علم محلق في الفراغ. الصورة: فليكر- مفتوحة الاستخدام برخصة المشاع الإبداعي الانتصار على الفراغ بالواقع البديل والأعلام الطويلة رؤى_ حسـام السُكَّري منشور الاثنين 3 أغسطس 2020 على السلم الصاعد إلى العرش ألقى الحرس الملكي القبض على ديفيد، وهو صحفي أمريكي يعمل مراسلًا في إحدى دول العالم الثالث. قصته التي وجد الحرس صعوبة في تصديقها تقول إنه كتب تقريرًا لصحيفته عن افتتاح منصة مدهشة لعرش الملك في أحد الميادين الكبرى. بعد أرسال التقرير تلقى برقية توبيخ من رئيس التحرير لأنه ذكر أن الوصول إلى العرش يقتضي صعود "عشرات الدرجات". الصحفي المحترم، لا يكتب معلومة دون تدقيق"، قال رئيس التحرير، "عشرات الدرجات كلمة لا معنى لها في صحيفة لها مكانتها، ينبغي عليك أن تكتب كم درجة بالضبط يتعين صعودها للوصول إلى العرش" مضيفًا. عاد الصحفي للميدان وحاول من مكانه عد الدرجات فلم يتمكن. نظر حوله فوجد المكان خاليًا. بدأ صعود درجات السلم وعدّها درجة درجة، فكان ما كان، وانتهى به الأمر في السجن. لا أعلم إن كانت هذه القصة حقيقية أم مختلَقة، لكنني قرأتها مزيّنة برسم كاريكاتيري طريف في كتاب مدرسي لتعلم الإنجليزية. تذكرتها عندما عبر أمامي طوفان من الأخبار والتعليقات تتحدث عن بدء مشروع لبناء أطول صاري علم في ميدان الشعب في العاصمة الإدارية الجديدة. تعليقات رصينة وأخرى ساخرة. كثير منها أخبار مباشرة تتحدث كلها عن "أعلى صاري علم" دون أن يخبرنا أحدهم عن طول هذا الصاري الذي لا قيمة له إلا في طوله. معلومة لم يفكر أي رئيس تحرير ممن وصلتهم تعليمات النشر في السؤال عنها. الاهتمام ببناء صواري الأعلام المرتفعة وأشباهها من المشروعات الباذخة عديمة النفع، يبدو حكرًا على نادٍ خاص يضم الدول المشغولة بالتأكيد على نوع بعينه من أنواع الهوية الوطنية. وفيه ستزاحم مصر كوريا الشمالية صاحبة رابع أعلى علم بارتفاع 160 مترًا، وأذربيجان الثالثة بعلم ارتفاعه 162 مترا، وطاجيكستان الثانية بعلمها ذي الـ 165 مترًا. أما الأغرب فهو أن مصر ببناء أطول وأعلى صاري علم ستزيح شقيقتها المملكة العربية السعودية صاحبة الصاري الأطول بارتفاع 171 مترًا. الولع المصري بحيازة أعلى علم في العالم ليس جديدًا؛ ففي أكتوبر من العام 2011 زفت المذيعة أماني الخياط لمشاهدي التليفزيون خبر رفع علم مصر على أعلى صاري علم في العالم بواسطة اللواء محسن الفنجري، نائبًا عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة وبرفقة وزراء التربية والتعليم والصحة ومحافظي القاهرة والجيزة وعدد من مصابي وشباب ثورة 25 يناير وممثلين عن مختلف القوى الشعبية. قيل وقتها إن ارتفاع الصاري 176 مترًا، وأعلنت مصر أنه صار يحتل الموقع الأول بين أعلى صواري الأعلام في العالم وأكد الإعلام أننا دخلنا به موسوعة جينس للأرقام القياسية. علم السعودية رفع بدوره في مناسبة وطنية عام 2014 بالتزامن مع احتفالات المملكة بعيد اليوم الوطني الـ 84، وسط حضور مشرف تماما كما حدث مع العلم المصري. إلا أن الشخص الذي غاب هنا وحضر هناك كان المُحكم الرسمي في مؤسسة موسوعة جينيس برافن باتيل، الذي أكد أن الصاري هو الأطول في العالم، مستوفيًا بذلك شروطًا لم يذكرها تخص هذا الرقم القياسي. هل دخل العلم المصري المرفوع في عام الثورة والذي بدأ العمل فيه قبلها بعام، موسوعة جينس الدولية للأرقام القياسية؟ تصعب الإجابة على هذا السؤال ليس فقط لإن عمره كان قصيرًا وتم تفكيكه بعد عامين من افتتاحه المهيب. ولكن أيضًا لأنه لم يكن مرفوعًا على صارٍ بالمعنى المفهوم. إذ ارتفع على ما يشبه برجا من أبراج الكهرباء يقال إنه تحول إلى برج اتصالات لفترة قصيرة قبل تفكيكه. أما المشكلة الأكبر فربما تكون في طوله الذي بلغ طبقا لموقع صدى البلد 150 مترًا فقط، بنقص ستة وعشرين مترًا عن الطول المعلن عند الافتتاح، وهو أمر لو صح، ولو تجاهلنا مسألة أنه ليس صاريا على الإطلاق، لوضع ذلك في الترتيب العالمي تحت علم كوريا الشمالية محتلًا المرتبة الخامسة مكان علم تركمانستان، وليس المرتبة الأولى. طبقا لما كتبته الصحفية إيناس الشيخ في تقرير لها نشرته صحيفة اليوم السابع بعد عامين تقريبا من الاحتفال، تحول العلم إلى بقايا مهترئة و متآكلة بفعل الشمس وعوامل التعرية. أهملته الجهات السيادية التي أشرفت على بنائه في سرية تامة بتمويل من البنك التجاري الدولي، على قطعة من أرض مركز شباب الجزيرة خُصصت بالأمر المباشر. في التقرير نفسه صرح مسؤولون في مركز شباب الجزيرة بأن إنشاء العلم "كان يخفي وراءه أهدافًا سرية ضاعت أوراقها". لم تختف الأوراق فحسب ولكن اختفى العلم ذاته. فبحسب التقرير ذاته تم تصنيع قماش العلم في لندن من مواد مقاومة تؤهله "للرفرفة" على هذا الارتفاع دون أن يتأثر بسهولة بعوامل التعرية. إلا أن جهة لم يعلن عن اسمها قامت بإنزاله بعدها بأيام، ليستبدل به علم آخر مصنوع من قماش عادي طوله أربعة أمتار وهو العلم الذي اهترأ وتحول إلى فضيحة يراها العابرون عن بعد على كوبري السادس من أكتوبر. نشير هنا إلى أن العلم السعودي المرفرف في ميدان خادم الحرمين الشريفين في جده يقترب طوله من خمسين مترا وعرضه 33 مترًا ويزن أكثر من نصف طن. لم يمر وقت طويل حتى وجد مركز شباب الجزيرة نفسه في مأزق، عندما تسلل أحد العاملين في هيئة النقل العام للموقع المحاط بسور مطلي بألوان العلم، وبدأ تسلق البرج في محاولة للانتحار. تم إنقاذ الرجل وتشديد الحراسة على المكان وبدأت إدارة المركز في التردد بين مجلس الدفاع الوطني والبنك التجاري الدولي في محاولة للعثور على من يعيد تبنى المشروع لصيانته واستبدال العلم المهتريء. وعندما فشلت المحاولات اتخذ قرار التفكيك وبيع البرج كومة من الحديد الـ"خردة" تزن 560 طنا قدرت قيمتها بمليون ونصف المليون جنيه تم التبرع بها لصندوق تحيا مصر. ما بدأ كمحاولة لمعرفة أبسط معلومة عن أطول علم، وهي طوله، ربما ينتهي بنا إلى مزيد من علامات الاستفهام حول تكلفته. وهو ما حاولت صفحة الموقف المصري تقديرها بين تكلفة العلم المصري الأول البالغة 27 مليون جنيه مصري، والعلم السعودي الذي كانت كلفته المبدئية نحو 19 مليون ريال، إضافة إلى علم آخر كانت تعتزم تايلاند إنشاءه بتكلفة 7.5 مليون دولار. وانتهت إلى أن التكلفة ربما تقدر بـ 54 مليون جنيه مصري. سر مخفي عن الأعداء في بعض الأحيان لا نتمكن من العثور على إجابات واضحة لأسئلة بديهية. خاصة وأن المخاطر المحيطة بتسلق السلم المؤدي إلى العرش أو السارية المؤدية للعلم، تبدو واضحة للعيان، كما أن تكلفته ربما تعتبر سرًا سياديًا يخشى من تسربه للأعداء. لذا سنكتفي بالقول بأن العلم المزمع إنشاؤه طويل جدًا، وأن تكلفته