زال انتعاش ما بعد الاستحمام وحل محله الإحساس بالتكدير حينما نظرت ليلى، المضيفة الجوية، إلى حمالة صدرها وسألت نفسها: ينفع أنزل من غيرها؟، لكنها عادت لتصطدم بواقع زيّها المكون من بلوزة وبنطلون وجيليه، وطبيعة عمل تحتّم عليها الظهور بـ "مظهر لائق"، ووراء كل مظهر لائق حمالة صدر، أو هكذا تعودت.
قبل أكثر من 100 عام، وقفت ماري فيليبس جاكوب، (عرفت فيما بعد بكاريس كروسبي)، وقفة مشابهة لليلى وراودها نفس الإحساس، لكن هذه المرة كانت نظرتها تجاه الكورسيه الذي كان وقتها قطعة أساسية لملابس السيدات الداخلية، بدلًا من حمالة الصدر اليوم.
كانت ماري ذات التسعة عشر عامًا تستعد لحفل في بيتها وقررت ارتداء فستان جريء من الشيفون ورأت أنه من المستحيل توافقه مع الكورسيه المعدني بهيئته المشابهة للدرع. طلبت من خادمتها إحضار منديلين من الحرير وبعض الشرائط ذات اللون الوردي، واستطاعت بواسطة تلك الأدوات صنع نموذج استُخدِم بعد ذلك في صناعة حمالة الصدر المعاصرة، وحصلت ماري بعدها بثلاث سنوات، في نوفمبر/ تشرين الثاني 1914، على براءة الاختراع، وباعت هذا المنتج الجديد فيما بعد بـ1500 دولار، وهو مبلغ كبير وقتها، بحسب المصدر السابق.
ما فعلته ماري كان مربكًا لأربع فتيات مصريات قررن إعادة التفكير في ارتداء حمالات الصدر وشاركن مع المنصة أفكارهن بشأن "اختراع ماري".
الحياة بين الاختيارين
عادت ليلى* إلى عملها في شهر يونيو/ حزيران الماضي بعد انقطاع دام ما يقرب من شهرين قضتهم في العزل المنزلي بسبب إجراءات الوقاية من فيروس كورونا، وتخلت أثناء تلك الفترة عن ارتداء حمالة صدرها إلا إذا اضطرت الذهاب إلى السوبر ماركت.
على الرغم من فترة الانقطاع الطويلة عن ارتداء حمالة الصدر التي عاشتها ليلى في "راحة ورحرحة لبس البيت وبعيدًا عن خنقة حمالة الصدر والزي الرسمي للعمل" كما تقول؛ فإن فكرة التخلي عنه نهائيًا ليست محسومة بعد. "ما أعتقدش إني هاقدر أعيش كدة، فيه حاجات ماينفعش ألبسها من غيره؛ بس برضه فيه حاجات ممكن ألبسها من غيره" تقول ليلى. "حسب اللبس اللي أنا هالبسه ساعتها؛ هشوف إيه اللي يتوافق معاه وإيه اللي مايتوافقش. مش هابقى متقيدة إن كل مرة لازم أنزل ألبسه" تشرح المضيفة الجوية.
الآن وبعد العودة إلى العمل بعد انقطاع تحولت علاقة ليلى مع حمالة صدرها إلى "منطقة المساومة" إذا يتحدد قرار الاستغناء عنه من عدمه على نوع الملابس والطقس. "على سبيل المثال التيشيرتات والفساتين الضيقة يلزم لها لبس حمالة الصدر، في حين فساتين الصيف الفضفاضة، وبلوفرات وبالطوهات الشتاء لا تحتاجه" تصرّح ليلى. يشكل أيضًا حجم الصدر الذي أصبح معروف تجاريًا بـ "الكب سايز، أو حجم الكوب" أهمية من وجهة نظر ليلى، فأصحاب المقاسات الكبيرة لا يمكنهم الاستغناء عن حمالة الصدر بعكس أصحاب المقاسات الصغيرة يمكنهم العيش بدونه.
