عاودت أعداد الإصابات الجديدة بفيروس الكورونا التزايد بمعدلات كبيرة خلال أشهر هذا الصيف مع انتشار السلالة الجديدة "دلتا" الأعلى في معدلات العدوى من السلالات السابقة للفيروس، والتي أعلن عن ظهور أولى حالات الإصابة بها في مصر في 23 أغسطس/آب الجاري.
تسبب ذلك في استعادة كوابيس الشهور الأولى من انتشار الفيروس، ومعدلات الإصابة والوفاة المرتفعة، وإجراءات الإغلاق وتقييد حرية الحركة التي صاحبتها، والتي بدأت دول عدة بالكاد في التخلص منها، وشهدت الولايات المتحدة بصفة خاصة تصاعدًا لمعدلات الإصابة لتصل إلى ضعف ما كانت عليه في أغسطس/آب من العام الماضي، ومع هذا عادت ظواهر مثل اكتظاظ غرف العناية المركزة بالمرضى تثير قدرًا كبيرًا من الانزعاج لدى الكثيرين خاصة ممن كانوا يأملون في أن ينحسر وباء الكورونا وربما أن ينتهي في وقت قريب، فهل ينبغي أن نشعر بالقلق؟ وإلى أي حد؟
السلالات ذات الأهمية
مثل أي كائن حي، تتطور الفيروسات بصفة مستمرة من جيل إلى آخر، ولكن لأن الفيروسات تتكاثر بمعدلات سريعة للغاية، يطرأ عليها تعديلات جينية بمعدل سريع أيضًا، أغلب هذه التعديلات الجينية ليست له قيمة، بمعنى أنه لا يؤثر على خواص الفيروس، ولكن من وقت لآخر تؤدي طفرة ما إلى تغيير مهم لخواص الفيروس، في هذه الحالة نعتبر أننا نتعامل مع سلالة جديدة، أو للدقة "سلالة ذات أهمية Variant of Concern"، أو VOC، حسب المصطلحات التي تستخدمها منظمة الصحة العالمية في حين أن تنويعات فيروس كورونا لها أسماء علمية معقدة تشير إلى التغيير الجيني المميز لها فقد أنشأت منظمة الصحة العالمية بالتعاون مع جهات أخرى نظامًا بسيطًا لتسمية السلالات ذات الأهمية ليسهل تداولها في الإعلام، حسب هذا النظام شهد العالم حتى اليوم تطورًا وانتشارًا لأربع سلالات للفيروس حملت بالترتيب الأسماء: ألفا، بيتا، جاما، ودلتا.
يعتمد تصنيف التغير الجيني في أحد أجيال الفيروس كسلالة ذات أهمية على تحقق أحد ثلاثة شروط، هي:
- ازدياد قابلية انتقال الفيروس من شخص إلى آخر، أو بعبارة أخرى معدل انتشار العدوى، ومدى وبائية الفيروس.
- ازدياد حدة أو عدائية الفيروس وخطورة أعراضه.
- انخفاض فعالية الإجراءات الطبية لمواجهة الفيروس، سواءً في علاج أعراضه المرضية أو في اللقاحات المستخدمة لمنع الإصابة به.
حسب هذه الشروط تم تصنيف السلالات من ألفا وحتى دلتا كسلالات ذات أهمية، وتم توثيق حالات الإصابة المكتشفة منها مبكرًا خلال العام الماضي، فالسلالة ألفا، وثقت أولى الإصابات بها في المملكة المتحدة في سبتمبر/أيلول 2020، وبيتا في جنوب أفريقيا في مايو/آيار 2020، وجاما في البرازيل في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، وأخيرًا وثقت حالات الإصابة الأولى بالسلالة دلتا في أكتوبر/تشرين الأول 2020. التباين بين ترتيب التسمية وتوقيت توثيق الإصابات الأولى يعود إلى أن الفترة المطلوبة لدراسة السلالة الجديدة وتصنيفها كسلالة ذات أهمية قد تطول بقدر مختلف من سلالة إلى أخرى.