مرتفعة للغاية. أما الاسئلة الأصعب فهي عن سبب هذا الحماس المحموم لرفع أطول علم في عام 2011، ثم سبب الفتور والإهمال المفاجيء الذي انتهى به خرقة بالية تطل على العاصمة في شموخ هزيل، ثم الدافع وراء عودة هذا الاهتمام المفاجيء بالدخول منافسات الكم، بالأطول والأضخم والأعلى والأكبر. في مقدمة فيلمه الوثائقي HyperNormalisation -2016 (يمكن ترجمتها بتصرف إلى "تجاوز الواقع")، يقول المخرج آدم كيرتس "إننا نعيش في أوقات غريبة مليئة بالأحداث المدهشة التي تهدد استقرار عالمنا. من التفجيرات الانتحارية وموجات الهجرة إلى ظهور ترمب وبوتين بل وحتى بريكزيت. من يديرون هذا العالم يبدون عاجزين عن التعامل مع الواقع. لا توجد لديهم رؤية تقدم مستقبلا أفضل أو حتى أكثر اختلافا". صاحب الوثائقيات الحائز على أربع جوائز بافتا، من الأكاديمية البريطانية لفنون الفيلم والتليفزيون، والذي يمزج في وثائقياته بين علوم النفس والاجتماع، يرى أن "رجال السياسة والمال والمبشرين بيوتوبيا التكنولوجيا عجزوا عن مواجهة واقع معقد فقرروا اختلاق نسخة أبسط من العالم من أجل التمسك بالسلطة. ومع تضخم هذا الوقع المزيف حولنا، سايرناهم جميعا لأن هذه البساطة تبعث على الاطمئنان". لا تقدم الأنظمة السلطوية على مدى التاريخ حلولًا حقيقية، كما أنها لا تتصدى بشجاعة لمواجهة واقع معاناة الناس. الأسهل لديها ربما هو خلق واقع وهمي بديل، مليء بأعداء افتراضيين لتنتصر عليهم. أو فراغ تغذي في الناس وهم الانتصار والقوة باحتلاله والامتداد فيه. هذه ربما تكون الوظيفة الأهم للمباني الفخيمة والقصور الباذخة المبلطة بالرخام الفاخر، والمآذن السامقة، والأعلام الخفاقة. في عام 1994 فقدت كوريا الشمالية زعيمها ومؤسسها كيم إيل سونج، فاتخذ السلطات قرارًا بتحويل مقر إقامته إلى ضريح، ضمت إليه في عام 2011 جثمان الزعيم الإبن كيم يونج إيل. أعمال توسيع المقر وتجديده كانت مثالًا نادرًا للبذخ. بعض القاعات الداخلية يمتد بطول كيلومتر كامل، فيما حفر خندق عظيم بطول حافتيه الشمالية والجنوبية. الخصائص الفريدة لهذا البناء المعماري الفخيم جعلته أكبر ضريح لزعيم اشتراكي. في نفس هذا الوقت تقريبا شهدت كوريا الشمالية ما يعرف في تاريخها الحديث باسم "المجاعة العظيمة". وهي مجاعة ضربت البلاد على مدى أعوام بدءًا من منتصف التسعينيات وحتى نهاية القرن تقريبًا، تسببت فيها كوارث الجفاف والفيضانات المتتابعة وفاقمتها سلسلة من الإخفاقات الإدارية والسياسية. تقديرات الضحايا تراوحت بين ربع مليون شخص في أقلها، وفي أعلاها ثلاثة ملايين ونصف المليون إنسان. نسبة لا يستهان بها بين 22 مليون نسمة هم تعداد كوريا الشمالية في ذلك الحين. حدث هذا في الوقت الذي لم تتوقف فيه أعمال الإنشاءات والتوسعة للضريح الذي يعرف الآن باسم كومسوسان أو قصر الشمس، والتي قدرت بأرقام تترواح بين مئة مليون دولار وتسعمئة مليون دولار. لم تنتصر كوريا الشمالية على واقعها المفترَض ببناء قصر الشمس فحسب، ولكن عَلَمها الذي تجاوز وزنه ربع الطن اقتحم الفراغ عاليًا خفاقًا في الثمانينيات وسط هتافات تحيا كوريا، ليحصل وقتها على لقب الصاري الأعلى في العالم ولتستمر حيازة كوريا لهذا اللقب على مدى واحد وعشرين عامًا، وطوال فترة المجاعة. مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.