"صم بكم عمي فهم لا يرجعون" (البقرة: 18).
"ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنه ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم الى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا" (الكهف: 57).
"الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا" (الكهف: 101)
"لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد" (ق: 22)
نحن نرى ولا نرى، نسمع ولا نسمع، نعقل ولا نعقل.
هناك بعض العلامات التي لا نراها، التي ننكرها. نعتمد على العين لترى وعلى الأذن لتسمع ولكننا نغفل القلب الذي وظيفته أن يترجم تلك الرؤية وهذا السمع. والقلب مكانه العقل، لا العضلة القلبية التي في قفصنا الصدري. والصدر هو الجبهة، لا القفص الصدري، الذي وظيفته أن يترجم تلك الرؤية.
أؤمن بأننا نرى العوالم غير المادية ونسمعها ونشعر بها، لكننا ننكرها.
قلبنا أصبح ماديًا بضراوة، لم يعد يقبل إلا المادة ويتغاضى عن العوالم الأخرى التي نحيا فيها.
دربنا نفسنا منذ الطفولة على العمى، على الصمم، على الانعزال عن أي شيء لا يمكننا الإمساك به أو الإحساس به على بشرتنا.
حبسنا أنفسنا داخل المادة وبنينا لأرواحنا سجونًا من الحجارة بلا نوافذ ولا قضبان، نمضي في أغلال سجننا ونزيد تلك الأغلال ثقلًا مع مرور الزمن، لأننا في عالم لا يعترف إلا بما يراه بعينه ويلمسه بيده.
حتى أغلب من يدعون التدين هم جزء من ذلك العالم، يخبرونك أن تؤمن بالاله الذي صوروه حسب ذواتهم وفهمهم.
لا أحب العودة إلى تفاسير المدارس المؤسسية الإسلامية، سواء السنية أو الشيعية. أرى دائما أن التفاسير التي تعتمد على الرمز لا الترجمة هي الأقرب إلي بعد أن أعود إلى المعاجم وأصل الكلمات في اللغة.
فما حدث من إفساد لمقاصد هذا الدين في تنزيل الله الحكيم حدث بسبب السلطة ومؤسساتها. بدأت بمعاوية ولم تنتهِ إلى اللحظة.
المصحف لا يحتاج لمترجمين، وإذا عز عليك فهمه، فهناك من يعطوك العلامات لعلها تدل.
"وعلامات وبالنجم هم يهتدون" (النحل: 16).
والنجم هنا تحتمل معنيين، ككلمات كثيرة في التنزيل الحكيم. المعنى الآخر هو الآية أو بمعنى أدق نهاية الآية "نزل القرآن منجما"، فالنجم تعني الآية، وآيات المصحف هي نجومه "فلا أقسم بمواقع النجوم (75) وإنه لقسم لو تعلمون عظيم 76" (الواقعة 75-76)
فربط الحق سبحانه وتعالى العلامات التي نستدل عليه لنهتدي بها وآيات ذكره الحكيم ليعلمنا كيف نفهم القرآن. وقد قالوا قديما "القرآن يفسر بعضه بعضا".
عندما ننكسر تتشقق جدران السجن الذي بنيناه، فيتسلل شعاع ضئيل من الضياء إلى أرواحنا. ذلك الشعاع الذي بمجرد تجاوز المحنة نئده بقالب من الطوب والأسمنت.
"وإذا مس الإنسان الضُر دعانا لجنبه أو قاعدًا أو قائمًا فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضٌر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون" (يونس: 12).
"ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون" (السجدة: 21).
هذه الآية كانت فارقة لي شخصيًا. لم أفهمها حتى لحظة كتابة الفقرة السابقة رغم أنني فهمت معناها المباشر في يوم كان فارقًا بالنسبة إليَّ.
لا يتركنا الله في أي لحظة، لكننا من ندير ظهورنا له. نحن من نهرب منه، ونهرب من أنفسنا في هروبنا هذا.
يذيقنا الله من العذاب الدنيوي (الأدنى) قبل عذاب الآخرة (الأكبر) ليتسلل إلينا نوره لعلنا نرجع.
عندما نصم آذاننا ونستغشي ثيابنا ونحاول الهرب كي نؤمن أن لا شيء غير المادة، لأننا خائفون، ولأن النفوس الأمارة بالسوء والشياطين هم من يحكمون هذا العالم. فنخاف إن خالفنا الجماعة أن نصبح منحرفين عنهم فنُلفظ أو نتعرض للأذى.
حتى وإن كنا مؤمنين أو مسيحين أو يهودًا أو بوذيين الخ، حتى وإن كنا نقيم الشعائر ونؤدي الفرائض، لكننا محبوسين داخل ذلك السجن المادي الذي صنعه من يدعون؛ علماء، شيوخ، كهنة، حاخامات، معلمون، إلخ.
