مولدة بالذكاء الاصطناعي Canva
مصير غامض ينتظر أطفالنا في سوق العمل والحياة

شجرة أم tree.. بأي لغة يفكر أطفالنا؟

منشور الأربعاء 19 مارس 2025

يعكس واقع الشارع المصري نمط تفكير غريب بشأن التعليم يربط جودته فقط بكونه أجنبيًا، وليس بقدرته على تعزيز الوعي أو تحسين التفكير. أصبح كل ما يهمنا أن يكون التعليم "إنترناشونال" ظنًا أن هذا هو السبيل الوحيد للحصول على وظيفة مرموقة، كأن الوظيفة هي الغاية الأسمى من وجودنا في العالم.

التعليم ليس غايةً، بل وسيلة، والغاية هي الحياة. إننا هنا لنعمر الأرض ونستكشف الحياة من خلال تجارب تبني معارفنا عن العالم. ولكي نتمكن من ذلك، نحتاج إلى التعليم الذي يساعدنا على فهم تلك التجارب والاستفادة منها.

لكن السبب وراء انقلاب الوسيلة إلى غاية هو الاقتصاد الرأسمالي الذي يمثله هنا أصحاب المدارس "النخبوية". فلا أحد يهتم ببناء الإنسان، والطالب بات مجرد عميل يجنون من وراء تسويق الحلم إلى أهله الأرباح.

مدارس النخبة

تحرص الرأسمالية على تصدير فكرة "الاستثمار في التعليم"، وأن بذخ الإنفاق هو الطريق الأمثل للنجاة من الأزمة الاقتصادية، باعتبار التعليم وسيلة تضمن عوائد مادية من خلال فرص العمل. لكن، هل يمكن حصر قيمة التعليم في الأرقام والفرص؟ 

يكتسب التعليم أهميته من احتياج الفرد إلى المعرفة، وكيفية توظيفها لتطوير حياته وخدمة مجتمعه. العبرة ليست في حجم المعلومات المتاحة، بل في القدرة على استخدامها لتحقيق نمو شامل للفرد والمجتمع.

في السياق المصري، يبرز هوس التعليم باللغة الإنجليزية كظاهرة تستحق التأمل. يعكس هذا التوجه المتفاقم تعقيدات اجتماعية وثقافية واقتصادية عميقة. وقد يحمل هذا الهوس دلالات تتجاوز تعلم اللغة، لتعبر عن رغبة في الاندماج أو مواجهة شعور بالنقص أمام العولمة.

نجد الآن أطفالًا في سن الروضة يُشترط عليهم اكتساب أساسيات اللغة الإنجليزية للالتحاق بالمدارس التي يروجون لها كـ"مفاتيح المستقبل". فينتهي بنا الحال إلى أن طفلًا لم يتجاوز الثالثة يشير إلى شجرة في الشارع ويسأل "إيه دا؟" فيرد الأهل "tree" بدلًا من "شجرة". تكرر هذا المشهد أمامي مرات عديدة، لأن الطفل بدون الإنجليزية، لن يجتاز إنترفيو المدارس النخبوية.

أصبح الصعود الطبقي مرتبطًا بتشويه اللغة الأم لصالح الإنجليزية

يعيش الطفل في مجتمع مصري بثقافة مصرية ولغته الأم العربية، بينما يدرس بلغة مختلفة وثقافة مغايرة عن تلك التي ينتمي إليها. ما الغرض إذن من التعليم؟ كيف يمكن لطفل أن يستخدم التعليم للتفاعل مع واقعه بينما هو معزول عنه؟

الترقي الاجتماعي

ينتشر اليوم بين الشباب والأطفال خلط الكلمات العربية والإنجليزية في الجملة نفسها، وكلما ازدادت نسبة الإنجليزية اعتبر المتحدث نفسه أقرب إلى الترقي الاجتماعي. أصبح الصعود الطبقي مرتبطًا بتشويه اللغة الأم لصالح الإنجليزية. بل إن التصنيف الطبقي صار يربط العربية بالفئات الشعبية، والإنجليزية الخالصة بالطبقات العليا.