دلتا: إلى أي حد ينبغي أن نخشاها؟
الصفة الرئيسية المميزة للسلالة دلتا هو معدل تكاثرها داخل الجسد المصاب، وهو أكبر كثيرًا من السلالات السابقة، ويؤدي بالضرورة لأن تكون معدلات انتقالها من شخص إلى آخر أو معدلات العدوى بها أكبر من سابقاتها، هذا المعدل المرتفع للقابلية للانتقال هو المسؤول عن الارتفاع الحاد لمعدلات الإصابة بالفيروس في الفترة الأخيرة مع انتشار السلالة دلتا إلى دول العالم المختلفة، حسب مؤسسة مراكز السيطرة على المرض والوقاية منه الأمريكية CDC، تصل قابلية انتقال السلالة دلتا إلى ضعف قابلية انتقال السلالات السابقة، ولكن مع خطورة وأهمية هذه الصفة فللسلالة دلتا صفات أخرى مثيرة للقلق.
حسب المصدر نفسه، تشير البيانات المتاحة حتى الآن عن السلالة دلتا إلى أنها ربما تؤدي إلى أعراض أكثر حدة للمرض، للأشخاص الذين لم يتلقوا اللقاح، مقارنة بالسلالات السابقة، فقد أوضحت دراسات أجريت في كندا واسكتلندا أن نسبة أكبر من المصابين بالسلالة دلتا يحتاجون إلى نقلهم إلى المستشفى من أولئك المصابون بالسلالات الأخرى، وفي حالة من لم يتلقوا اللقاح فإنهم أكثر عرضة للإصابة بالسلالة لأنها يمكن أن تنتقل من خلال الأشخاص الذين تلقوا اللقاح أو كونوا مناعة طبيعية نتيجة إصابتهم بالمرض في وقت سابق، بالرغم من أن هؤلاء ربما لا تظهر عليهم أعراض المرض أو يعانون فقط من أعراض طفيفة، كذلك فإن السلالات السابقة للفيروس تتكاثر بمعدل أبطأ من المعتاد إذا ما أصابت شخص تلقى اللقاح، ولكن في حالة السلالة دلتا يبدو أن الفيروس يتكاثر بنفس المعدل حتى إذا أصاب شخصا تلقى اللقاح، الجانب الإيجابي هو أن الشخص الذي تلقى اللقاح يبدو أنه يكون حاملا للعدوى لفترة أقصر ممن لم يتلقاه.
هل تصمد اللقاحات أمام السلالات الجديدة؟
ربما يكون هذا السؤال هو الأكثر أهمية، فقبل الانتشار الواسع لدلتا وعودة معدلات الإصابة إلى الارتفاع بشكل مقلق، كان نجاح لقاحات كورونا في الدول التي حققت نسبًا عالية من توفيره لمواطنيها قد بدأ يؤتي ثماره، وخففت كثير من الدول القيود التي كانت قد فرضتها سابقًا، بما في ذلك تخلي بعضها عن إلزام المواطنين بارتداء الأقنعة الواقية في الأماكن العامة، ولكن مع انتشار السلالة دلتا أعادت منظمة الصحة العالمية النصح بارتداء الأقنعة الواقية في الأماكن العامة المغلقة حتى لمن تلقوا اللقاح، فهل يؤدي ظهور سلالات جديدة إلى انتهاء صلاحية اللقاحات الحالية والحاجة إلى تطوير وتصنيع أخرى بديلة؟
لحسن الحظ الإجابة هي "لا" في الغالبية العظمى من الحالات، في حين أن فعالية اللقاح نفسه قد تختلف في مواجهة سلالة عن الأخرى، فاللقاح سيظل فعالًا طالما لما يكن التغير الجيني للفيروس كبير جدًا بحيث يمثل قفزة تطورية ضخمة تغير من صفات الفيروس بشكل جذري، ومثل هذه الطفرات الكبيرة نادر الحدوث، ويحتاج عادة إلى وقت طويل وعشرات الآلاف من الأجيال المتعاقبة من الفيروس.
في تجربة معملية لرصد تطور بكتيريا الإي كولي، بدأها ريتشارد لينسكي منذ عام 1988 وما زالت مستمرة حتى اليوم، تم توثيق التغيرات الجينية للبكتيريا عبر أكثر من 70 ألف جيل حتى اليوم، وأهم ما خرج لينسكي من ملاحظات عامة من هذه التجربة كان هو أن عملية التطور لم تتوقف وبعكس تصوراته قبل بدء التجربة، فلا يبدو أنها قد تصل إلى نقطة توازن تتوقف عندها في أي وقت قريب أو بعيد. الملاحظة الثانية أنه رغم عدم توقف عملية التطور فإن تحقيق إنجازات تطورية هامة يميل إلى التباطؤ مع الوقت.
