أعطني ساعة واحدة لأعد نفسي وحقيبتي سفر للذهاب إلى المطار: 10 دقائق للاستحمام، و10 لحلاقة الذقن إذا كانت هناك حاجة لذلك، و10 لارتداء ملابسي، ثم نصف ساعة لإعداد حقيبتين إذا كانت رحلتي أطول من عشرين يومًا، وربع ساعة لحقيبة واحدة إذا كانت أقصر من ذلك. عندما تسافر مرتين على الأقل شهريا، لعدة سنوات، تنظر إلى زوجتك وهي تعد حقائبها لقضاء العطلة السنوية، وتقول لها، في سرك طبعًا "حبيبتي، إنت نسيت تاخدي المطبخ". وحدث مرات أن سحبت حقيبتي، وذهبت إلى المطار، ثم جلست أشرب قهوتي الصباحية، ويدي على الكيبورد لأشتري تذكرة سفر إلى مكان ما. وسافرت، ببساطة هكذا.
الآن أدرك أنني لن أفعل ذلك في المستقبل، ليس لأنني لا أرغب، ولكن لأنني لن أستطيع.
ربما لن يصدق أحفادي أنني كنت أسافر بكل هذه البساطة. وجد ابني وابنتي صعوبة كبيرة في استيعاب الطريقة التي كنت أتصل بها تليفونيًا بأبي وأمي. كان عليّ أن أذهب إلى السنترال وأعطي الموظف رقم تليفون الجيران، ثم أجلس في انتظار أن ينادي الموظف رقمي مرفقا برقم الكابينة الخشبية التي سأتحدث منها. وأنتظر على الخط إلى أن ينادي الجيران أبي أو أمي، أو كليهما، لو كنت محظوظا بوجودهما، ولو كنت أكثر حظًا بسماعهما النداء سريعًا. لكن هذه الطريقة تطورت في المستقبل، الذي أصبح ماضيًا الآن، عندما ظهرت تليفونات العملة في الشوارع.
كانت هذه التليفونات قفزة كبيرة في عالم الاتصالات، بالنسبة لنا نحن المغتربين، فهي توفر الكثير من الوقت المهدر في الانتظار في السنترال، وتوفر الكثير من النقود في انتظار أن ينادي الجيران على أحبتك. أتذكر، الآن، صدمة ابني عندما حكيت له أن العالم لم يكن يعرف الموبايلات قبل سنة واحدة من ميلاده، وأننا كنا نتواصل بهذه الطريقة. وأستطيع أن أتخيل صدمة أحفادي إذا أخبرتهم بأنني كنت أسحب حقيبتي إلى المطار، وأسافر، هكذا بسهولة.
سيبقى فيروس كورونا معنا لفترة طويلة على الأرجح، وقد لا يغير اكتشاف لقاح له كثيرًا من الممارسات التي نتجت عن معايشته. الأسبوع الماضي، قرر صديق سوري، من معتادي السفر مثلي، أن يسافر من هولندا إلى لبنان ليقضي أيامًا مع أسرته. لم يكن الأمر بالسهولة التي اعتادها، إذ كان عليه أن يُجري فحص كورونا قبل 24 ساعة من سفره، وأن يجد مطارًا مفتوحًا، وأن يجد رحلة قصيرة ذات سعر معقول. استغرقت هذه العملية منه حوالي 10 أيام، إلى أن استقر في النهاية على أن يسافر من هولندا إلى بلجيكا بالأتوبيس، وأن يسافر من مطار بروكسيل إلى بيروت.
تغير العالم كثيرًا بعد كورونا، وأصبح على معتادي السفر من أمثالي أن يتعايشوا مع فكرة حظر التجول أو التباعد الاجتماعي، لكن هذا الأمر لم يكن سهلًا. استخدمت حيلا كثيرة لكي أتغلب على هذا "السجن الفيروسي": شاهدت مرارًا صورًا التقطتها في بلاد سافرت إليها، وذهبت إلى جوجل إيرث لأقوم بجولات افتراضية في أماكن أحبها ولا أستطيع الوصول إليها الآن، وشاهدت صورًا كثيرة على جوجل ستريت ڤيو، ولكن هذا كله لم يحررني من قيود الفيروس، لأنه يعمق داخلي شعور الزنزانة الانفرادية، ويجعل غربتي في عالم كورونا الجديد أكثر حدة وقسوة.
