نستمع أحيانًا في نقاشاتنا وأحاديثنا اليومية لكلمة "سايكو"، فهل حولنا بالفعل مَن ينطبق عليهم هذا الوصف؟
تقول الطبيبة النفسية سالي توما إن الشخص السايكوباتي يعاني اضطرابًا شديدًا يدفعه لارتكاب جرائم دون إحساس بالذنب، كما يتلذذ عند تعرُّض الآخرين للأذى، ودائمًا ما يتبع دائمًا قاعدة الغاية تبرر الوسيلة، مما يشكل له أحيانًا مسارًا للنجاح، ولذلك قد نصادف أشخاصًا في محيطنا يحظون بمكانة اجتماعية مرموقة، ويظهرون كأسوياء من الخارج، ولكنهم يعملون على إيذاء الآخرين من أجل تحقيق منافعهم دون شعور بالذنب.
يوضح موقع مايو كلينك الطبي أن الشخصية المعادية للمجتمع تعاني من اضطراب عقلي يتجاهل خلاله المريض حقوق الآخرين ومشاعرهم، ولا يُظهر أي مشاعر بالندم على السلوكيات الخاطئة، بينما يفرَّق موقع Psychology Today بين السوسيو باث والسايكو باث، بأن الأول قد ينتج عن عوامل مختلفة في البيئة مثل الطفولة المضطربة والتعرض للإساءات والعلاقات الشخصية المؤلمة، أما الثاني فقد يتسبب فيه خلل جيني أو بعض إصابات الدماغ عند الولادة.
يتضح الطابع العدائي للأشخاص المصابين باضطرابات الشخصية المعادية، وتظهر رغبتهم في إيقاع الأذى بالأشخاص والممتلكات، ويمكن تشخيص هذا مبكرًا في سن الخامسة عشر، تتسم الشخصية السايكوباتية بالتلاعب، فيمكنها أن تكسب ثقة الآخرين بسهولة، إلا أنها لا تحتفظ بروابط قوية مع الآخرين، وغالبًا ما تكون أفعالها مخططة مسبقًا، والجرائم التي ترتكبها كثيرًا ما تكون منظمة ودقيقة للغاية.
أحمد جمال الطبيب النفسي بمستشفى دميرة للصحة النفسية بالدقهلية، يقول إنه وفقًا للتصنيف الأمريكي، وهو التصنيف الإحصائي الدولي للأمراض المعتمد من منظمة الصحة العالمية، يمكن إطلاق مصطلح الضد الاجتماعي على مرضى السايكوباتية، وأن اللامبالاة بالصواب والخطأ، والإصرار على الكذب أو الخداع لاستغلال الآخرين، واستخدام الذكاء أو المكر لغش الآخرين لتحقيق مكاسب شخصية أو لجلب سعادة شخصية مطلقة، بجانب الأنانية المفرطة والشعور بالمثالية والاستعراضية، وتكرار انتهاكات القانون، جميعها أعراض يعاني منها مصابو السايكوباتية و"السوسيوباث"، وفقًا لجمال.
الجريمة والعنف
تقول سالي توما، إن هناك عدة أبحاث أجريت على المخ، وجدت أن الشخص العادي عند مشاهدته لمشاهد عنف دموية تتسارع دقات القلب، ولكن مع الأشخاص السايكوباتيين يكون الأمر مختلفًا، فهم يتلذَّذون بتلك المشاهد، التي تسبب لهم الراحة، فيستمتعون بمشاهد العنف والدماء، لذا يكون علاجهم أكثر تعقيدًا ويحتاج لوقت أطول أيضًا نظرًا للتعقيدات الموجودة بشخصياتهم.
هناك ربط ما بين الجريمة والسايكوباتيين، فبحسب موقع الخدمة الصحية الوطنية الإنجليزي، NHS، فإن المصابين باضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، يميلون لارتكاب الجرائم المؤذية والفاضحة، وأحيانًا الإجرامية، بالإضافة لانتهاك الحقوق الجسدية والعاطفية للآخرين، والفشل في الاحتفاظ بالصداقات والعلاقات الاجتماعية لفترة طويلة، ويوصف بأنه واحد من أصعب الأمراض النفسية.
