هناك دائمًا وسيلة لاستمرار الحياة. واجه الإنسان من قبل حروبًا ومجاعات وكوارث، ولطالما وجد طريقًا للنجاة، ومنذ ظهور فيروس كورونا وتحوله لجائحة غيرت من نمط حياتنا على أصعدة مختلفة، ونحن نفكر في بدائل لنطوعها حتى تستمر حياتنا وموارد رزقنا.
أحد الوسائل التي يعتمد عليها البشر في كثير من جوانب حياتهم هو الإنترنت، تلك الشبكة العنكبوتية العملاقة التي لم تكن متاحة للعامة قبل عام 1991، لكن صارت أساسية في حياتنا اليوم، فنقابل الأهل والأصدقاء في فضائها الإلكتروني، ويسيّر أصحاب الأعمال أعمالهم عن طريقها، ويستخدمها المدربون في تدريب عملائهم، وحتى الطلاب يقابلون معلميهم في فضائها.
لم أختلف كثيرًا عنهم كمصور صحفي، فقد زاد استخدامي للإنترنت في فترة مكوثي في المنزل، التي طالت نظرًا للظروف الجديدة، سواء لمتابعة القصص الصحفية العالمية عن الفيروس وطرق وقاية المصورين أثناء التغطية، أو للتواصل مع مصادر في محاولة مني لتوثيق هذه المرحلة الحرجة في حياتنا.
بدأت في أخذ الاحتياطات اللازمة مع بداية ظهور الأزمة عالميًا، كنت أتجنب أماكن الزحام والمواصلات العامة، قللت من زياراتي العائلية، خاصة لظروف عملي التي تجعلني في قلب الشوارع، أتنقل من مكان لآخر يوميًا مما يجعلني عرضة للإصابة وبالتالي مصدر محتمل للعدوى بالنسبة لعائلتي وأصدقائي.
دوري كمصور صحفي في هذه الأوقات هو توثيق ردود الأفعال المجتمعية والتصرفات المختلفة لمحاولة البقاء الآمن، ماذا نفعل وكيف نتعامل في هذه الأوقات، وكيف نطور أدواتنا لتتناسب مع متطلبات النجاة.
تواصلت مع طلاب ومعلمين وأصحاب أعمال مختلفة لتصوير محاولتهم للصمود وممارسة حياتهم في ظل المستجدات، قوبلت بالرفض كثيرا لتخوّف الناس، المفهوم، تجاه شخص غريب في بيتهم. هذه القصة عمن وافق على الظهور في رحلة توثيقي، مع الأخذ في الاعتبار أننا اتخذنا كافة الإجراءات الاحترازية الصحية أثناء التصوير.
إيمان عمرو، 25 سنة، هي زوجة وأم لطفلة رضيعة عمرها تسعة شهور، قررت عزل نفسها مع أسرتها الصغيرة في المنزل خوفًا من الإصابة بالفيروس.
تعمل إيمان مديرة تسويق إلكتروني ولديها شركتها الخاصة، ولكنها اضطرت لغلق مقر الشركة، ونقل العمل إلى المنزل هي وجميع العاملين معها، حفاظًا على نفسها وعليهم، تقول "طبيعة شغلنا لازم نكون مجتمعين دايمًا، بنفكر ونتناقش في أفكار حملات إعلانية جديدة وطريقة تنفيذها، لكن العملاء كلهم وقفوا شغلهم مرة واحدة، وطبعًا أنا مطالبة بمرتبات ودي مشكلة أكبر بكتير من الكورونا بالنسبالي فمبقتش عارفة أعمل إيه".
وأضافت "مع إننا شركة ديجيتال ماركتنج فالمفروض ده وقتنا بس الموضوع جه معانا بالعكس، حتى الناس اللي المفروض بتشتغل أون لاين مبقتش عايزه تصرف وكمان بقي عندهم وقت فراغ أكبر في البيت، فبقوا يجربوا يعملوا الحاجات السهلة بنفسهم وحتى الحاجات الصعبة بقوا يطلبوها من شركتي بربع الثمن مثلًا. الموضوع أثر علينا بالسلب جدًا، الحاجة الوحيدة الإيجابية هي إننا قعدنا في البيت شوية، كان بقالنا كتير مبنقعدش خالص من ضغط الشغل فقدرت أقضي وقت أطول مع ليلي ومحمد جوزي، ده جنب إني بدأت أقرا أكتر في مجالي وآخد كورسات أونلاين".
