كانت الساعة السابعة مساء تقريبًا، وربما كان اليوم أحدًا أو أربعاء، وربما كان الشهر نوفمبر أو ديسمبر من عام 1988. دخلت من ذلك الباب الحديدي الواسع المرتفع، ماشيًا على قصاصات ورق كأنها سجادة بيضاء فُرشت خصيصًا لاستقبالي، رغم أنها كانت ملطخة بالكثير من آثار الأقدام المبللة بالمطر في الخارج.
ومن الداخل، مع كل خطوة أخطوها، كانت رائحة الأحبار المختلطة بروائح الورق تسحبني إلى الأعلى، عبر سلم حديدي مفروش بقصاصات الورق أيضًا، في اتجاه جسر حديدي معلق فوق ماكينات الطباعة. وعندما نظرت إلى أسفل، حيث تختلط أصوات العمال بهدير الماكينات اختلاط الحبر بالورق، في لحظة ما من ذلك الزمن البعيد، أخذت نفسًا عميقًا مشبعًا بتلك الروائح، وقلت لنفسي إن هذه ستكون مهنتي إلى الأبد: الصحافة.
لم تكن الصحافة واردة ضمن أي مخطط لمستقبلي، وأنا أدرس الأدب الإنجليزي في الجامعة، بل إنني لا أبالغ إذا قلت إنني لم أكن أحمل تقديرًا كافيًا لهذه المهنة، أو إنني كنت أراها أقل من أن أعمل بها يومًا من الأيام. والحق أقول إنني لم يكن لدي تصور واضح لمستقبلي بعد التخرج، لكنني كنت أتمنى أن أصبح مقدم برامج، أو قارئ نشرة أخبار في الإذاعة المصرية، وهو حلم كان بعيد المنال لأن دخول مبنى ماسبيرو كان يحتاج إلى "واسطة" كبيرة، أو هكذا كنت أتخيل في ذلك الزمان. ظل هذا العمل حلمًا معلقًا، إلى أن وجدت نفسي في تلك الليلة، للمرة الأولى، وسط أجواء المطبعة السحرية، فتخليت عن الحلم تمامًا، واخترت هذه المهنة ذات الروائح العجيبة، لكي أقضي فيها عمري كله تقريبًا.
أي مصادفة قادتني إلى هذا العالم الذي لم أحسب له حسابًا؟ يقولون إن الصحافة هي مقبرة الأدباء، وإنها تقضي على مواهب من يعملون بها من شعراء وروائيين، لأنها تستهلك لغتهم وتستنزف طاقاتهم. لم أقابل أحدًا إلا حذرني من سطوة الصحافة وقدرتها على قتل المواهب، حتى إنني صدقت ذلك، واعتبرته نوعًا من المسلّمات غير القابلة للنقاش. ولكن، هل كان لي أن أختار العمل في هذه المهنة؟ هذه مهنة لم أخترها، ولم تكن بالنسبة لي إلا وظيفة تنقذني من التشرد في شوارع القاهرة والنوم على سلالم بيوت أصدقائي إلى أن يعودوا من سهراتهم، أو النوم في المساجد والحدائق العامة. هذه هي الوظيفة التي ستوفر لي نصف سرير يحميني من السؤال اليومي القاتل: "أين سأنام هذه الليلة؟". هذه هي الوظيفة التي ستصون كرامتي دائما، وتنقذ الشاعر من مهانة الجوع والتشرد، وتوفر له الحد الأدنى من الحياة الكريمة التي تمنحه القدرة على الاستغناء، وتساعده على الإبداع.
مطبعة صحيفة Dinamalar National Tamil Daily في الهند
لم يكن يوم المطبعة هو يومي الأول في عالم الصحافة بالطبع. ففي يوم 18 سبتمبر/ أيلول 1988، دخلت إلى البناية رقم 1117 كورنيش النيل، تلك البناية الصغيرة بين فندق هيلتون رمسيس ومبنى دار المعارف، البناية التي تضم في طابقها الأول مقر مجلة الإذاعة والتليفزيون، حيث ذهبت لأودع أستاذي وأبي الثاني خيري شلبي، وأخبره بأنني قررت العودة إلى بلدتي في سوهاج، وأن أعمل مدرسًا للغة الانجليزية، وأكمل بقية حياتي هناك، بعيدًا عن قسوة القاهرة، فأنا "ابن ناس، ومش حمل بهدلة". ذهبت مودعًا، فأصبحت مقيمًا، ليس في هذه المجلة فقط، بل في هذه المهنة التي أحببتها، المهنة التي غيرت لي حياتي، وكان لها تأثير ليس على شخصيتي فحسب، ولكن حتى على لغتي في الشعر.
