بدأت المسألة، في وعيي، بأسماء البشر.
في طفولتي ومراهقتي، كنت أستطيع إحصاء أغلب اسماء البنات اللواتي كن في فصلي، أو اللواتي عرفتهن، في ستة أسماء: أسماء (أيضًا) ودعاء وشيماء ومروة وهبة وورشا. وصل الأمر لأن أطلق أحد أصحاب المصانع اسم ابنته (او هي زوجته)، "رشا" على بسكويت مشهور في أيامها.
كان هناك ركن الأسماء الأجنبية التي ما عادت أجنبية: نرمين وشيرين وإنجي وشاهيناز وسوزان مثلًا، بالإضافة إلى التنويعات على ذات الأوزان: مروين وجيرمين، أو ماهينور وماهيتاب، ومازلت اتعجب من أنني أعتبر كل اللواتي يحملن أسماء نرمين وشيرين وإنجي من الجميلات حتى يثبت العكس، ويقولون إن سبب هذا هو أن أولى النساء اللائي رأيتهن بهذه الأسماء كن من الجميلات.
لابد وأن هذا هو السبب؛ وبمفهوم المخالفة لابد وان أول ماهيتاب في حياتي كانت قبيحة، أو ثقيلة الظل.
في شبابي، بدأت أسماء بعينها تظهر للوجود، ثقيلة النطق والظل، مثلا ريماس، الذين يقولون إنه تراب الماس، وآخرون يقولون تراب القبر. لي صديق، بدون ذكر أسماء، سمّى ابنته الأولى انورين (لا، ليس مثنى أنور)، ودعا ابنته الثانية اسمًا بلغ من غرابته أن ذاكرتي رفضت الاحتفاظ به. كلها أسماء أجنبية؛ تركية وفارسية بالأساس، يظن الآباء أنها تمنح تميزًا ما للأبناء. هناك بعد اجتماعي قديم في التسمية، فذوي الأسماء التركية أو الفارسية منذ أكثر من نصف قرن، كن أو كانوا من أصول تركية أو ألبانية أو شركسية، فلربما كانت هي محاولة لملاحقة ما نعتبره متفوقًا أو نبيلًا.
ثم خرج علينا أحدهم بتسمية مبنى وزارة الدفاع الجديد، في العاصمة الادارية الجديدة، بالأوكتاجون.
تذكرت فيلما قديمًا لإيدي ميرفي، يجسد فيه دور أمير أفريقي يزور أمريكا، ويقابل أمريكيًا أفريقيًا لديه محل للبرجر دعاه "ماكدوجالز"، مثل "ماكدونالدز". كان فخورًا جدًا ولم يستطع الأمير الأفريقي استيعاب سبب الفخر، ثم تعديه للسخرية.
قبلها، وفي ايام الثورة المجيدة، تغيرت أردية الجيش المصري لما يشبه زي الجيش الامريكي، وجرى استحداث منصب يسمى بـ"المتحدث العسكري"، واعتبر البعض هذا تحديثًا في حد ذاته.
في طفولتي، كنت ككل الأولاد مولعًا بلعب المسدسات وعربات البوليس. احضرت لي عمتي -من ربتني- عربات بوليس صغيرة مثل ما نراها في الافلام: سوداء في المقدمة والمؤخرة وبيضاء في المنتصف. مازلت أذكر بعضها الذي يتوجب عليك سحبها للخلف، كي تنتطلق مسرعة للأمام بفعل "زمبلك" من نوع ما.
بدأت أرى هذه العربات في القاهرة.
وصل الأمر أنني كنت أمشي مع يوفيتا فوق كوبري قصر النيل منذ أيام معدودات، لنجد اثنين من هذه العربات تتمخطر قادمة، مطلقة سريناتها في الهواء. توقع كلانا أنها "تشريفة" ما، قبل أن نكتشف أنها تمشى خلف عربة مفتوحة الحقيبة، يقبع فيها شخص بكاميرا فيديو، مصورًا تبختر العربات "الأمريكاني" الجديدة على خلفية النيل.
الأصالة والمعاصرة. دقائق وعاد الموكب في الاتجاه المعاكس، ثم رأينا مذيعًا ذا شعر مدعوك بالجيل ألوان ملابسه فاقعة أخطرها لون السترة يستعد لاستضافة لواء شرطة بكامل زيه الرسمي. بالطبع سيتحدث عن مواكبة الشرطة لأحدث صيحات الموضة في عالم السيارات.
في شبابي، كنت اقرأ لكثير من الكتاب المصريين والعرب، وبعد عمر قصير، ستكتشف أن من اكثرهم تفانيا في تقليد هيمنجواي وشتاينبك تحديدًا (بقى فوكنر كمصدر للمدح والاشادة فحسب، تقريبا)، صاروا كتابًا كبار. انبهر البعض بالهيكل الذي نقله الكتاب المصريون والعرب، هيكل الكاتب الأمريكي، لغة ووصفًا وشخصيات وهموم، فاسموهم الكتاب الكبار. لم ينتظروا أن يخرج الكاتب من التقليد إلى التأثر، ولم يخرج الكاتب، هو أيضًا، من التقليد للتأثر.
هل انتهى الأمر في يومنا هذا؟ لا، ستجد عندك من يتفانوا في تقليد بول أوستر مثلا.
زي الجيش المصري الامريكي الجديد: ياله من تحديث.
لا يبدو الامر مفاجئًا في السينما، باعتبارها مجال التأثير الامريكي العظيم، أن نجد سيناريست شابًا يؤمن بعض النجوم بموهبته، فيكون أول ما يفعلونه هو رمي السيناريو الاصيل الخاص به جانبًا، ليقولون له: اسمع، نريد ان نقتبس فيلم كذا. تصير الخطوة القادمة أن يسوق السيناريست الشاب فيلمه الاصيل قائلا: هو يشبه فيلم كذا.
هناك من هو احذق: كان أحد النجوم في الستينيات يقتبس من ثلاثة أفلام أجنبية معا، ليضربهم في الخلاط. مازلت اتذكر فيلما بعينه، صنع شهرة مخرجه الكبير، كنت أحب عبثية وكوميدية جزء السجن فيه تمامًا، لاكتشف ان بعضه قد اقتبس من فيلم The Italian Job.
ويجب علينا ان نقول إن الاقتباس كلمة مهذبة.
هكذا تجلس ريماس في العاصمة الادارية الجديدة، مقابل مبنى الاوكتاجون، لترى عربات البوليس المتهادية، في جيبها رواية تشبه شفرة دافنشي، وتنتظر خطيبها الضابط المصري الذي يرتدي الزي الامريكي، ليدخلا سينما المول التي ستعرض فيلما مقتبسًا من فيلم شهير في هوليوود، وربما في ناحية اخرى من المدينة، ستجد "أمامة" (بضم الالف)، والتي هي غالبا ابنة لاحد من الاخوان أو السلفيين، وغالبا لديها اخ يدعى "حذيفة"، وعبرت بها حكايات حكم المسلمين للاندلس، وسمعت، بالطبع، الأناشيد الاسلامية التي تقتبس الحان عمرو دياب لتركب عليها كلمات مثل الولاء والبراء والاحسان. ربما تدخل كلتاهما الفيلم، الذي سيكون دوما من ابناء موجة السينما النظيفة الطاهرة، بعدما نظف صناع الفيلم سابقه الهوليوودي من الوسخ والرذيلة.
في طفولتي، كانت هناك ماركة مقلدة لاديداس، تدعى أبيباس. وفي كهولتي، ربما، سيكون هناك أوكتاجون.