تلك الأطر التي تردد كلمات مختلفة لكن الهدف الأخير منها واحد لا يختلف؛ السيطرة، باسم الله أو الرب، المسجد أو الكنيسة أو المعبد. السيطرة على قلوب الرجال وأجساد النساء.
عندها نصبح عميًا وصمًا وبكمًا، ضالين يتبعون ضالين إلى الهاوية، إلا من رحم ربي. عندما نصبح عميًا وصمًا وبكمًا نصبح خائفين. فمن لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم، هو بالتأكيد خائف. ولا يوجد أكثر تدميرًا وضررًا للنفس من الخوف.
ذلك الخائف لا يجد أمامه إلا اتباع السائد. "قالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل" (الأحزاب: 67). يتبع من يسمون أنفسهم علماء دين وشيوخًا، وفي ظنه أنه هكذا نجى، على الرغم من أن الإسلام لا يوجد به ذلك.
عندما حملنا الأمانة، الإرادة الحرة، أعطانا الله آذانًا نسمع بها، وعيونًا نرى بها،, وقلوبا نحلل ونعقل بها، فلا أعذار لدينا.
وهبنا الله الإرادة الحرة كي لا نعلق أعذارًا على أحد، ونقول يوم القيامة "هؤلاء أضلونا".
يذيقنا الله من العذاب الأدنى كي تنكسر شقوق في جدران سجوننا المادية الذاتية، كي تعبر منها رحمته سبحانه بنا، كي تعبر لنا الروح، كي نستفيق من سباتنا، فالله لا يتركنا لأنفسنا، يحاول معنا دائما كي نهتدي؛ فنحن خلقه من صنع يده، وهو الرحيم بنا على تكبرنا وظلمنا لأنفسنا ولمن حولنا.
يرسل إلينا النور في الرحمة، ويرسله إلينا في العذاب.
لكن القليل من البشر من يتعلمون بالرحمة بينما تتعلم الغالبية بالعذاب. والعذاب الروحي-النفسي-العاطفي أشد وأقسى من العذاب المادي.
فأغلب البشر يركنون إلى الراحة فلا يتعلمون إلا إن اضطروا وأجبرتهم الظروف.
"الناس نيام، فإن ماتوا انتبهوا". الإمام علي بن أبي طالب.
الناس نيام في سجون أجسادهم، في سجون المادة، في سجون الشهوات والحاجة لملء فراغ هم من خلقوه عندما صنعوا سجونهم بأنفسهم.
وعندما نموت تتحطم تلك السجون وتنهار حجارتها، فنبصر، للمرة الأولى نبصر.
فيوقظنا الضياء الذي حبسته عنه حوائط السجن.
قبل ذلك يبتلينا الله بالعذاب لنستيقظ من السبات، ولكن الاستفاقة من سبات استمر لعشرات السنين، تكون بطيئة بعدد سنين العمى. كما أن البعض لا يستطيع الاستفاقة بل يستكمل نومه، لأنه ليس قادرًا على طمأنة نفسه إقناعها أن موعد الاستيقاظ حان، ولا يمكن أن نكمل في الغفلة أكثر من هذا.
فيظل في نومه.
تساءل أهل الكلام ومعهم أبو حامد الغزالي منذ مئات السنين، سؤال بسيط؛ "هل يمكن أن نكون نيامًا، وما هذه الحياة إلا حلم طويل؟".
ولأننا لم نعرف سوى نوعًا واحدًا من النوم، لم نفهم السؤال، واعتبرناه لغوًا فلسفيًا زائدًا عن الحاجة، فنحن هنا نفعل ما فعله آباؤنا، نمضي على طريقهم، وفقط.
تحولنا إلى بهائم تتبع قاداتها والأجيال السابقة، بلا محاولات جماعية لنقد، أو تفنيد، وإن حدثت فهي تحدث للهرب لا للاطمئنان.
فرضية المتكلمة عن هل يمكن أن نكون نياما، هي أكثر فرضية تستقيم في اعتقادي. لكن هذا النوم هو نوم الغفلة، الغفلة عن البحث، عن التفكير.
نحن السائرون نياما، الهاربون من مواجهة أنفسنا، الفارون إلى المادة، الخائفون من التصدي لخوفنا.
نحن الأطفال المسجونين في أجساد، والرافضون لقبول أننا لم نعد أطفالًا، بل حملنا المسؤولية.
ألم تحن اللحظة التي نستفيق من ذلك الوهم الذي ركنا إليه وتمادينا فيه؟
"ألم يأن للذين أمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون" (الحديد: 16).
مؤخرا آمنت أن كل ابتلاء هو رحمة من الله بنا لنستيقظ من غفلتنا، وما الكورونا وغيرها من الابتلاءات التي تحيطنا إلا الجرس الذي علينا الاستجابة له.