في 18 سبتمبر 1988، ولد نصف ياسر الزيات الآخر، النصف الذي يعمل صحفيًا، ليكمل النصف الذي يعيش شاعرًا. من هنا كانت البداية، من النقطة التي تحول فيها الشاعر المتشرد إلى صحفي على غير رغبته، قبل أن تتحول المهنة التي لم يخطط للعمل بها إلى إدمان حقيقي، وحب خالص. باختصار: أنقذتني الصحافة من التشرد غريبًا جائعًا في شوارع القاهرة، وكان علي أن أرد لها الجميل، لكنها كانت دائما أكثر كرما مني، إذ أعطتني فوق ما أستحق ماديًا ومعنويًا.
بدايات غامضة
كانت البدايات غامضة. سيكون عليّ أن أجلس على هذا المكتب، أمامي باب الغرفة، وخلفي باب الشرفة، وعلى اليمين واليسار مكاتب لآخرين، سيكون من الصعب عليّ دائما أن أسميهم زملاء، بسبب فارق العمر الكبير بيننا. في اليوم التالي لمقابلتي الأستاذ محمد جلال رئيس التحرير، كنت أقف أمام باب المجلة في الثامنة صباحًا. دخلت من باب العمارة، فاستقبلني عم محجوب البواب النوبي الذي أصبحت ابتسامته تميمتي اليومية، بسؤال: "على فين يا أستاذ؟". في الأيام التالية، كان حوارنا لسنوات كالتالي:
-صباح الخير يا عم محجوب.
-صباح النور يا أستاذ.
وبعد ابتسامة عم محجوب، كانت تستقبلني ابتسامة عم أحمد صالح. بمجرد دخولك من باب المجلة، تجد مكتبًا صغيرًا جدًا، خلفه دولاب محفور في الحائط، وعلى المكتب صحف ومجلات كثيرة، يرتبها عم أحمد قبل أن يوزعها على الصحفيين كل باسمه، وكل مجموعة حسب منصب صاحبها في المجلة، وحسب اهتماماته. ابتسم عم أحمد عندما رآني، وقال "تفضل يا أستاذ". لا شيء في المجلة يخفى على عم أحمد صالح، ليس لأنه يسمع كل شيء في مكتب رئيس التحرير، فمكتبه يقع خلف باب رئيس التحرير مباشرة، ولكن، ببساطة، لأنه عم أحمد صالح.
وأكثر ما يميز عم أحمد هو قميصه الأبيض الناصع، وبنطلونه المكوي دائمًا وحذاؤه اللامع بالطبع. وهو يقود فريقًا من عمال الخدمات المعاونة، سيكون له لاحقًا أثر كبير في حياتي العملية. عندما دخلت إلى الغرفة كان عم أحمد لا يزال مشغولًا في تقسيم الجرائد والمجلات، فيما رأيت عم إبراهيم منهمكًا في تلميع المكاتب، قبل أن يلمحني، ويبتسم "أهلا بحضرتك". تحمل ابتسامة عم أحمد صالح الكثير من الأدب والشياكة، فيما تحمل ابتسامة عم إبراهيم الكثير من الألفة والطمأنينة، وهما ابتسامتان تختلفان عن ابتسامة عم عبد الحميد، الرجل السبعيني القصير النحيف الذي يبتسم بعينيه غالبًا ابتسامة فيها الكثير من الطفولة وشقاوتها. قال عم إبراهيم "جاي بدري. مش بييجوا قبل الساعة 12، ما عدا الأستاذ لطفي".
كان بإمكانك أن تضبط الساعة على موعد دخول الأستاذ لطفي عزيز إلى المجلة في العاشرة صباح كل يوم، وموعد خروجه منها في الثالثة عصرًا، من السبت إلى الأربعاء. أما إذا تأخر فاعلم أنه يجري حوارًا، أو يبحث عن خبر في مبنى ماسبيرو، الذي لا يبعد عشرات الأمتار عن مبنى المجلة على الكورنيش. عندما دخل الأستاذ لطفي، لأول مرة، سألني بجدية أربكتني عندما أطل من الباب "إنت مين؟"، فأجبت، وشرحت له أنني جديد هنا، فابتسم، ثم قال وهو يشرب قهوته اليومية الوحيدة "تعرف إنت قاعد على مكتب مين؟ ده المكتب اللي كان بيقعد عليه عبد الوهاب الأسواني ومحمد مهران السيد".