في إحدى مدارس اللغات الحكومية بالمدينة التي أقطن بها، تنشر الإدارة تنويهات على جروب واتساب لأولياء الأمور الذين يتأخرون في سداد المصروفات، أو يتغيب أبناؤهم عن الدراسة لفترات طويلة. تتضمن تلك الرسائل تهديدًا بأن المخالفين سيجري نقلهم إلى أقرب مدرسة حكومي عربي.

التعليم الحقيقي مهمته خلق إنسان صالح وسعيد ومجتمع قوي لا يُهزم

اللافت هنا أن كلتا المدرستين حكومية، وكلتاهما تتشارك السمات ذاتها من كثافة الفصول، وانتشار السلوكيات غير اللائقة، وغيرها من المشكلات. يبدو أن "العفريت" هنا هو اللغة وحدها!

من غير المتوقع أن التعليم في المدارس العربية سيكون أفضل، لأننا ندرك أنه لا يوجد تعليم حقيقي من الأساس. لذا، فإن الحل لا يأتي من المدرسة وحدها، وإنما بتكريس الجهود لخلق عملية تعليمية حقيقية باللغة العربية شبيهة بالتي أنتجت طه حسين، ورفاعة الطهطاوي، ونجيب محفوظ، ورواد النهضة العربية، وأدباءنا العظماء وكتابنا الكبار.

في الزمن الذي أنتج لنا الأسماء البارزة في العلوم والآداب والسياسة والاجتماع كان هناك إيمان قوي بأن التعليم الحقيقي مهمته خلق إنسان صالح وسعيد، ومجتمع قوي لا يُهزم. علينا أن نؤمن مجددًا أن ميول الشخص هي التي توجه اهتماماته وتؤهله للتميز، وليس سوق العمل. فاهتمامات الفرد غالبًا ما تكون مستقرة، بينما سوق العمل دائمة التغير. فكيف يمكن ربط الثابت بالمتغير؟

عصور مظلمة حديثة

تُسمى سنوات التعليم الأولى بالتعليم الأساسي لأنها مرحلة تأسيس الأطفال، ولأنها اللبنة الأولى في بناء الشخصية وجب أن تتوافق مع البيئة المحيطة وإدراك الإنسان لذاته وموقعه من العالم حتى يصير البناء فيما بعد قويًا ومتناسقًا. وبعد التأسيس، الصف الخامس الابتدائي، يمكن للطفل أن يدرس ما يشاء وبأي لغة.

في عصور أوروبا المظلمة، كان العالم العربي يشع نورًا وحضارةً، بينما يشير واقعنا الحالي إلى أننا نصنع عصورًا مظلمة جديدة ونمحو اللغة التي شاركت في صنع حضارتنا. اللغة هي وعاء الفكر، ولكي يكون الفكر مبدعًا عليه أن يتوافق مع الوعاء.

نُصِرّ على استعارة وعاء لا يناسبنا، فنستهلك أنفسنا في صراع من أجل التكيف. 

عندما هيمنت الولايات المتحدة الأمريكية على الاقتصاد العالمي، سيطرت الإنجليزية على أسواق العمل. ولكن هل يمكننا تخيل ما الذي سيحدث إن انتقلت الهيمنة الاقتصادية إلى الصين أو روسيا؟

ربما يكون الطريق المستقيم هو إعداد الإنسان نفسه عوضًا عن التركيز على فرص العمل. فنحن لسنا مجرد آلات ذات كتالوج يمكن برمجتنا. بل نحن من نكتب هذه البرامج والخوارزميات، فلا يحق لك أن تفرض برنامجك على أطفالك لمجرد أنهم ينتسبون إليك.