عالم أصغر من فيروس
لولا الخيال لكنت الآن سجينًا في عالم أصغر من فيروس. استدعيت الخيال، الذي أنقذني كثيرا في حياتي، لكي أجعل عالمي أكثر اتساعًا، وقررت أن أكرر خبرتي التي اكتسبتها في المستشفى. عندما توشك الأربعينات من عمرك على الانتهاء، يتبقى لك الكثير من طيش الشباب الذي سيواجه بشكل أو بآخر شيخوخة تزحف إلى جسدك بلا انتباه.
كان ابني لا يزال معي في هولندا عندما قررنا الخروج معًا لقضاء اليوم في وسط مدينة لاهاي. في الطريق إلى المحطة، شاهدنا الترام قادمًا، فطلبت منه أن يسابقني جريًا لنرى أيّنا سيلحق بالترام أولًا. إذا أردت نصيحة مني، فهي أنك لا يجب أبدًا أن تدخل صراعا مع الزمن، وهذا ما توصلت إليه من نتيجة هذا السباق وتوابعها. فاز ابني، بحكم الزمن بالطبع، لكن الأمر لم يتوقف عند فوزه. بعد لحاقنا بالترام، شعرت بأنني سيغمى عليّ، ثم جاءني صوت ابني من بعيد، وهو يحاول إفاقتي، فأفقت لأجد نفسي ملقى على أرضية الترام. في المحطة التالية، هبطت من الترام كأي مصري أفاق من إغماءة ليكمل طريقه، كأن شيئا لم يحدث. استوقفتني امرأة قدمت نفسها لي بوصفها طبيبة، وقالت إنني يجب أن أخضع لفحص لمعرفة سبب هذه الإغماءة. وأمّنت على كلامها لكي أكمل طريقي، لكنها استوقفتني، وقالت إنها ستطلب الإسعاف الآن لتفحصني. بدا لي في الأمر نوع من المبالغة، لكنها اتصلت، وطلبت أن أتمدد على مقعد في المحطة إلى أن يأتي طبيب الإسعاف. جاء طبيب منفردًا على موتوسيكل، وفحصني، وقال إنني بخير لكنه سيستدعي سيارة إسعاف لاصطحابي إلى المستشفى، بهدف إجراء المزيد من الفحوص.
تكتشف في مواقف كهذه ما الذي يعنيه كونك إنسانًا في بلاد حلمت بأن تكون بلادك مثلها. تقول خبرتي المحلية إن أي شخص قد يتعرض للإغماء، وتكفيه رشة عطر من حقيبة راكبة في المترو، أو "رش شوية مياه" على وجهه، ليفيق، قبل أن يمضي في طريقه. وتقول هذه الخبرة المحلية إن الإغماء شيء طبيعي ما تبعته إفاقة، لكن الأمر هنا، عند الهولنديين، مختلف كثيرًا، فكل إغماءة لا بد لها من سبب، ولا بد من معرفة هذا السبب وعلاجه. استسلمت، ضاحكًا، للمزيد من الفحوص التي انتهت إلى ضرورة نقلي إلى مستشفى للقلب، لإجراء فحوص أخرى. وهناك، كان علي أن أنتظر 15 يوما بأكملها في انتظار أن يحددوا لي موعدا لإجراء قسطرة في القلب في مستشفى ثالث أكثر تخصصًا.
كيف أنقذتني المستشفى من عزلة كورونا؟
بعد يومين في السجن الهولندي الأبيض، أصابني الملل، فطلبت من الأطباء أن أخرج من المستشفى، وأن يتصلوا بي للحضور عند تحديد موعد القسطرة، فرفضوا بشكل قاطع. قلت لهم إن بيتي لا يبعد أكثر من خمسين مترًا عن المستشفى الذي نقلتني له عربة الإسعاف، فقالوا إنهم لا يبعدون أكثر من عشرين ثانية عن قلبي، ويراقبونه 24 ساعة على الشاشة المعلقة أمامهم، ورفضوا. وكان علي أن أستسلم لإحساسين مختلفين: الأول هو أن صحتي مهمة لأنني إنسان، وحياتي مهمة كذلك لمجرد أنني إنسان، والثاني هو أنني سأنتظر لوقت غير معلوم في هذا السجن الأبيض الذي يسمونه مستشفى.