وكنت قد قابلت الأستاذ مهران في حفل تكريمه الذي، بسببه، أجلس على مقعده الآن، كما أنني أعرف عبد الوهاب الأسواني بالطبع، وقرأت له روايتيه سلمى الأسوانية والنمل الأبيض ومجموعته القصصية شال من القطيفة الصفراء، التي كانت صدرت حديثًا وقتها عن سلسلة مختارات فصول في هيئة الكتاب.
قال الأستاذ لطفي مبتسمًا "أول مرة يجيبوا حد في سنك في الشغلانة دي. دي شغلانة الناس الكبيرة". أربكني كلامه مرة أخرى، وقلت لنفسي "هذا مكتب الكبار، فحاول أن تتعلم، وحاول أن تكون كبيرًا". سيكون الأستاذ لطفي، بعد ذلك، رفيق الصباحات كلها، فهو الوحيد بين الصحفيين الذي يأتي مبكرًا، بعد أن يكون عمال الخدمات المعاونة قد أنهوا عملهم الصباحي، وبعد أن أكون قد تناولت إفطاري الصباحي من عربة الفول مع عم أحمد صالح وعم إبراهيم وعبد العاطي، أصغر عامل في الخدمات المعاونة وقتها، الفلاح الحذر الذي يأتي يوميا من قريته المجاورة لبنها، ويصل إلى المجلة في الثامنة تمامًا، ليجدني منتظرًا وصوله على كورنيش النيل.
قضيت سنوات في انتظار عبد العاطي على الكورنيش، وقضى سنوات في التظاهر بأنه يمشي سريعًا، عندما يقترب من المجلة، لكي يبدي حرصه على عدم تركي للانتظار. وطوال هذه السنوات، كنا نفطر معًا طبقين من الفول أو ساندوتشات من الطعمية الساخنة، قبل أن يتفرغ كلانا لعملية التنظيف التي يمارسها: هو ينظف المكاتب قبل أن يصل الصحفيون، وأنا أنظف الموضوعات قبل أن يصل رئيس التحرير.
في مهنة بدون اسم
في الأيام الأولى لم أكن أعرف ماذا أفعل، ولم أكن أعرف لمهنتي اسمًا. كل ما أعرفه أن الموضوعات تأتي لي سيئة، ويجب أن تخرج من عندي جيدة، حتى لو تطلب الأمر إعادة كتابتها بشكل كامل، أو تأليف أجزاء منها، أو حذف ثلاثة أرباعها. وكنت أسمعهم يتحدثون عن أن الموضوع الفلاني في "الديسك"، بدون أن أدري أنني المقصود بقولهم "الديسك"، وأنه أحد أهم الأقسام في كل صحيفة أو مجلة. ساعدني الأستاذ مصطفى مجاهد على فهم ذلك.
مع الوقت فهمت أن الجدية التي يتعامل بها الأستاذ لطفي عزيز ليست إلا نوعًا من الود وخفة الدم، فهو رجل طيب، هادئ ودود، وموظف مثالي ممن يأتون في مواعيدهم ويذهبون في مواعيدهم. أردت أن أقول إنه شخص لا يهش ولا ينش، وإننا ظللنا لسنوات نتبادل الاحترام، لكننا لم نقترب، ولم نصبح أصدقاء، على عكس الأستاذ مصطفى مجاهد الذي أصبحت أناديه، مع الوقت، بـ "عم مصطفى".
عندما دخل عم مصطفى من باب الغرفة في يومي الأول، ابتسم ابتسامة أبوية ساحرة كانت تميزه، الابتسامة التي تسرح من الشفتين إلى العينين، كاوية ملامح الوجه كلها كأنها بنطلون جديد. كان عم مصطفى هو سكرتير تحرير المجلة، والمحور الذي تدور حوله المجلة كلها، وكانت ابتسامته أكثر ما يميزه، إضافة إلى خفة دمه وطول باله على الجميع. ولم يكن ينافس خفة دمه إلا خبرته في الطباعة، تلك الخبرة التي لم يبخل في نقلها لي في وقت قصير جدًا، قبل أن يترك لي الكثير من مهام وظيفته. وتعلمت الكثير من عم مصطفى في هذه المهنة: تعلمت تبنيط الموضوعات مثلًا على الورق، ومقاسات الأعمدة، وأنواع الفنط التي نستخدمها، وهي أشياء كنت أعتقدها عادية، لكنها أدهشت عم خيري عندما رآني أفعلها، ذات مرة، فقال "إيه ده؟ انت تعلمت ده كله إمتى؟ ده أنا ما باعرفش أعملها".
