قبل عام؛ بدأ مدخنو الشيشة في المقاهي مرحلة جديدة عنوانها: لا شيشة بعد الآن، في إطار إجراءات مكافحة انتشار فيروس كورونا. وخلال هذا العام تبدل المشهد في المقاهي الشعبية إلى أكثر من صورة، بدأت بتغيير أنشطة بعضها لمواجهة خسائر إغلاق فرضه مجلس الوزراء زادت مدته عن ثلاثة أشهر، قبل أن يُسمح بإعادة فتحها مرة أخرى مع الامتناع عن تقديم الشيشة لروادها الذين تبدلوا على مدار اليوم بأعداد ضئيلة، لم تكن كافية لإعادة تلك المقاهي لوضعها الاقتصادي ما قبل الجائحة.
الآن، وبعد نحو 401 يوم على قرار الحكومة، لا يبدو أن ثمة حظر حقيقي لتداول الشيشة على المقاهي التي قرر كثير من أصحابها تقديمها بشكل علني، دون خوف من القيود التي فرضتها الدولة، لروادها الذين لم تمنعهم التحذيرات المتتالية من أخطار انتقال الفيروس عن ممارسة ما يبهج مزاجهم الشخصي.
لا نخشى الكوفيد
على مقهى بالسيدة زينب، يرد أحد مدخني الشيشة على عامل المقهى، الذي كان يبرر للمنصة أن ما يقوم به لا يشكل خطورة على حياة المواطنين، ولا يسبب انتقال الفيروس، قائلًا له "سيبها على الله، إحنا ربنا حامينا".
المقهى الذي زارته المنصة واحد من ثلاثة مقاه متجاورة تقدم الشيشة علنا في منطقة وسط البلد بالقرب من أحد أقسام الشرطة، لكن العلنية لم تكن منهجها منذ بداية إغلاق المقاهي مع انتشار الفيروس في مارس/آذار من السنة الماضية. يقول محمد، عامل تقديم الشيشة، إن المقهى التزم بمنعها لمدة 6 أشهر " لكن في شهر سبتمبر بدأنا ننزلها في المتداري كده، جوه القهوة، وبعد شوية لقينا الدنيا بتفتح شوية بشوية، يعني الجوامع فتحت، والحفلات والأسواق، فرجعنا من شهر كده ننزلها عادي في الشارع".
في كلمة ألقاها الرئيس عبد الفتاح السيسي، في السادس عشر من فبراير/شباط الماضي، بمناسبة افتتاح المجمع الطبي المتكامل بالإسماعيلية، اعترف أن المواطنين لم يتعاملوا بجدية كافية مع الجائحة. في الوقت الذي رفضت فيه الحكومة عدم تكرار تجربة الإغلاق لأسباب اقتصادية، وحاولت بدلًا من ذلك التوازن "النظري" بين السماح بممارسة الأنشطة العامة التي لا تعرقل حياة المواطنين ولا تؤثر على دخولهم، مع الالتزام في الوقت نفسه بكافة الإجراءات الاحترازية.
ألقى الرئيس السيسي دعابة في نهاية كلمته عن التزام المواطنين بالاجراءات الاحترازية "الناس عايشة حياتها عادي خالص".
يترافق ذلك الخطاب الذي كرر الرئيس معناه بصيغ مختلفة في عدد من كلماته ضمن المحافل الرسمية، مع خطاب آخر يعتمد على الأدعية مثلمًا جاء في خطابه الأخير الذي ألقاه بمناسبة الاحتفال بتكريم الأم المثالية، مؤكدًا خلاله أنه لا ينفك عن الابتهال بترديد دعاء واحد منذ بداية الجائحة كي تمر منها مصر بسلام.
وعلى الرغم من قرار وزارة التنمية المحلية بتغريم المنشأة التي تسمح بتقديم الشيشة 4 آلاف جنيه بالإضافة إلى تشميعها؛ لا يخشى محمد ومعه صاحب المقهى من عرض الشيشة في الشارع، لأنهما حسب ما صرحا به للمنصة "مأمنين نفسنا"، بعد اتفاق مع بعض موظفي السلطات المحلية "لينا كلام معاهم، ومنهم اللي اتفقنا معاه أول ما يكون في حملة يبلغنا في التليفون، نلم الحاجة، لحد ما الحملة تمشي ونرجع تاني".