ملاحظة لينسكي الأهم بالنسبة لنا هنا هي أنه خلال الفترة الطويلة (مقارنة بمعدل التكاثر) لتجربة تطور بكتريا الإي كولاي، حدثت قفزة تطورية جذرية مرة واحدة، في عام 2003 وبعد خمسة عشر عامًا من بدء التجربة، وبعد 30 ألف جيل للبكتريا، مكنت طفرة جينية مجموعة منها من تغيير نمط تغذيتها مما أدى إلى مضاعفة معدل تكاثرها، قفزة أو طفرة تطورية بمثل هذا الحجم هي ما مكن فيروس الكورونا من الانتقال إلى البشر في عام 2019، وأخرى بالحجم نفسه هي ما قد نخشى أن تجعل الفيروس أكثر خطورة بشكل واضح، والأهم من ذلك، مستعصيًا على اللقاحات الموجودة بحيث تصبح غير مجدية معه، ولكن المطمئن أن تجربة لينسكي تؤكد أن طفرة كهذه نادرة للغاية.
ثمة بالطبع اختلافات كبيرة بين تجربة معملية تجرى على بكتيريا في عدد محدود من أنابيب الاختبار، وبين فيروس منطلق حول العالم يتكاثر في أجساد ملايين البشر، ولكن تبقى ملاحظة لينسكي مطمئنة بشروط، أهمها العمل على خفض معدلات الإصابة لحصر فرص الفيروس في التكاثر بمعدلات تمكنه من التطور بصورة متسارعة، ويعتمد ذلك بالطبع على حصول أكبر نسبة ممكنة من الناس حول العالم على اللقاح.
إلى أي حد تتأثر فعالية اللقاحات بتطور الفيروس؟
ولكن، إذا ما كانت اللقاحات لا تفقد فعاليتها بالكامل مع تطور سلالات جديدة، فماذا عن قدر تلك الفعالية؟
تشير دراسة غير منشورة بصفة رسمية بعد، أي لم تتم مراجعتها بحيث يمكن نشرها رسميًا، إلى تفاوت واضح بين لقاحين رئيسيين معتمدين في الولايات المتحدة هما فايزر وموديرنا، من حيث الفعالية وخاصة في مواجهة سلالة دلتا الجديدة. اعتمدت الدراسة على تجارب سريرية أجريت خلال النصف الأول من العام الحالي، وأوضحت أن فعالية لقاح موديرنا في مواجهة الإصابة بالفيروس بلغت بصفة عامة 86% مقابل 76% للقاح فايزر، وحقق موديرنا فعالية بنسبة 92% للوقاية من الحاجة إلى رعاية مكثفة بالمستشفى في مقابل 85% لفايزر.
المثير للقلق أن هذه الأرقام تغيرت مع بدء انتشار السلالة دلتا في ولاية مينيسوتا بالولايات المتحدة في مايو الماضي، فانخفضت فعالية اللقاح موديرنا في الوقاية من الإصابة إلى 76%، أما فايزر فانخفضت فعاليته بشدة محققًا نسبة وقاية من الإصابة قدرها 42% فقط. التفاوت الكبير بين فعالية اللقاحين تكررت في ولاية فلوريدا أيضا وبلغت الفجوة بين اللقاحين 60%.
برغم أن الدراسة لم تنشر بصفة رسمية بعد، فهي جديرة بالاهتمام، وقد استرعت بالفعل اهتمام بعض موظفي إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، على جانب آخر ربما يبدو أن نتائج هذه الدراسة لا تعنينا حيث تتعلق بلقاحين غير مستخدمين حتى الآن في مصر، ولكن هذا غير صحيح فاللقاحين المختارين للتجارب التي اعتمدت عليها الدراسة هما بين الأكثر نجاحًا في الولايات المتحدة وعالميًا، وما يقدمانه من مؤشرات صالح للتطبيق، بحذر بالطبع، على بقية اللقاحات بما فيها تلك المستخدمة في مصر، والجانب المطمئن الذي تقدمه الدراسة هو أن إخفاق أي لقاح في الوقاية من الإصابة لا يحول دون نجاحه في تخفيف حدة الأعراض المرضية وتقليل نسبة الحاجة إلى النقل إلى المستشفى، والأهم تقليل احتمال الوفاة بسبب الإصابة بالفيروس بقدر كبير جدًا.