كان عم مصطفى يعاملني كابنه، وكان ابنه، بالمصادفة، صديقي، فهو الشاعر أحمد مجاهد، الذي كان، وقتها، معيدًا في كلية آداب عين شمس. عرفت ذلك مصادفة عندما كنت أجلس في وسط البلد مع عم مصطفى، مستمعًا إلى حكاياته الساحرة المدهشة في لحظات الروقان. وكان يطيب له أن يحكي، بفخر، عن ابنه المتفوق المعيد في كلية آداب عين شمس، والذي سيصبح أستاذًا مهمًا للأدب العربي، كما يتوقع له أساتذته. "هو شاعر كمان زيك"، ثم تبين أنني أعرفه طبعًا، فهو من شلة شعراء جامعة عين شمس: شحاتة العريان ومجاهد الطيب والسيد مجاهد ومسعود شومان وزيزي رزق.
كان الشعر يتقاطع مع الصحافة دائمًا، وكان يطيب لعم مصطفى أن يناديني بقوله "يا شاعر". وفي أوقات الروقان كان يحكي لي حكايات عن علاقته بالشاعر الكبير فؤاد قاعود، شقيق زوجته الراحلة، أو يروي لي بعضًا من أشعاره التي يحفظها. وباستثناء يومي الأحد والأربعاء، اليومين اللذين أصبحت أرافق فيهما عم مصطفى إلى المطبعة للإشراف على عملية المونتاج، لم أكن أراه يتعامل مع شيء بجدية كاملة، فالحياة لا تساوي ضحكة عابرة. وكانت ضحكته تملأ المكان دائمًا.
مع الوقت، كانت خطواتي في المجلة تكتسب الكثير من الثقة تدريجيًا، خاصة بعد أن أدركت أهمية العمل الذي أقوم به، ودرجة الاحترام التي يحظى بها صاحبه. ومع الوقت عرفت جميع العاملين والصحفيين والفنيين في المجلة، وكان الاحترام هو العملة المتبادلة بين الجميع. ولم يكن لي أي فضل في بناء علاقة مع أي من هؤلاء، فأنا شخص خجول بطبعي، ولا أبادر بالحديث مع مَن لا أعرفهم، عكس ما يبدو عليّ غالبًا، وكان لزملائي كل الفضل في إزالة ذلك الحاجز الذي أقامه فارق العمر والخبرة بيننا. وكم كنت محظوظًا في تلك الغرفة التي كانت تشهد الكثير من المناقرات والمشاكسات بين روادها الدائمين والمؤقتين، فأنا لم أكن يومًا طرفًا في تلك المشاكسات، بسبب فارق العمر، ولأن حجم العمل الملقى على عاتقي لم يكن يسمح لي برفع رأسي من الأوراق إلا لرد تحية أو للإجابة عن سؤال، أو للاتجاه إلى مكتب رئيس التحرير عندما يحضر عم أحمد صالح ليبلغني بأن "الأستاذ جلال وصل، وعايزك".
في مكتب الأستاذ محمد جلال، شربت الدروس الأولى في مهنة لم أكن أعرف عنها شيئا، ومنه تعلمت كل شيء تقريبًا في أساسيات هذه المهنة. لمكتب الأستاذ جلال بابان، أحدهما على يسار مدخل المجلة، أمام مكتب عم أحمد صالح، وهو الباب الذي يدخل منه الأستاذ، والآخر مفتوح على صالة التحرير، حيث يجلس الصحفيون، وأمامه تجلس سكرتارية رئيس التحرير المكونة من مدام زينات ذو الفقار وإيمان رمضان وميرفت رشدي.
كان الأستاذ جلال وجهًا معروفًا في التليفزيون، كما أن الكثير من رواياته تحولت إلى مسلسلات تليفزيونية اشتهرت بتناولها أجواء الحارة المصرية. والإنصاف يجعلني أقول إن الرجل، كروائي، كان ظلًا من ظلال نجيب محفوظ الكثيرة في ذلك الوقت، ولم تكن له أجواء مميزة كأجواء روايات خيري شلبي أو عبد الوهاب الأسواني مثلًا، لكنه كان صحفيًا بارعًا وشخصية مميزة تحظى باحترام جميع العاملين في المجلة.
