نشرت نسخة من هذا المقال في موقع بوسطجي، ونعيد نشره بإذن خاص من كاتبه مع تعديلات على النص.
منذ صباح اليوم؛ بدأ اللبنانيون بنفض الغبار عن عاصمتهم، كما فعلوا دومًا، لكن هذه المرة الأمر مختلف تمامًا عن الماضي، فالانهيار الاقتصادي الذي تشهده البلاد منذ أشهر سيجعل من الصعب تأمين المال الضروري لترميم ما تضرر.
هذا كان حال أحد أصحاب المتاجر الصغيرة في منطقة الأشرفية ليلًا، كانت ملامحه خليطًا من الصدمة والخيبة، بينما كان بضعة شبان يعبّرون عن احباط، بات السمة المشتركة بين الشباب اللبناني تجاه الطبقة السياسية الحاكمة، اختزلته عبارة قالها أحدهم "غدًا يلملمون الجريمة كعادتهم".
بالأمس؛ كنت جالسًا في حديقة مقهى "شي بول" عند مدخل شارع الجميزة الذي غالبًا ما يوصف بقلب بيروت النابض، حتى في أحلك ظروف البلاد. نختلس بعضًا من الوقت المتاح في فترة الإقفال التام الذي فرض مجددًا على اللبنانيين بعد تزايد الإصابات بفيروس كورونا.
صفوّ المكان عكره خرطوم صهريج طالت مياهه عددًا من الجالسين، كما لو كان فأل شؤم لكارثة ستحلّ بعد دقائق معدودة.
دوي هائل هز المكان، فيما كانت سحابة من الغبار الكثيف تقترب، والضغط الكبير يلقي بعضنا أرضًا، كما لو أن ما يجري هو تجسيد فعلي لمشهد من فيلم "يوم القيامة".
في ظل الأجواء المتوترة إقليمًا، والمنعكسة بشكل مباشر على لبنان، اختلطت مشهدية الهلع بصرخات كانت تُسمع بين الهاربين "إسرائيل تقصف"، بينما كان عمال المقهى والمتاجر المجاورة يدفعون بالنساء والأطفال من الخارج إلى الداخل تحسبًا لاحتمالات "غارة جوية مفترضة"، أو ربما شيء آخر، أخذًا في الحسبان الكثير من الخبرات التي اكتسبها اللبنانيون من حروبهم وحروب الآخرين على أرضهم.
لكن ما حلّ بالأمس في بيروت تخطى مشاهد كل فصول الحرب المعروفة: إنها الكارثة التي لم يتمكن أحد من معرفة ماهيتها، وكأن المدينة الغارقة بهمومها تحوّلت إلى نسخة جديدة من هيروشيما اليابانية.
تدريجيًا بدأ الغبار يتلاشى كاشفًا عن ملامح ما حلّ ببيروت. شارع الجميزة ليس نفسه. عند مدخله الجنوبي، باب خشبي هوى من بناء قديم، واستقر عند أحد الأسلاك الكهربائية المتدلية، ليفصل بين مكان كنت تعرفه وآخر لم تألفه من قبل: حطام في كل مكان، أبنية مهشمة، زجاج وحجارة متناثر على طول الشارع، وهلع جماعي سالت منه دماء المصابين الذين عجزت فرق الصليب الأحمر عن نقلهم، فراحت تطلب من السائقين نقل ذوي الحالات غير الخطرة بسياراتهم إلى مستشفى قريب، الروم أو الجعيتاوي، فيما انبرى متطوعون بعفوية هستيرية إلى تنظيم حركة السير.
كثيرون حتى تلك اللحظة كانوا يجهلون حقيقة ما جرى، أو حتى بؤرة الانفجار المجهول، حتى الأنباء التي أمكن معرفتها عبر الاستعانة بالراديو، بعد تقطعت خدمة الإنترنت، كانت تعكس تخبطًا في الخطاب الرسمي، تبدّى بشكل خاص، حين راح بعض المسؤولين يتحدث عن انفجار باخرة تنقل "مفرقعات نارية"، وهو ما كان مشهد الدمار كفيلًا بتكذيبه، خصوصًا بعدما ثبت أوليًا امتداد قطر الدمار ليشمل بيروت كلها، من حي الكرنتينا الذي طالما دفع أثمان الحرب والسلم، مرورًا بالأشرفية التي كان زجاج مبانيها العالية يتساقط على السيارات وجنب المارة، وصولًا إلى الأحياء الأبعد نسبيًا: الحمراء، مار إلياس، كورنيش المرزعة، التي افترش الزجاج المحطم طرقاتها.
