في الخامس من فبراير/ شباط 2020، كانت سوسن* تحاول إيداع والدها مستشفى الصدر بحي المعمورة بالأسكندرية، حيث تعيش وأسرتها، على أمل إجراء عملية بزل لمياه تراكمت على رئتيه وأدت إلى مزيد من التردي في حالته الصحية.
ولكن خابت الآمال والمساعي حين رفضت المستشفى استقبال الأب بعد أن كشفت التحاليل أن معاناته لم تكن من الرئة فقط بل هناك ما هو أسوأ، فيروس نقص المناعة المكتسبة (اﻹيدز). وطوال ساعات حاولت سوسن إنقاذ والدها، لكنَّ أجله انقضى قبل انقضاء اليوم.
فقدت اﻷسرة ربّها بمرض مخيف، فكان لزامًا عليها الاطمئنان على الأم. ولم يمرّ كثير من الوقت حتى تبيّن أن العدوى انتقلت إليها كذلك، لتبدأ سوسن رحلة جديدة لعلاج والدتها لم تكن أسعد حظًا من رحلتها مع الأب الراحل. فمجرد خضوعها للفحص أصبح مهمّة شبه مستحيلة في ظل هجوم كورونا الذي كان له تأثير على الكثير من المتعايشين مع الإيدز.
خوفًا من العدوى: علاج بالإنابة
"ماعرفتش ادخّل ماما مستشفى حميات محرم بك، وخايفين عليها من عدوى كورونا ﻷن مفيش عندها مناعة. فحاليًا أنا اللي بروح علشان اعرف الدواء المطلوب ليها واصرفه". تقول سوسن التي تنوب عن والدتها في تسلم الأدوية من مستشفى "يكتفي بصرف المسكنات خافضة الحرارة".
تضيف الفتاة للمنصة "لحد اللحظة دي ماما ماحدش كشف عليها، وقاعدة في البيت وأنا اللي بتحرك" لصرف الدواء الذي قد يتأخر أحيانًا "لما روحنا الحميات في البداية وحللنا لماما، بلغونا شفهيًا إن عندها الإيدز، وطلبوا إنها تروح بصورة البطاقة للمديرية علشان تعمل إجراءات الكشف وصرف العلاج، لكن في الفترة دي ماما البطاقة ماكنتش معاها، كانت بتجددها علشان تكتب أرملة وتصرف معاش بابا".
كان خيار الفحوصات متاحًا لسوسن حتى أسابيع مضت، وقبل أن تصبح مستشفيات الحميات في خدمة الوضع الجديد الذي فرضه كورونا، بموجب قرار في 9 مارس/ أذار 2020، يقضي بأن يجرى فيها فحص فيروس كورونا وكذلك تكون مقرًا للحجر الصحي المؤقت، ثم مقرًا للعزل.
تعيش الأسرة حاليًا على 1500 جنيه شهرية من الشركة التي كان يعمل بها الأب، لحين صرف المعاش الذي تعوّل سوسن عليه في إعالة والدتها ربّة المنزل وإخوتها الثلاثة الأصغر منها.
المسكنات التي تتسلمها سوسن من على باب المستشفى لا تجدي نفعًا مع والدتها التي تسوء حالتها يومًا بعد يوم "هي حاليًا خسّت جدًا وعلى طول نايمة عندها صداع وسخونية. وأنا مش عارفة أعمل إيه. خايفة انزلها تتعدي بكورونا وتعدينا، وخايفة تفضل تاخد مسكنات بس وماتاخدش علاج الإيدز، فده يخليها تتعب أكتر".
سوء معاملة
تنتاب سوسن مشاعر الارتباك والحيرة، لكن مازن يشعر بأمر آخر هو "التجاهل" من جانب المتعاملين معه كمتعايش مع الإيدز داخل مستشفى حميات العباسية، إذ يحكي الشاب للمنصّة عن "واقع ملموس يتعرض له" عند تعامله الآن مع بعض العاملين في المنظومة الصحية من "الوصم والإهمال".