طوال إقامتي في ذلك المستشفى، لم يعطوني دواء واحدًا، واكتفوا بالوجبات التي يقدمونها. كل صباح تمر عليك ممرضة التغذية، وتقدم لك قائمة الطعام، كأي مطعم، لتختار وجبتك. كان جديرًا بالملاحظة أن القائمة تحتوي على وجبة "حلال" للمسلمين، ووجبة "كوشير" لليهود، وثالثة للسيخ، وهكذا. تريد قائمة الطعام أن تؤكد، ربما، على إنسانية المرض وعالميته بغض النظر عن عرق المريض أو لونه أو جنسه أو ديانته. كانت الغرفة تضم ستة أسرّة، تفصل ستارة بين كل سرير وآخر عند الحاجة لذلك. ولم تكن هناك غرف للنساء وأخرى للرجال، ربما كنوع آخر من التأكيد على إنسانية المرض، وعدم تفرقته بين الجنسين، أو ربما لأن الجنس لا يقود العلاقة بين الجنسين في هذه الثقافة. ولكن هذه المعاملة الإنسانية وحدها ليست كافية لقبول السجن الأبيض، ولذلك، ربما، تمر طبيبة نفسية كل يومين وتجلس إليك لتقيم حالتك النفسية أثناء بقائك في المستشفى، منتظرا، أو مريضًا، أو في طريق التعافي.
كان علي أن أدير أيام الانتظار غير الموقوتة تلك، فقررت أن أحوّل الغرفة إلى حي سكني: جعلت كل سرير بيتًا، والمسافات بين الأسرّة جعلتها شوارع، فاتسع العالم قليلًا بالنسبة لي، ثم اعتبرت الغرف الأخرى أحياء سكنية مجاورة، والممر طريقًا سريعًا. كانت هناك طاولة ومجموعة من الكراسي بالقرب من المصاعد، فسميت هذه المنطقة "وسط البلد"، وكنت أذهب إليها للتنزه وشرب القهوة من وقت إلى آخر، ومن النافذة كنت أراقب المدن/ البيوت الأخرى، وكنت أراقب العالم الافتراضي الموجود خلف الزجاج، العالم الذي كان حقيقيًا قبل دخولي إلى المستشفى، فرأيته لوحة، مجرد لوحة، تزين عالمي الداخلي الذي جعلته متسعًا بقليل من الخيال. أنقذتني هذه التجربة عندما جاءنا فيروس كورونا، أنقذني الخيال من الملل ومن ضيق الحال.
في السرير المجاور لي في المستشفى؛ رقدت امرأة تجاوزت الثمانين من العمر، أجريت لها جراحة قلب مفتوح، وكانت تمسك مثلي بالموبايل لتتصل بأحبتها من وقت إلى آخر. كيف تغيّر العالم بالنسبة لهذه المرأة التي قضت شبابها في الحرب العالمية الثانية؟ وكيف استقبلت هذا الجهاز الذي تمسكه في يدها؟ أتذكرها الآن، وأنا أتخيل لو أنني عشت خمسين عاما أخرى، وأتساءل: هل سأكون قادرًا على استيعاب ما سيحمله لي المستقبل من تغيرات؟ هل سأمتلك هذا القدر من الشجاعة الذي امتلكته هذه المرأة؟ وما الذي سأرويه لأحفادي عن الفيروس الذي اجتاح أرواحنا؟ لا أعرف، لكنني أعرف أنني سأحمل معي إلى المستقبل، وسأفعل ما يلي:
1- الخوف، والمزيد من الخوف.
2- الخوف من البشر، كل البشر، واستيعاب خوفهم مني.
3- سأقول لهم: كنا نلامس أحباءنا.
4- سأفهم أن العالم يتكون من كبسولات مغلفة، تحاول كل كبسولة أن تحمي نفسها، وأن تقلل احتكاكها بالكبسولات الأخرى، ما أمكن.
5- سأقول لهم: كنا نذهب إلى مكاتبنا للعمل (ولن يفهموا السبب).
6- سأقول لهم: لم تكن العلاقات العاطفية افتراضية بالكامل، لأننا كنا نحتاج أن نشم من نحب.
7- سأفهم أنه ليست هناك ضرورة لإظهار الأنف والشفتين، وأن هذين الجزءين من وجوهنا لم يعودا جزءًا من الجمال البشري.
8- سأشرح لهم كيف كانت تلك الشرائح المزروعة في أدمغتنا مجرد خيال في عقول مؤيدي نظرية المؤامرة، الذي اعتقدوا، في أيامي، أنه لا يوجد فيروس اسمه كورونا.
9- سأحمل كثيرًا من الذكريات، وسيتعامل أحفادي مع حكاياتي بقدر كبير من الدهشة والسخرية.
10- سأكتب وصيتي، حتى لو لم يكن هذا ضروريا "اتبعوا المستقبل دائما".