تتخيل ليلى الحياة بدون حمالة الصدر في عالم آخر لا يسكنه الرجال، تقول مازحة "أعتقد اللي اخترع حمالة الصدر اخترعه بسبب الرجالة وبهدف تجنيب الستات لفت نظر الرجالة وإنهم بيبصوا عليهم في الرايحة والجاية، فكان السر وراد هذا الاختراع طيب إحنا هانكتم على الموضوع ده ونخبيهم ونلبّس الستات حمالات صدر" تقول ليلى، مضيفة "كنا هننطلق كدة من غير أي حاجة لو مفيش رجالة في الحياة".
بعد ثلاث سنوات من حصول ماري على براءة الاختراع وفي خضم الحرب العالمية الأولى، ناشد مجلس الصناعات الحربية الأمريكية السيدات بالتوقف عن شراء الكورسيه حتى يمكن استخدام المعدن في الذخيرة والسفن الحربية. وبالفعل؛ تخلت السيدات الأمريكيات تدريجيًا عن الكورسيه الذي كان يتشكل آنذلك من المعدن واتخذوا اختراع ماري بديلًا عنه، وانطلقن للعمل في المصانع الحربية وغيرها. وبنهاية الحرب العالمية الأولى؛ أصبح هناك أكثر من أثنين وخمسين ماركة تجارية منفصلة لحمالات الصدر في السوق.
.. حل وسط لأسباب صحية
لم تتردد دينا، المنسقة والفنانة البصرية، في التخلي عن حمالة الصدر بعد أن رأت عددًا كبيرًا من البنات امتنعن عن ارتدائه في الخمس سنوات الأخيرة. بدأت بالتخلي عنه خلال فصل الشتاء. ثم تعرضت بعد ذلك لأزمة صحيّة في الرئة كانت تجعل من التنفس صعبًا، وتبين خلالها مدى التأثير السلبي لحمالة الصدر. تقول دينا "الأيام اللي بلبس فيها برا (bra) كان تنفسي بيبقى أوحش فقررت خلاص هبطل ألبس برا وأبتدي ألبس براليت (bralette)؛ اللي هم مفيهومش كابس من قدام ومن غير أي معدن، وابتديت أرتاح شوية مع شكل صدري الطبيعي اللي هو مش زي المانيكانات ومش حاجة تعودت عليها من وأنا صغيرة".
في نفس الوقت، تتمسك دينا بالبراليت في حدود ملابس معينة مثل التيشيرتات الضيقة أو للشعور بالدفء في الشتاء وتستبدله بتوب "كارينا" مع القمصان والملابس الواسعة. تقول إن "المهم بالنسبة لي إن الصدر يكون متماسك ولا يعيق حركتي".
ترى دينا أن حجم الصدر ليس مقياسًا لارتداء حمالة الصدر "أنا مش شايفة إن الواحدة لو عندها صدر كبير لازم تلبس برا، لو الموضوع صحيًا مأثر عليها وحاسة إن البرا بيساعد، ماشي، تمام، بس حد زيي مثلًا البرا كان عامل لي العكس تمامًا، فالموضوع ده بأحس إنه راجع للشخص، وبعدين البراهات اللي معمولة دلوقتي تحسي إنها معمولة علشان الناحية الجمالية بس مش شيء عملي".
تصطدم فكرة الراحة المستمدة من ارتداء حمالة الصدر بتسليعه من ناحية، والثقافة والميديا من ناحية أخرى؛ إذ خلقت ماركة الملابس الداخلية الأمريكية الشهيرة فيكتوريا سيكريت سلالة من المستهلكات الأوفياء اللواتي يربطن أنفسهن بصورة متخيلة تقدمها هذه الماركة وأخواتها. وعلى الرغم من انخفاض مبيعاتها خلال السنوات الخمس الماضية وإغلاق محلاتها مؤخرًا؛ إلا أنها تغذي المستهلكات على صورة مبالغ فيها للعارضات المسميات بـ "الملائكة" والتباهي بريادتهم في تصنيع أفضل حمالات الصدر، وأخيرًا الظاهرة الثقافية التي خلفتها عروض أزياء هذه الماركة منذ منتصف التسعينيات التي أظهرت "الملائكة" في أزياء فانتازية تفتقر للراحة والعملية، وتقديم أجساد تفتقر للتنوع.