وفقًا لأحدث إحصاءات هيئة اﻷمم المتحدة والصادرة عام 2018، فإن إجمالي عدد متعايشي الإيدز هو 22 ألف مريض، إلا أن منحنى الإصابات تصاعدي، قالت المنظمة الدولية إنه يتراوح بين 25% إلى 30% سنويًا خلال العقد الماضي.
يقول مازن "بنتعرض لمعاملة مش كويسة من بعض الدكاترة في متابعة العلاج معانا، مكبّرين دماغهم وقليلين اللي بيساعدوا المرضى. لكن في الأغلب لو بتحس بتعب الاستشارة معدومة ومفيش متابعة، أنا على سبيل المثال اتاخد مني أربع عينات للتحليل، وكل مرة اسأل عليها إما يتقال لي الجهاز عطلان أو إنت ماحللتش أساسًا؛ فزهقت لدرجة إني مابقيتش أحب أروح احلل ولا أتعامل مع حد هناك".
أحد الأسباب التي دفعت مازن للابتعاد أيضًا كانت حرصه على خصوصيته بعد سنة من تعامله مع المستشفى حين اكتشف إصابته بالمرض "الخصوصيه معدومة، بنكون قدام الناس، بعد ما نقلوا مكان صرف العلاج عند البوابة، وده مكان استقبال؛ فبقيت بروح أصرف العلاج وامشي فورًا".
حاولت المنصّة على مدار أيام، التواصل هاتفيًا وعبر الرسائل النصية مع دكتور بيتر وجيه، القائم بأعمال مدير مستشفى حميات العباسية، للتعليق على هذه الشكاوى، لكنها لم تتلقَّ ردًا حتى موعد نشر التقرير.
صرف العلاج يواجه فيه الشاب غير القاهري، الذي يدرس ويعمل في العاصمة، مشكلات "مفيش نتايج تحاليل بتسلمها، وأنا كطالب عايز اغيّر علاجي من وقت أخدته ﻷن له أعراض نوم كتير وألم بالظهر ودوخة واكتئاب، لكن هما مكبرين دماغهم، ومفيش وقت محدد للتحاليل، اللي المفروض تكون كل 6 شهور كمتابعة للحالة، وحتى الإجراءات الاحترازية لكورونا مفيش اختلاف عن الوقت العادي".
لا طائرات.. لا علاج
على ما يواجهه مازن من مشكلات، إلاّ أنه في النهاية يحصل على علاجه، وهو بهذا أفضل حالاً من فئة أخرى هي المتعايشين اللاجئين، تتحدث عنها أمينة عجمي، رئيس مجلس إدارة جمعية صحتي من بيئتي، والمعنية بتقديم الدعم لمتعايشي الإيدز، وهم الذين لم يستطيعوا تأمين دواءهم بعد وقف الرحلات الجوية بسبب جائحة كورونا "مفيش طيران؛ فمفيش علاج خالص. واللي كان بيتبعت لهم من العباسية من الحكومة المصرية انقطع. فالمتعايشين اللاجئين في كارثة حقيقية".
بالرغم من شكاواه، لكن مازن يشهد بوجود إجراء جيد اتخذه المستشفى "الحاجة اللي تُحسب لهم إنهم صرفوا لي العلاج شهرين بدل شهر، مارس وأبريل، ودي أول مرة يعملوا كده". ولا يعلم الشاب سببًا لهذا اﻷمر، لكنه يمتن له بسبب خوفه من كورونا "عرفت إن فيه مرضى بكورونا متحولين هناك، وبصراحه أنا مش حِمل إصابات تانية".
ما يتعرض له مازن في القاهرة، هو نفسه ما يحدث مع فادي في الدقهلية، سواء بصورة إيجابية إذ صرفت له مستشفى حميات المنصورة علاج شهري مايو ويونيو دٌفعة واحدة ﻷول مرّة منذ علمه بمرضه، أو سلبيًا فيما يتعلق بـ"انعدام الخصوصية".