وبدلا من الأربعة آلاف جنيه قيمة الغرامة الفورية التي من المفترض أن تحصّلها السلطات من المخالفين، يدّعي أصحاب المقاهي الثلاثة أنهم يتفقون مع بعض هؤلاء الموظفين على ترضية تتراوح ما بين 500 إلى 800 جنيه لتجنب خطر الإغلاق أو مصادرة الشيش، كما يؤكد أمين، مالك أحد المقاهي، للمنصة أن "في قهاوي حوالينا قفلت علشان ماكانتش مأمنة نفسها، وخسرت زباينها".
يتعارض حديث أمين مع الأعداد الضخمة التي تعلنها وزارة الداخلية والجهات الإدارية بالمحافظات المختلفة للمقاهي والشيش التي يتم ضبطها شهريًا، ففي فبراير الماضي أعلنت محافظة القاهرة أنها تمكنت بالتعاون مع الشرطة، من مصادرة قرابة 32 ألفًا و824 شيشة، خلال خمسة أشهر فقط.
يقول أمين "كده ولا كده بندفع فلوس علشان نفرش الكراسي في الشارع، يبقى أحسن لي أنزل الشيشة وماخسرش زبوني".
يتكرر الأمر نفسه مع الفيومي، صاحب أحد المقاهي في منطقة حدائق الأهرام، الذي تعرّض لحملة أمنية أغلقت مقهاه منذ شهرين، لكن أنقذته ما أسماها بالواسطة "حد من زبايني له قريب واصل، خلص الموضوع بمكالمة تليفون، والشيش اللي اتصادرت رجعت وفتحنا القهوة تاني بعد ما قفلنا 48 ساعة بس".
الشيشة تصرف على البيت
يستهلك المدخنون المصريون نحو 50 ألف طن سنويًا من تبغ المعسل، فيما تكشف تقديرات غير رسمية أن عدد المقاهي في مصر يتجاوز 1.5 مليون مقهى، تضم العاصمة وحدها مايزيد عن 150 ألف منها، ويعوّل أصحاب تلك المقاهي على روادها من مدخني الشيشة، ويعتمدون كثيرًا على العائد من تقديمها للزبون الذي غالبًا يتناولها مع مشروبات أخرى تقدمها المقهى، وهو ما تأثر كثيرًا منذ الجائحة وقرار الحظر، حسبما يؤكد رئيس شعبة المقاهي بالإسكندرية، عفت صلاح، في تصريحات صحفية.
ويشرح أمين للمنصة الوضع قبل إتاحته وزملائه الشيشة، قائلًا "مع أول الأزمة القهوة كان ممكن ميجيش عندي 10 زباين في اليوم، بعد ما كان ممكن يدخل لنا من 60 لـ70 زبون في الليلة الواحدة. الكل كان خايف وإحنا كمان كنا خايفين"، لكن ذلك الخوف سرعان ما تحول إلى "الناس عارفة مصلحتها و اللي مش هيشرب عندي هيشرب عند غيري"، لتبدأ تلك المقاهي في تقديمها مرة أخرى وتتبدل معها أوضاعهم "بقى بيدخل لنا في اليوم من 40 لـ50 واحد، واللي بيجي وبيعرف إن القهوة بتقدم الشيشة، بيقول لأصحابه والرِجْل بتزيد".
غير أن تلك المقاهي التي كانت تبحث عن سبل إعادة مصدر دخلها الرئيس؛ صارت ترفع من سعر تقديمها ذلك الصنف المحظور من الدخان، حيث ارتفع سعر حجر المعسل إلى 15 جنيهًا بعد أن كان ثمنه 3 جنيهات على أقصى تقدير في بعض مقاهي المناطق الشعبية.