بمجرد وصوله، يحضر عم أحمد صالح أو إيمان لإبلاغي بأن الأستاذ يريدني أن ألتحق به في مكتبه. وكان الوضع يختلف بين حضور عم أحمد لإبلاغي أو حضور أحد أفراد طاقم السكرتارية، فحضور عم أحمد يعني أن هناك شيئًا عاجلًا لا يريد الأستاذ أن ينساه في انشغالاته الكثيرة، ولذلك أراد أن ألحق به بمجرد وصوله، في حين أن حضور زينات أو إيمان أو ميرفت يعني، في الغالب، أن أحضر أوراقي لكي أجلس مع الأستاذ على طاولة الاجتماع ونعمل معًا.
على طاولة الاجتماعات تلك، سقاني الأستاذ جلال مبادئ الصحافة بملعقة، وبدون أن أشعر. ولا أعرف أيّنا كان أكثر صبرًا على الآخر في عملية التعليم غير المباشر تلك. كان يطلب مني كتابة مقدمة لموضوع من الموضوعات، فأكتبها، ليصدمني برد فعله "لا، لا، لا، مش حلوة"، ويقطع الورقة أو يكرمشها بيده ويلقي بها في سلة القمامة "جرب تاني". وتتعدد التجارب، ويتكرر رد فعله نفسه، حتى أكاد أفقد صبري، لكنه يصل إلى إحدى محاولاتي ليقول "إنت اللي كاتب المقدمة دي؟". وأكتم غيظي "كاتبها قدام حضرتك يا أستاذ جلال". فيرد "طيب ليه ما كتبتهاش من الأول؟ لازم تكتب كده من أول مرة. ما عندناش وقت نجرب. المطبعة مش هتستناك تكتب مقدمة عشر مرات علشان توصل لمقدمة حلوة. تعلم تكتب مرة واحدة". وتعلمت.
وكانت لهذه الجلسة شبه اليومية أسرارها، فهي المطبخ الحقيقي للمجلة، وكثيرًا ما تحدث أشياء لا يعرفها الصحفيون خارج هذه الغرفة، مثل فبركة رسائل القراء مثلا عندما تقل الرسائل الأسبوعية، أو عندما تقل قيمتها، أو عندما يريد رئيس التحرير إظهار نجاح حملة معينة وحجم تأثيرها في الجمهور. نعم، أعترف بأنني فبركت رسائل القراء. كان الأستاذ جلال يكتب الرسالة ويترك لي كتابة الرد عليها، أو العكس، إلى أن تكتمل لدينا صفحة بريد القراء.
كانت أعداد القراء تقل وتزيد حسب المواسم، ولكل موسم قراؤه. وكان العام الدراسي يشهد ارتفاعًا منتظمًا في التوزيع، لأن المجلة تنشر ملحقًا يتضمن البرامج التعليمية التي يعرضها التليفزيون للصفوف الدراسية المختلفة. ولكن التوزيع كان يصل إلى قمته في شهر رمضان لأن المجلة تنشر كوبون فوازير رمضان، كما تنشر نصوص الفوازير التي تبثها محطات الإذاعة المختلفة أو التي يعرضها التليفزيون، وكان هذا الكوبون شرطًا للمشاركة في السحب على الفائزين. ومع ذلك، كان هناك وقت يمر لا تصل فيه رسائل كثيرة من القراء، لكن هذا كان سرًا لا يعرفه إلا عم أحمد صالح والسكرتارية والأستاذ جلال وأنا. ومرة عقد الأستاذ جلال اجتماعًا موسعًا حضره جميع الصحفيين، وأخذ يتحدث عن توجه المجلة في المرحلة القادمة، إلى أن قال "عايزين نقول للقراء كذا"، فجاء صوت من خلفي يقول "طيب اتصل بيهم يحضروا معانا الاجتماع"، فضحك الجميع، وكتمت ضحكتي. وكان ذلك صوت الساخر الكبير فؤاد معوض الشهير بـ"فرفور".
تتدرج السخرية بين الصحفيين في هذه المجلة، وتتنوع من شخص إلى آخر. عم فؤاد، الشهير بـ فرفور، له باب يحمل لقبه ويقدم فيه سخرية فاقعة من الفنانين ومن المجتمع ومن القراء ومن نفسه أحيانًا، وهي تنتمي إلى هذا النوع من السخرية التي كان يمكنك أن تقرأها في مجلة البعكوكة لصاحبها عبد أحمد عبد الله، الشهير بـ ميكي ماوس. وأعاد ميكي ماوس إصدار المجلة في أواخر السبعينيات، بعد أن توقفت في نهاية الخمسينيات تقريبا، وكان أبي يراسلها من الصعيد، فتنشر رسائله في باب بريد القراء، ليكون ذلك مصدر فخر كبير له، ولي بالطبع. ولكن المجلة سرعان ما توقفت، ربما بسبب نقص التمويل، وربما لأن العالم صار أثقل ظلًا.