في الأحياء المنكوبة؛ امتزجت صدمة الناس بصرخات هستيرية، كان الكثير منها سياسي: إسرائيل، المحكمة الدولية، والعهد القوي الذي نال النصيب الأكبر من الشتائم.
من الصعب على المرء في تلك اللحظة أن يصدر حكمًا، ولو كان أوليًّا، في ما حدث. كل صرخات الناس يمكن أن تؤدي إلى فرضية ممكنة. ربما أيضًا من الغريب أن يحاول أحد التحليل وهو يقف شاهدًا على هول الكارثة لكن "الطبع غلّاب"، كما يُقال، وبعض الثبات الانفعالي يمكن أن يفسح مساحة ولو ضئيلة في العقل ليفكر في ما يحدث، بانتظار اتضاح الرؤية التي يحجبها الدخان، كما ضبابية المشهد الداخلي والخارجي.
ردة فعل الناس ذهبت إلى هذه الفرضيات: عمل عسكري إسرائيلي في خضم حالة التوتر السائدة من الجنوب اللبناني إلى الجولان السوري، مرورًا بالغارات على دمشق، ومعها سلسلة الأحداث الغامضة التي تشهدها ايران منذ أسابيع. أو عمل تخريبي في الداخل، أيًا كانت الجهة التي تقف وراءه، في توقيت حساس للغاية، يسبق بيومين الحكم المنتظر من قبل المحكمة الدولية في لاهاي في قضية اغتيال رفيق الحريري. أو الفرضية الثالثة وهي فساد العهد/العهود، الذي وضع لبنان في حالة السقوط الحر نحو الهاوية.
كارثة تنتظر عود ثقاب
الفرضية الثالثة هي التي باتت أقرب إلى المنطق منذ اللحظة التي بدأت تتكشف أسباب الكارثة/ الفضيحة، والمتمثلة في انفجار مخزون هائل مما اكتفي بداية بوصفه "مواد شديدة التفجير"، قبل أن تتضح ماهيتها: شحنة من 2750 طنًا من نترات الأمونيوم المُصادرة قبل سنوات.
سبق وأن كانت تلك الشحنة حديث الاعلام قبل سنوات، فصولها تعود إلى خريف العام 2013، حين أبحرت السفينة روسوس Rhosus التي ترفع علم مولدافيا من ميناء باتومي الجورجي متجهة إلى دولة موزامبيق، وعلى متنها 2750 طنًا من مادة نترات الأمونيوم.
قبل أن تصل السفينة إلى وجهتها النهائية؛ طرأت مشاكل فنية، كان من الضروري معها أن ترسو في مرفأ بيروت، ولكن السلطات اللبنانية منعتها من الإبحار، وفي وقت لاحق تخلى عنها أصحابها لأسباب ليست واضحة تمامًا.
بعد سلسلة دعاوى قضائية ركزت على مصير طاقم السفينة المحتجزة؛ تمت تسوية هذا الجانب من القضية، في حين أصرّ الجانب اللبناني على عدم السماح بنقل شحنة نترات الأمونيوم التي تمت مصادرتها وتخزينها في مرفأ بيروت.
منذ ذلك الوقت ظلت الشحنة مخزنة ضمن شروط لا تراعي معايير السلامة برغم خطورة ما تحويه، وهو ما يمكن تأكيده في طلبات موجهات إلى قضاء العجلة، في أكثر من تاريخ منذ العام 2014، لإعادة تصدير المواد المخزنة، أحدها لمدير عام الجمارك السابق شفيق مرعي، وقد ورد فيه حرفيًا: ".. وحيث أنه لم يردنا لغاية تاريخه أي جواب من قبلكم، وبالنظر للخطورة الشديدة التي يسببها بقاء هذه البضائع في المخزن في ظل ظروف مناخية غير ملائمة، فإننا نعود لنؤكد على طلبنا التفضل بمطالبة الوكالة البحرية باعادة تصدير هذه البضائع بصورة فورية إلى الخارج، حفاظًا على سلامة المرفأ والعاملين فيه، أو النظر بالموافقة على بيع هذه الكمية إلى الشركة المحددة في كتاب قيادة الجيش"؛ وخطاب آخر من المدير العام الحالي بدري ضاهر، أشار أيضًا إلى "الخطورة التي تنتج عن بقاء هذه الكمية على المكان الموجودة فيه، وعلى العاملين هناك".
