي يظهر جليًا في الإعلام المصري وعبّر عنه الكثير من وكلاء السلطة، مثل تصريحات أحمد موسى الذي قال في برنامجه التلفزيوني: الديمقراطيين ما يحبوناش.

يدرك النظام المصري أن مميزات عهد ترامب لن تستمر، وأن هناك ضغوطًا سوف تمارَس على القاهرة في ملف الحريات بداية من قضايا المحبوسين على ذمة قضايا سياسية، مرورًا بالمجتمع المدني، وانتهاء بالصحافة والأحزاب. وربما لن تتوقف الضغوط عند تلك النقطة بل قد تتجاوزها لملفات أخرى تتعلق بالتسليح ومكافحة الإرهاب وقضايا إقليمية.

يعي النظام المصري هذا جيدًا، كما يعي قوة وفاعلية أوراق الضغط الأمريكي، لكن هناك نقطتين يرتكز عليهما النظام المصري في التعامل مع  الموجة الديمقراطية الزرقاء القادمة من واشنطن.

الأولى: أن إدارة بايدن تواجه مشاكل داخلية معقدة تتعلق بالصراع مع ترامب والجمهوريين، ومحاولته إعادة ترتيب البيت من فوضى الإدارة الحالية وهي مهمة لن تكون يسيرة في ظل ما يفعله ترامب من عدم اعترافه بالهزيمة بجانب الحضور القوي للجمهوريين في الكونجرس، والذين يتوقعون نصيبًا معتبرًا من كعكة الإدارة الجديدة، فضلًا عن التداعيات الاقتصادية الناتجة عن انتشار وباء كورونا والتي سوف تشغل حيزًا كبيرًا من اهتمام الإدارة الجديدة. وهو ما يعني أن الديمقراطيين أمامهم وقت ليس بالقليل قبل البدء في الالتفات للملفات الخارجية، مما يعطي القاهرة مساحة من الوقت لتدبّر سُبلها وإعادة تقييم الموقف.

النقطة الثانية هي أنه مهما ساءت العلاقات بين الإدارتين المصرية والأمريكية فإن الأمور لن تصل إلى نقطة الانفجار، وقد حدث سلفًا أن توترت العلاقة بين مبارك وبوش لدرجة الخشونة في التخاطب بين الرئيسين، على حد تعبير نبيل فهمي سفير مصر الأسبق لدى الولايات المتحدة، وذلك على خلفية التباطؤ في عملية السلام، فضلًا عن نقاط أخرى متعلقة بالإصلاح السياسي وملف الديمقراطية، وقد بلغ الصدام ذروته حين قرر بوش في سابقة غير معهودة الغياب عن الكلمة الافتتاحية للرئيس مبارك في مؤتمر شرم الشيخ عام 2008 ليرد مبارك بترك القاعة قبل بدء كلمة بوش. ورغم تلك الفجوة المعلنة، إلا أن الأمور لم تصل لنقطة القطيعة، وقد عبر عن ذلك حينها السفير الأمريكي لدى القاهرة فرانسيس ريتشاردوني في حديث اطّلع كاتب هذه السطور على تفاصيله، حينما قال ريتشاردوني: لن أكون السفير الأمريكي الذي يخسر مصر.

ورغم الأهمية النسبية للحقيقتين السابقتين؛ إلا أن النظام المصري لا يمكنه تجاهل أن هناك ضغطًا قادمًا في الطريق، وعليه فسوف يلجأ إلى محاولة خلق لوبي في واشنطن يدافع عن مصالحه مثلما فعل في 2013 حين تعاقد مع شركة العلاقات العامة Glover Park Group لمساعدته في تدعيم موقفه لدى البيت الأبيض، وهو ما يتكرر الآن مع شركة جديدة.

هنا؛ يتوقع أن تشهد مصر  إنفراجة في مجال الحريات، لكنها ستكون نسبية ودون إفراط حتى لا يبدو النظام بمظهر المهزوز أو الخائف فيتشجع معارضوه وينفرط العقد.

لا أحد يبقى في نفس مربعه السياسي لـ10 سنوات.. هذا مؤكد، لكن علينا ألا ننسي تصريح بايدن الشهير ليلة 28 يناير 2011 لمحطة PBS الأمريكية عندما رفض تنحي مبارك في مواجهة المظاهرات التي اندلعت ضده، كما عارض وصفه بالديكتاتور، قائلًا "هو ليس بديكتاتور، وإنما حليفنا".

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.