وفي شهر رمضان كان سامي السلاموني يكتب ما يسميه مجلة الترامواي، وهي ملحق ساخر يقع في منتصف المجلة التي كان قطعها عريضًا، لا يزال في ذلك الوقت، هي ومجلة المصور، ويُستخدم الدبوس في تجليدهما من المنتصف، قبل أن يتغير القطع لاحقًا، ويستخدم "البشر" في التجليد. وكانت سخرية سامي السلاموني من النوع الرائق الهادئ المحمل بأفكار عميقة، ودرجات متعددة من المجاز والمفارقات، لكن بأسلوب بسيط ولغة غير معقدة.
كانت لكل شخص في هذه الغرفة الصغيرة بصمته الساخرة، بدءًا من الأستاذ لطفي عزيز بسخريته التي ترتدي بدلة صيفية لموظف في مجمع التحرير، مرورًا بعم حسن عامر، مصحح اللغة العربية، بسخريته القصيرة المخفية ذات الجذور الأزهرية، وأحمد مرتضى عبده الشاعر متعدد المواهب في الصحافة، والصحفي الجدع، الغاضب دائمًا، المتمرد أبدًا، الخدوم لأصحابه وأحبائه، وصاحب الأفضال الكثيرة عليّ، وصاحب السخرية الانتقامية الفجة القاسية، وسخرية الحاج محمد جابر الذي كان مكتبه يقع على يسار مكتبي، وطالما حذروني من التعامل معه لأنه شخص عنيف، لكن من حسن حظي أنه كان يتعامل معي برقة ولين غريبين عليه إذا ما قارنتهما بفظاظته مع الآخرين، خصوصًا الذين يعتبرهم شيوعيين منهم.
وإذا مررت بسخرية عم مصطفى مجاهد التي حدثتك عنها، ستدرك أنها سخرية بلا هدف سوى تلطيف الأجواء والضحك لمجرد الضحك، ببساطة لأن الحياة لا تستحق لحظة جادة. ثم تصل إلى سخرية خيري شلبي، الطازجة كأسلوبه في بورتريهاته الأسبوعية، لكن المحملة بالكثير من المرارة والإحساس بعدم الإنصاف من الحياة. وكان لخيري شلبي أسلوب ليس له نظير في كتابة بابه الأسبوعي "بورتريه"، فهو يقدم وصفًا نادرًا للشخصيات، يستخدم فيه تعبيرات مدهشة، مثل "ضحكته تشبه صهللة القلل القناوي"، وهو يصف ضحكة أستاذي في الجامعة، الشاعر الدكتور مصطفى رجب الشهير بشعره الحلمنتيشي العبقري، أو عندما يصف رأس أحدهم بأنها "تشبه قلب خساية"، والكثير من التشبيهات التي لا يستطيع ابتكارها سوى خيري شلبي.
كنت أقرأ كتابات خيري شلبي وسامي السلاموني وجلال العشري، وأدب الرحلات الذي كان يكتبه الشاعر أحمد هريدي قراءة المعجب المنبهر بهذه المواهب الكبيرة، المتمني أن يحظى بربع قدرتهم على الكتابة الصحفية بأسلوب مميز خاص بكل منهم. كانت هذه المجلة، في كل مراحلها الزمنية، مخزنا للمواهب الكبيرة، وملتقى مهمًا للصحافة والأدب والفن لدى أغلب العاملين فيها.
لولا وجود عبد العاطي بين عمال الخدمات المعاونة لكنت أصغر العاملين في المجلة سنًا على الإطلاق، لكن يبدو أن عبد العاطي أصغر مني سنًا، وهو أمر لم أتيقن منه حتى بعد أن صرنا أنا وهو من الكهول. لكن المؤكد أنني كنت أصغر الصحفيين سنًا، وكان عليّ أن أبدو كبيرا بعض الشيء لكي أكون على قياس وظيفتي المهمة، فارتديت نظارة لها عدسات زجاجية، بدت كأنها نظارة طبية، لكي أكسر تلك الملامح الطفولية في وجهي. وكان ذلك بالطبع تصرف مراهق، لا يمتلك ثقة كافية في نفسه وفي قدراته، لكنه كان سلوكًا طبيعيًا، كما أراه الآن، في مثل هذه السن، وفي مثل تلك الظروف القاسية.