ثمة جانب آخر لفعالية اللقاحات وهو مدى استدامتها، أي لأي وقت يظل اللقاح فعالًا بنسبة كافية ودون الحاجة إلى جرعات تنشيطية منه. في الولايات المتحدة بدأ مسؤولون بإدارة الرئيس جو بايدن يتحدثون عن صدور قرار في وقت لاحق يطالب أغلب المواطنين الأمريكيين بتلقي جرعة تنشيطية للقاح بعد ثمانية أشهر من تلقي الجرعة الثانية منه، يأتي هذا القرار في الأساس نتيجة لتزايد معدلات الإصابة بالفيروس في الولايات المتحدة مع انتشار السلالة دلتا، ولكن لا يزال هذا القرار سياسيًا إلى حد كبير، حيث إن الجهة المختصة باعتماد الحاجة إلى جرعات لقاح تنشيطية لم تقم بذلك بعد، والأهم أن أكثر العلماء لا يزالون يعتقدون أن مبررات الجرعات التنشيطية للقاح الكوفيد-19 ما زالت ضعيفة، على جانب آخر إذا ثبت أن ثمة حاجة لجرعات تنشيطية لمواجهة سلالة دلتا أو سلالة جديدة لها نفس معدلات العدوى المرتفعة فسيمثل ذلك عبئًا كبيرًا على كاهل عديد من الدول التي لا زالت تكافح للوصول بمعدلات تلقي اللقاح إلى نسبة مقبولة، مثل مصر.
هل لنا مستقبل مع الفيروس؟
على عكس ما يأمل الكثيرون، ليس من المرجح أن يختفي فيروس كورونا في وقت قريب، مثل حال فيروسات أخرى سابقة تسببت في أوبئة وجائحات عالمية، ومن المتوقع أن يظل فيروس كورونا لسنوات أو لعقود قادمة، ولكن هذا لا يعني على الإطلاق أن نحيا طيلة هذا الوقت الطويل تحت رحمة الجائحة التي لا زالت تسيطر على حياتنا اليوم.
مرة أخرى كما هو الحال مع فيروسات سابقة، يمكن أن يصبح كورونا تحت السيطرة، فتنخفض نسب الإصابة به إلى ما تحت مستوى الجائحة أو الوباء، فيصبح مرضًا اعتياديًا يصاب به عدد محدود، ولا يتوقع وفاة إلا عدد نادر منهم، ما يعنيه ذلك أننا لن نعود في حاجة إلى تقييد حياتنا بالخوف من العدوى، لن نحتاج إلى تجنب التجمعات والأماكن العامة المغلقة، ولن نحتاج إلى ارتداء الأقنعة الواقية طيلة وجودنا خارج منازلنا، ولكن حتى يتحقق ذلك لابد من خفض معدلات الإصابة إلى أدنى حد ممكن، وهذا يتطلب أن يكتسب أكبر عدد ممكن من الناس مناعة ضد العدوى، وما نعرفه اليوم أن هذا ليس متوقعا تحققه بواسطة مناعة القطيع، أي بإصابة أكبر عدد من الناس بالمرض وشفائهم منه، ولكن السبيل الوحيد إليه هو بتلقي أكبر عدد ممكن من الناس للقاحات فعالة، في أقرب وقت ممكن.
توفير أكبر قدر من جرعات اللقاح ورفع كفاءة عملية التلقيح هي الأهداف الأساسية التي ينبغي أن تسعى حكومات العالم إلى تحقيقها، وعلى الجانب الآخر إقناع المواطنين العاديين بضرورة تلقيهم للقاح هو أمر شديد الأهمية، فهو لا يحميهم من الإصابة بالمرض فقط، بل هو أيضا ضروري لتجنب استمرار وجود إصابات بمعدلات كبيرة تسمح بتطور سلالات جديدة ربما يكون أحدها أكثر شراسة مما يمكننا مواجهته. في النهاية، إن كنت عزيزي القارئ لم تتلق اللقاح بعد فربما حان الوقت لتتخلى عن تكاسلك وتسعى لتلقيه في أقرب فرصة.