تقول دينا "لو الهدف من الاختراع دا كان احتياج الستات للبرا بسبب حجم الصدر؛ ماكانش هايبقى فيه تركيز على إنها تبقى تجارية ومتجنسنة" تشرح "لما بتروحي فيكتورياز سيكريت فإنتِ شايفة كل الحاجات اللي هي اللانجيري السيكسي، طيب هو سيكسي علشان الأفلام علمتنا إن الستات لما بتلبسهم بيبقوا سيكسي، بس في الحقيقة إنتِ لما بتلبسيها علشان تروحي مشاوير أو الشغل أو السوبر ماركت، وبالتالي المفروض يبقى الهدف هو الراحة والاستخدام العملي مش الشكل على حساب الصحة".
ما تشير له دينا يطرح سؤالًا عن انحياز صناعة حمالات الصدر إلى الجمال على حساب الراحة، وهو ما ناقشه باستفاضة مقال في مجلة التصميم العلمية الصادرة عن جامعة هونج كونج التكنولوجية في عددها الثالث عام 2001، إذ أفاد المقال بعنوان تقييم وتحليل تصميم حمالة الصدر أن تصميمات حمالات الصدر التجارية غير كافية للتغلب على جميع المشاكل في الحياة اليومية المفترض أن تحلها حمالات الصدر، وذلك لإنها عادة ما تُحدث مشاكل جسدية مثل الحِمل الناتج عن الحمالة الضيقة والألم الذي تسببه الأسلاك الداخلية الصلبة، والتهيج الجلدي بسبب الخياطات الأمامية". ووفقًا لتقرير نشرته مجموعة إن بي دي لأبحاث السوق بتاريخ 6 أغسطس/ آب 2019، بعنوان تطور حمالة الصدر فإن الراحة ودعم الصدر يبقيان من أهم دوافع النساء في الولايات المتحدة لاختيار حمالة الصدر، وليس الشكل أو درجة الإغراء، وأشار التقرير أيضًا أن "ما يقرب من ربع السيدات يرتدين حمالات الصدر الرياضية (براليت) في أيام العمل العادية".
الحياة المستحيلة دون "برا"
تتعايش نيللي*، وتعمل سكرتيرة، في سلام مع حمالات الصدر وتتمسك بها سواء في البيت أو خارجه. يرجع السبب إلى التعود عليها. فهي ترتديها منذ أن كان عمرها أحد عشر عامًا. في البيت ترتدي حمالة صدر واسعة ومريحة أكثر، وفي الخروج ترتدي حمالة صدر ضيقة أكثر أو بوش أب. تفسر ذلك "حاجة مهمة إني ألبس برا طول الوقت، أنا مش من الناس اللي بتبقى قاعدة في البيت من غيره. ممكن أقلعه وأنا نايمة بس، لكن طول ما أنا قاعدة في البيت بلبس برا للبيت وده بحكم إن أنا صدري كبير، وبالتالي بأتضايق في الحركة لو مش لابساه".
لم يؤثر العزل المنزلي على حياة نيللي إذ لم تنقطع علاقتها بالشارع "كنت بأمشي كل يوم كرياضة لمدة نصف ساعة أثناء العزل، وعمري ما حسيت باختلاف أو انزعاج في لبس البرا بتاعة الخروج".
تختلف إنجي*، التي تعمل في مجال الإعلانات، تمامًا مع فكرة الاستغناء عن حمالة الصدر. فقد أحبت شعور الراحة بدونه وقت العزل المنزلي، لكنه من المستحيل بالنسبة لها، التخلي عنه نهائيا حتى لو عاشت في عالم خيالي كالذي تصورته ليلى حيث لا يوجد رجال. تقول إنجي "الاستغناء عن البرا مريح جدًا في الحياة اليومية بدون شغل أو أثناء الشغل من البيت، لكن صعب اعتماده في حياة ما بعد العزل المنزلي في الخروجات والاختلاط وممارسة الرياضة. الحياة بدون برا مش مناسبة زي غياب الراحة عند ممارسة الرياضة أو في المحيط الاجتماعي والتجمعات وبيبقى باين لو كنتِ مش لابسة برا".
* أسماء مستعارة بطلب من المصادر.