مع الوقت، كانت الموضوعات تتزايد، والمجهود الذي أبذله معها يتضاعف. كنت أعمل من الثامنة والنصف صباحًا إلى الثامنة أو التاسعة مساء في الأيام العادية، وأخرج من المجلة مصابًا بإجهاد شديد، ولا تكاد عيناي تريان سوى الأسطر والعناوين والأبناط وخطوط الزملاء. ولم يكن يعالجني من كل ذلك سوى لعب عشرتين طاولة على مقهى زهرة البستان، حيث يصطف الأصدقاء اللاعبون تحت اللافتة، والأصدقاء غير اللاعبين في الممر المؤدي إلى شارع طلعت حرب ومقهى ريش. كان الوقت يمر سريعًا في المجلة، ولم يكن ينبهني إلى انتهاء اليوم سوى صوت عم عبد الحميد وهو يودعني في السابعة مساء، بعد أن ييأس من انصرافي، قائلًا "ابقى شد سكينة الكهربا وأنت خارج يا أستاذ ياسر، تصبح على خير".
سريالية على ورق دشت
تختبئ سكينة الكهرباء في أحد أركان الغرفة المقابلة لغرفتي، وهي الغرفة التي يحتلها قسم التصوير. هي في حقيقتها غرفتان داخل غرفة، إحداهما في المدخل ويجلس فيها الحاج حبشي محمود رئيس القسم، مع الأساتذة المصورين سمير القفاص وحمدي عبد الصادق وعمر أنس وغريب أحمد غريب ومحمد السهيتي. وكانت الغرفة الداخلية، المظلمة دائما بحكم طبيعتها هي غرفة المعمل.
يدخل المصور إلى المعمل لتحميض أفلام الصور وطباعتها. لم يكن بإمكان أحد وقتها أن يتخيل أن هذه العملية التي يستخدم فيها الكثير من الأحماض، وتتم كاملة في الظلام، ستنقرض بعد سنوات ليست طويلة، وأن هذه الغرفة لن تكون موجودة أبدًا، لأن التصوير سيكون متاحًا للجميع، ولأن طباعة الصور ستكون جزءًا من ماضٍ يبدو بعيدا لمن عاصروه، ويبدو نوعًا من الخيال العلمي للأجيال التي لم تعاصره.
من وقت لآخر، كان الأستاذ جلال يدعو إلى اجتماع موسع، يحضره كل الصحفيين، صغارًا وكبارًا، ولا يتخلف عنه إلا المختلفون معه، وغير الراغبين في التعاون معه، وكان أبرزهم سكينة فؤاد مديرة التحرير رسميًا، وخليفته في رئاسة التحرير، والحاج محمد جابر سكرتير عام التحرير رسميًا، والذي لا يمارس أي مهام، والحاج محمد الغريب الذي كان متضامنا مع الأستاذة سكينة فؤاد في خلافها مع الأستاذ جلال، ومعهما الأستاذ فهيم أحمد.
في أحد هذه الاجتماعات، فاجأ الأستاذ جلال الجميع بقرار شديد الغرابة "كل حرف في المجلة هيمر على الديسك من النهاردة"، ثم التفت لي قائلا "خد مقالي يا ياسر. أنا أول واحد". ولم أفهم القرار، ولم أفهم حجم المسؤولية، ولم أفهم شيئًا. فجأة وجدت أمامي مقالات خيري شلبي وسامي السلاموني وسكينة فؤاد وجلال العشري وأحمد هريدي ومحمد جلال، فماذا أفعل بها؟ قررت أن أنقل مخاوفي للأستاذ، فدخلت عليه مباشرة، وقلت "أستاذ جلال، أنا لا أجرؤ أن أضع قلمي في مقال لخيري شلبي أو سامي السلاموني أو أي من هؤلاء". قال "لن تضع قلما، ولكن من الأسبوع القادم ستذهب إلى المونتاج في المطبعة، وعليك أن تكون مطلعًا على كل حرف في المجلة لكي تجيد التصرف في المطبعة".
انفتحت لي أبواب المطبعة إذن، تلك الأبواب التي ستأسرني في هذه المهنة إلى الأبد. كانت عملية المونتاج تتم على مرحلتين: مونتاج ما يسمى ملزمة الألوان كان يتم يوم الأحد من كل أسبوع، وملزمة الأبيض والأسود يوم الأربعاء، لتصدر المجلة في الأسواق يوم الجمعة في القاهرة، ويوم السبت، موعدها الرسمي، في بقية المحافظات. كانت عملية الطباعة أمرًا معقدًا للغاية، وكانت تستهلك الكثير من الوقت والجهد الذي يبذله عشرات الأشخاص في تخصصات مختلفة.