يقول أصحاب المقاهي وروادها بأن "الشيشة مش هتنقل الوباء، اللي ممكن يجي من حاجات كتير أولها الزحمة اللي في كل حتة"، في الوقت الذي تتجاوز أعداد الإصابات في مصر 2.9 مليون إصابة وفق إحصائية أنجزها المركز المصري لبحوث الرأي العام بصيرة، وباعتراف مسؤولين حكوميين قالوا إن الأرقام المعلنة للإصابات لا تعكس الأرقام الفعلية. وبالرغم من تحذير منظمة الصحة العالمية من تدخين الشيشة باعتبارها "بيئة صالحة لانتشار الفيروس حيث إن كل جزء فيها يعد مصدرًا للعدوى"، فإن عامل المقهى الذي التقته المنصة يقتنع بأن الكثير من الأمور والممارسات التي تخالف التدابير الاحترازية تمر بـ"لطف الله" لأن "مصر ربنا حاميها من الوباء"، و"علشان إحنا عارفين ربنا"، وفي ظل حرصه وزملائه من العاملين في المقاهي المختلفة على تقديم الشيشة بـ"لي" (خرطوم) طبي.
.. أو نموت دون الشيشة
رغبة أصحاب المقاهي في إعادة الشيشة يقابلها في الوقت ذاته رغبة رواد القهوة أنفسهم، الذين لم تنسهم أخطار الجائحة مذاق دخانها، فمروان عمر الذي يحرص على ارتياد إحدى المقاهي بمنطقة قصر العيني، يقول للمنصة "أنا عارف كويس التحذيرات اللي بتتقال عليها في الوقت ده بسبب كورونا، بس الحقيقة مش قادر مشربهاش، وفرحت جدًا لما رجعت القهوة، وأول ما شمّيت ريحتها معرفتش أقاومها، آه أنا خايف طبعًا من العدوى، بس بجيب معايا اللَي بتاعي علشان يقلل شوية فرص نقلها، واحنا برضه بنشربها في الشارع حتى لو في حتة مقفولة من القهوة، بس الهوا ده بيساعد إن الفيروس يطير في الجو وتبقة فرص العدوى أقل".
لكن المقهى التي يجلس عليها مروان يقدم الشيشة خلف ستار يحجبها عن مرأى العابرين في الشارع، ويقلل في الوقت نفسه فرص تجديد الهواء من حول المدخنين، لكنه أمر لا يبدو مقلقًا بالنسبة لصديق مروان الذي جلس بصحبته إلى الطاولة يدخن الشيشة، قائلًا "أنا مش مقتنع إنها أصلا بتنقل العدوى، هي بتتشرب في الشارع، ومعايا لَيّ طبي، ومبسم لكل واحد فإزاي ممكن تنقل العدوى".
غير أن عمرو رفاعي الذي يجلس غير بعيد منهم على القهوة ذاته، لا يزال يتجنب تدخين الشيشة رغم حبه لها، ويستخدم بدلا منها الشيشة الإلكترونية، Vape، كوسيلة أقل خطرًا تعوض حرمانه من الدخان "أنا بحب الشيشة وبحب ريحتها، ومش قادر أبعد عنها، فقررت أجيب الفيب، هي مش نفس الطعم أو الإحساس، لكنها خاصة بيا مش بشاركها مع حد، فبالتالي أخف في نقل العدوى، زي السجاير كده".
على تلك المقاهي وغيرها التي تقدم الشيشة، من النادر أن ترى أفراد طاقم الخدمة فيها إلا ويرتدون الكمامة على وجوههم، ومثلهم الكثيرون من روادها الذين يلتزمون بإحكام الكمامة في جميع الأوقات التي لا يتناولون فيها المشروبات أو يدخنون، في مشهد قد يزيد من غرابته أن يصادف وقتًا تعرض فيه القنوات الفضائية المصرية فاصلًا يعقب إذاعتها لآذان الصلاة، ويظهر فيه صوت الرئيس السيسي، وهو يردد دعائه الذي سبق وأن كرره أمس خلال حديثه عن اقتراب الموجة الثالثة لكورونا "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن..".