يطالب فادي بمزيد من الاحتياطات في هذه النقطة "لازم احنا كمتعايشين ماحدش يعرف عننا أي حاجة، علشان نظرة المجتمع للمرض ده".
ويحكي للمنصّة عن مشكلات واجهته مع الروتين، تؤكد ما تواجهه سوسن حاليًا من مشكلات لصرف علاج والدتها "اضطريت انتظر 4 أو 5 شهور لغاية ما قدرت أصرف علاجي، والكلام ده من فترة، وكان صرف العلاج بطلوع العين. فالله أعلم دلوقتي اللي بيتصاب بيتصرف له العلاج في فترة قد إيه".
مشكلات فادي مع الإجراءات لا تقتصر على السرّية أو بطء صرف العلاج، فهناك أزمة أخرى، المتابعة "أصلاً مفيش حد بيسأل فينا. إحنا بتاخد علاجنا ونروح وبس. ولا حد بيتابع ولا بيكشف. هو أول تحليل لما عرفت إنه إيجابي، وبعدها ومفيش أي تحليل والتعامل شفهي".
نقص أدوية
تؤكد عجمي صحّة شكاوى عدم المتابعة، قائلة "أبرز مشكلات المتعايشين التي نتلقى منها شكاوى الآن هي التوقف التام للخدمات في مستشفيات الحميات سواء الفحوصات أو التحاليل الدورية، واقتصار اﻷمر حاليًا على توزيع العلاج فقط، بالإضافة إلى نقص بعض الأدوية بسبب توقف حركة الطيران".
في أبريل/ نيسان الماضي، طالبت منظمة هيومان رايتس ووتش السلطات المصرية بـ"ضمان استمرار حصول حاملي فيروس نقص المناعة البشرية على الأدوية بأمان"، وكذلك "السماح للمنظمات غير الحكومية التي تثق بها الفئات المهمشة بتشغيل مراكز استقبال تُوفّر خدمات فحص وعلاج فيروس نقص المناعة البشرية، أثناء أزمة فيروس كورونا وبعدها".
وفي بيان ذكرت المنظمة الحقوقية الدولية أنه "يجب على السلطات المصرية إنشاء مراكز بديلة لتوزيع حصص دوائية تكفي حاملي فيروس نقص المناعة البشرية لأشهر عدة، وذلك لتقليل زيارات المستشفيات واحتمال الإصابة بفيروس كورونا".
وفقًا لعجمي فإن توقف المستشفيات عن تقديم خدمات الفحص والمتابعة سببه "انشغالها بمصابي كورونا" وهو اﻷمر الذي ظهر أثره مع حالات تتابعها هي أيضًا "في الفترة الماضية كنت مستنية نتيجة تحاليل طفل صغير، لكن لسه ماظهرتش حتى اﻵن، ﻷن الدكتورة المسؤولة عن تحاليل الأطفال في المعامل المركزية اتصابت بالكورونا".
تؤكد السيدة ما سبق ذكره من شكاوى من مستشفى العباسية بقولها "حقيقي إن مفيش مراعاة في مستشفيات الحميات، وخاصة العباسية، علشان دي تحديدًا عليها حمل كبير جدا من مرضى الكورونا"، مضيفة أن "من أشكال الإهمال هو رفض مستشفيات الحميات دخول الحالات خالص، وبيحاولوا يصرفوها بأي شكل. وده ﻷن طبعًا كل الدكاترة متوجهين لكورونا".
وتختتم عجمي بالإشارة إلى المحصّلة النهائية لمواجهة المتعايشين فيروس كورونا قائلة "الناس حاليًا قررت تحمي نفسها بنفسها وقعدت في بيوتها، والجمعيات الأهلية بتحاول. يعني مثلاً احنا وزعنا كمامات وكحول على متعايشين. لكن ماظنش إن فيه إجراءات بشكل رسمي ملموسة بالنسبة للمتعايشين".
* جميع أسماء المتعايشين مستعارة بناءً على طلب أصحابها.