تحتوي الملزمة الملونة، التي يتم مونتاجها يوم الأحد، على موضوعات أغلبها خفيف، وليست له أية طبيعة خبرية، بحيث لا نضطر إلى تغييرها إذا ما جد شيء في الأحداث: حوار مع فنان، عرض لكتاب، نقد لفيلم أو مسرحية أو معرض فن تشكيلي، بورتريه خيري شلبي، وهكذا. وكان يجري إعداد هذه الملزمة تحريريًا بشكل متواز مع ملزمة الأبيض والأسود الخاصة بالأسبوع السابق عليها، لكي تكون جاهزة للإخراج يومي السبت والأحد، وللمونتاج يوم الأحد مساء. كانت دورة العمل شديدة التعقيد عندما أنظر إليها الآن.
عجلة الإنتاج
يكتب الصحفي موضوعه على ورق الدشت الذي كانت له استخدامات متعددة. وورق الدشت هو نوع من الورق الخشن الذي يميل لونه إلى الأصفر، لأنه ورق أعيد تدويره، وكان يأتينا من المطبعة بكميات يوزعها عم أحمد صالح حسب الاحتياج، وكان لي منه نصيب كبير، لأنني أعيد كتابة 80% من مواد المجلة تقريبًا. لكن ورق الدشت يستخدم لأغراض كثيرة أخرى، فأنت تجده في الحمام لتجفيف الأيدي، وفي البوفيه لامتصاص نقط المياة المتساقطة على الأرضية، وعلى بعض المكاتب لتجفيف العرق في نهارات الصيف الحارة. هو ورق يصلح لكل شيء تقريبا، بسبب قدرته على امتصاص السوائل، وهي الميزة نفسها التي توجب عليك أن تكتب عليه بالقلم الجاف، لأن قلم الحبر السائل سيتحول عليه إلى كتابة مشوهة مليئة ببقع الحبر، إضافة إلى الخط العريض ضائع الملامح.
وأنت لا تراعي نوع القلم الذي تستخدمه فقط عندما تكتب موضوعك، بل هناك قواعد لكل ورقة أيضا، لأن هناك الكثيرون ممن سيعملون على الورقة نفسها بعدك. وأولى هذه القواعد هي أنك تكتب على وجه واحد فقط من الورقة، لأن أي كتابة على الوجه الآخر لن ينظر إليها أحد ممن سيعملون بعدك. والورقة الأولى في الموضوع الذي تكتبه اسمها الغلاف، ولا يكتب عليها إلا عناوين الموضوع، واسمك، واسم المصور الذي رافقك، والصور التي تقترحها من الأرشيف، أو الصور التي يجري تحميضها وطباعتها في المعمل. وتخصص الورقة الثانية للمقدمة فقط، ليبدأ متن الموضوع في الورقة الثالثة. وفي كل الأحوال عليك أن تترك هامشا فارغا على اليمين بعرض سنتيمترين على الأقل، وهامشا آخر على اليسار بعرض سنتيمتر أو سنتيمتر ونصف، وأن تترك حوالي أربعة سنتيمترات أعلى كل صفحة وما يزيد على سنتيمترين أسفلها، وأن تترك مساحة سطر أو سطرين بين الأسطر التي تكتبها. سيأتي الكثيرون الذين يعملون بعدك في هذه الفراغات، ولن أكون وحدي من يفعل ذلك، ليساهم في هذه اللوحة التشكيلية السريالية التي ساهم فيها كل شخص بقلم له لون مختلف ومهمة مختلفة، إلى أن يصل موضوعك للمونتاج بسلام، ليبدأ رحلة أخرى قبل الطباعة.
لم يكن بإمكاني، في ذلك الزمان الذي ابتعد، أن أتخيل ما سيأتي به التقدم العلمي من دهشة لصناعة الصحافة كما عرفتها. والآن، بعد أن كنت أقضي 12 ساعة في صالة المونتاج، مرتين كل أسبوع، مع 25 على الأقل من زملائي العمال والفنيين، لكي نصدر أمر طباعة، أصبح بإمكاني أن أضغط على زر Enter في الكمبيوتر. وكلما رأيت زميلًا يضغط هذا الزر، الآن، أراني أجري مع زملائي القدامي داخل الكمبيوتر، لننفذ له ما يريد.