يمكن القول إن عبارة "المكان والموجودين فيه" كانت مخففة إلى الدرجة التي جعلت القضية تبقى في مكانها، في ظل نظام إداري وقضائي مهترئ، يحتل المراتب العليا في مؤشرات الفساد العالمية.
مردّ القول إن العبارة مخففة هو أن العسكريين يدركون جيدًا المخاطر التدميرية لمادة نترات الأمونيوم. اللبنانيون على الأقل عرفوا باسم هذه المادة قبل ثلاث سنوات حين بات عنوانًا للمعركة الاعلامية بين إسرائيل وحزب الله، حين حذر أمينه العام حسن نصر الله تل أبيب من أن خزان الأمونيا في ميناء حيفا "سنطاله أينما أخذوه"، بينما كان إعلام الحزب يتباهى بأن "الكيان الصهيوني يعيش في أزمةٍ بعدَ خضوعهِ لتهديدِ الامينِ العامِّ لحزبِ الله السيد حسن نصرالله وإغلاقهِ خزانَ الامونيا في حيفا خَشيةَ صواريخِ المقاومة"، حسبما جاء في أحد تقارير قناة المنار حينها.
العودة إلى العصور الوسطى
عندما اقتربتُ بالقدر المسموح به من نقطة الانفجار في المرفأ، بدت بيروت وكأنها قد عادت إلى العصور الوسطى، وهو التهديد الذي طالما أطلقه المسؤولون العسكريون الإسرائيليون ضد لبنان. لكنّ هذه العودة لم تكن بفعل غارات إسرائيلية وانما بسبب الفساد الداخلي، الذي تبدّى إهمالًا كبيرًا أقرّ به رئيس الحكومة اللبنانية حسان دياب ضمنًا في الاجتماع الاستثنائي للمجلس الأعلى للدفاع، ليل أمس، حين قال "لن أرتاح كرئيس حكومة حتى نجد المسؤول عما حصل ومحاسبته وإنزال أشد العقوبات به لإنه من غير المقبول أن تكون شحنة من نترات الأمونيوم تقدر بـ2750 طنا موجودة منذ ست سنوات في مستودع، من دون اتخاذ اجراءات وقائية، وهذا أمر لا يجوز السكوت عنه وتعريض سلامة الاهالي والسكان للخطر".
https://twitter.com/RTarabic/status/1290763803291013120?ref_src=twsrc%5Etfwبانتظار صدور نتائج لجنة التحقيق التي أعلن عن تشكيلها بعد الاجتماع العسكري الأعلى في لبنان، ثمة معطيات أولية أمكن الحصول عليها من مصادر متقاطعة تفيد بأنه منذ فترة تبيّن أن العنبر الذي تم تخزين فيه شحنة نترات الأمونيوم يحتاج الى صيانة وقفل للباب الذي كان مخلوعًا بجانب وجود فجوة في الحائط الجنوبي فيه يمكن من خلالها الدخول والخروج بسهولة.
ثمة رواية أمنية تقول إن الحريق السابق على الانفجار وقع أثناء عملية تلحيم الباب وتطاير شرارة أدت إلى اشتعال مفرقعات موجودة في العنبر نفسه أدت بدورها إلى انفجار كميات من مادة نترات الأمونيوم"، مع الإشارة إلى أن 2750 طن منه هذه المادة توازي 550 طنًا من مادة تي أن تي، وذهبت تقديرات أخرى بالرقم إلى أكبر من ذلك، لكننا على الأقل نعرف الآن أن القوة التفجيرية لقنبلة هيروشيما كانت 15 ألف طن من مادة تي إن تي.