تجسيد هذا النوع من البشر سينمائيا كان في شخصية الجوكر، ووفقًا لمقال في Psychology Today، فإن هناك 23% من الأفلام الحائزة على جوائز عالمية جسّد أبطالها أدوارًا لشخصيات سايكوباتية أو سوسيوباتية، كشخصية مايكل كورليون التي جسدها آل باتشينو في الجزء الثاني من The Godfather.
يرى الدكتور أحمد جمال، أن الأشخاص أصحاب التصرفات العدوانية، والمصابون بالشخصية المعادية للمجتمع، يدركون جيدًا الجرائم التي يرتكبونها، فمريض الذهان هو المريض الذي يمكن أن يقوم بجريمة مثل القتل أو السرقة أو الاغتصاب دون وعي أو إرادة منه، أما المريض السايكوباتي أو أصحاب الاضطرابات المختلفة فهم واعين جيدًا للجرائم التي يرتكبونها، وهنا عليهم تحمُّل المسؤولية القانونية.
يضيف جمال، إن عددًا من المرضي لا يعترفون بحاجتهم للمساعدة الطبية من الأساس، ويلجأون لحيل دفاعية للتبرير، ولا يطلبون المساعدة، وهنا لا يكون للعلاج دورًا مفيدًا، وحتى عند وضعهم في المستشفيات بشكل إلزامي فلن يكون للعلاج جدوى.
متسلسل بدم بارد
ربما يشعر المريض في حالات متقدمة، بلذة عند ارتكاب جرائم متسلسلة، كما تقول سالي توما، ومن الممكن أن يكون صاحب تلك الجرائم سواء كانت قتل أو اغتصاب شخص ناجح في عمله أو حياته، ويعتقد أنه يقوم بعمل مهم، ففي عام 2017، نشرت الصحف خبرًا حول قاتل متسلسل، قتل 82 إمرأة، وعلى الرغم من ذلك كان أبًا وزوجًا صالحًا، وهو ميخائيل بوبكوف، الذي نفَّذ جرائمه على مدار عقدين من الزمان، في سلسلة من حوادث القتل هي الأسوأ في تاريخ روسيا، جعلته من أشهر سفاحي العالم.
كان بوبكوف شرطيًا سابقًا، واعترف أن دافعه لهذه الجرائم كان تنظيف مدينة أنجارسك في سيبيريا من البغايا والنساء غير الملتزمات، بحسب وصفه، وقال الإدعاء إن السفاح قتل 82 ضحية في المجمل، واغتصب أغلبهن، قبل تقطيعهن بالسكاكين أو الفؤوس والمفكات.
تقول توما في حديثها مع المنصة، إن الشخص السايكوباتي يرتكب الجرائم بدم بارد، يتلذّذ بتعذيب ضحيته، ويحمِّل الآخرين دومًا المسؤولية، كما أن هناك علاقات تفشل بسبب تلك الشخصيات، ويتعدى الفشل لتكون تلك العلاقات سببت في تدمير الشخص الآخر، فالسايكوباتي من الممكن أن يرتكب جريمة الاغتصاب دون إحساس بالذنب، بل يلوم ضحيته ويتهمها بأنها السبب فيدمّرها نفسيًا، وهناك العديد من العلاقات تنتهي بدمار وفشل بسبب تلك الشخصية.
قادة ناجحون
في تقرير بعنوان "هل يمكن لصاحب الشخصية الفظة أن يكون قائدًا ناجحًا؟" نشرت بي بي سي في عام 2017، أن واحدًا من كل خمسة من الذين يتولون مواقع في مجالس الإدارة والمناصب العليا في الشركات يخفون ميولًا للعنف الاجتماعي والقسوة، مستخدمين صفات شخصية معينة ليحافظوا على سحرهم الشخصي ويشقون طريقهم في مكان العمل.
وتوصل عالم النفس بول بابياك من نيويورك، في بحث أجراه، إلى أن 4% من قادة الأعمال في الولايات المتحدة يمكن أن يكونوا من أصحاب الشخصيات السايكوباتية ذات السلوك الاجتماعي الفظ، وهذا يعني أنك من الممكن أن تقابل شخصية بتلك الصفات في محيط عملك، ربما يكون رئيسك المباشر أو مديرك في العمل.
ومع الأبحاث التي أجريت، لم تعد صورة الشخص السايكوباتي أنه هو الشخص الذي يمارس الجريمة الفجة بكل وضوح، أو الشحص الذي يشهر سكينه في وجه الآخرين، وغيرها من تلك المشاهد، فالأشخاص ذوو الميول العدوانية من الممكن أن يكونوا ناجحين في العمل، ونقابلهم بشكل يومي.
ليان تين برينكي الباحثة البارزة في الدراسة والأستاذة المساعدة لعلم النفس في جامعة دينفر، قالت لـ بي بي سي إن هناك فرقًا بين امتلاك السلطة وبين إدارتها بكفاءة، وذلك بعد مقارنة صفات 101 شخصًا من أصحاب السلطة، بين عامي 2005 و2015، فيستمد ذوو الشخصيات السايكوباتية سلطاتهم عبر الهيمنة والتخويف، وليس عن طريق الاحترام.
تظهر الدراسات أن المديرين التنفيذيين أصحاب الصفات السايكوباتية العالية يتحلّون بالجاذبية الشخصية والإبداع، وماهرون في التواصل، لكن يتلاشى هذا عند القضايا السلوكية، وفقًا لبحث بابياك الذي أجراه في عام 2010، ونشرت مجلة "علم النفس اليوم" توضح أن الأشخاص السايكوباتين ربما يتمتعون بشخصية ساحرة من الخارج، ومن الصعب التفرقة في الحديث معهم ما بين الكذب والحقيقة.
اكتشف جيمس فالون، عالم الأعصاب والوراثة الأمريكي، بالصدفة البحتة أنه مريض نفسي ومصاب باضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، في العام 2005، وأثناء عمله على بحث لألزهايمر، وجد فالون أن التشريح الدماغي لأحد أفراد عائلته مماثل تقريبًا للتشريح الدماغي للمرضى النفسيين، وبعد تتبع هوية صاحب هذا التشريح وجد أنه يعود إليه شخصيًا، وكتب عنها مؤلفه "رحلة شخصية في علم الأعصاب للبحث عن الجانب المظلم من الدماغ".
موقع Business Insider نشر قصتين بأسماء مستعارة لشخصيتين استطاعتا التعايش مع المرض، أحدهما تعرض للاغتصاب من شقيق أحد أصدقائه في الصغر، والثاني لاحظ والداه تغيرات عليه منذ الصغر واتجاه للعدوان نحو الآخرين، ورغم أن حياتهما مختلفة من حيث النشأة وظروف المرض، التي أصابت أحدهما بسبب جينات وراثية والآخر بسبب تعرضه لحادث في الصغر، إلا أنهما اتفقا على أنهما استطاعا الظهور أمام المحيطين كشخصين عاديين لا يعانيان من أي مشاكل أو اضطرابات.
فالأول ساعده والده في العلاج بدخول مؤسسة علاجية، أما الثاني الذي تعرض لحادث الاغتصاب في الصغر، انتهي به الأمر في السجن لارتكابه جريمة سرقة، وبعد دخوله السجن طلب العلاج الذي تلقاه داخل محبسه من طبيب السجن.
وصمة أم مرض يمكن علاجه؟
اعتراف المريض بأن لديه مشكلة هو الخطوة الأولى لعلاج أي اضطراب أو مشاكل نفسية كما أوضح كل من جمال وتوما، وبعد ذلك يأتي تحديد شكل العلاج، الذي يختلف من حالة لأخرى ما بين جلسات نفسية أو عقاقير طبية تتم تحت إشراف طبيب، ويستخدم العلاج النفسي أو العلاج بالحوار في بعض الأحيان في علاج اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع.
وصمة العار، أو وصف أصحاب الشخصية المعادية أو السايكوباتية بأنهم مرتكبي جرائم هو ما يجعلهم ينفون الأمر عن نفسهم وفقًا لتوما، وينفون ذلك حتى في قرارة أنفسهم خوفًا من أن يُصنّفوا كأشخاص خطرين في المجتمع، فيرفضون الأمر ويتعايشون معه، ومنهم من يستمر في ارتكاب جرائمه التي قد تؤدي به إلى السجن في النهاية.
لا توجد عقاقير أو أدوية معتمدة بشكل خاص من إدارة الغذاء والدواء الأمريكية لعلاج اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، وقد يصف الأطباء وفقًا لموقع مايو كلينك أدوية القلق الاكتئاب، وعادة ما توصف بعض الأدوية بحذر لاحتمالية أن يسيئ البعض استخدامها، فلا تُستخدم إلا تحت إشراف طبي، كما أن العلاج يحدث على المدى الطويل.