إيمان تحضّر للماجستير في إدارة الأعمال، وكانت تدرس في دورة تدريبية بالجامعة الأمريكية، وبعد الجائحة أصبحت الدراسة أونلاين.
لم تحتمل إيمان العزلة الكاملة خاصة مع احتياج طفلتها للتنزه قليلًا "رجعنا نتمشى تاني الفترة الأخيرة عشان هي أتأثرت جدًا بالوضع الجديد، وابتديت أتفرج على أفلام وأعيش حياتي طبيعية جدًا كأني قاعدة في البيت عادي في أجازة، بعد كده ابتدي اخواتي أو اخوات محمد يرجعوا يزورونا بشكل متقطع واحنا كمان نزورهم".
اعتادت ايمان العمل خمسة أيام أسبوعيًا بالذهاب إلى المكتب، وقضاء عطلة نهاية الأسبوع بين أهلها وأهل زوجها، ولكن من 12 مارس/ أذار تغيرت حياة ايمان، وأصبحت كل نشاطاتها من المنزل.
سألت ايمان "ماذا لو توقف الإنترنت مع تطور الوضع؟" فردت "الموضوع هيبقى صعب جدًا مش قادره اتخيل حتى، هيبقى وقف حال أكتر ما هو حاصل وملل جدًا صعب أوي، مش متخيله".
يسود الملل يوم كريم مجدي، 17 سنة، على حد تعبيره فيقول "الواحد الأول كان بيصحى يروح يحضر المحاضرة في السنتر وبعد كده ممكن نروح الحُصري (إحدى مناطق السادس من أكتوبر) أنا وأصحابي، هناك في أكتر من حاجة ممكن نعملها سواء مطاعم أو أماكن ترفيه، لكن دلوقتي طبعًا كل الحاجات دي قفلت".
وأضاف "ده غير إني مبقتش أخرج فبقيت أصحى من النوم أفضل قاعد طول اليوم في البيت، مفيش أي حاجة ممكن تتعمل غير لو هذاكر شوية أونلاين، بس الواحد طبعًا بيزهق ومبيعرفش يعمل حاجة تاني، والخروج بقى من الحاجات الصعبة جدًا إلا للضرورة القصوى".
"الوضع الجديد غريب جدًا لاني مش عارف هاعمل إيه في باقي المناهج الي متشرحتش قبل الدراسة متقفل؟ وبتمنى إن الامتحانات تكون على النت لأنه هيبقى خطر أوي نروح امتحانات والتجمعات الكبيرة اللي هتكون موجودة".
كريم طالب بالصف الثالث الثانوى ويكمل دراسة المنهج عن طريق الإنترنت ومحاضرات بعض المدرسين على اليوتيوب من المنزل.
لم يخطر على بال مجدي إبراهيم، 53 سنة، على الإطلاق كحال الجميع أن يحدث شيء أيًا كان يؤثر على العالم كله بهذا الشكل، فكمصور صحفي يعمل بصحيفة يومية منذ وقت بعيد، فقد عاصر وغطى العديد من الأزمات، ولكن هذه المرة هي الأفجع على الإطلاق كما يقول "أنا كنت من أوائل الناس اللي راحوا غطوا أنفلونزا الطيور فى قرية بالقليوبية، وبعدها برضو أنفلونزا الخنازير وصورنا وتعاملنا مع الموقف، مكنش في الخوف ولا الهلع من الإصابة بالمرض زي المرة دي".
يرى مجدي أن "كورونا وضعه أقوى بكتير، تأثيره وصل لكل بيت، معتقدش إن في بيت في مصر متأثرش بموضوع كورونا، فإذا مكنش تأثير على الشغل أو الماديات فعلى الأقل في حبس الحرية اللي حصل لنا كلنا". وعن الجانب العملي كمصور صحفي يقول مجدي "في البداية الواحد كان متردد جدًا في كيفية التغطية لإحساس بالخوف من الإصابة لو نزلت أصور، لكن مع الوقت الخوف والهلع ده بداء يتلاشى، ودلوقتي بدأنا نسعى إننا عايزين نصور، ولو اتطلب مني دلوقتي أو جاتلي الفرصة إني أصور مستشفى عزل هروح مش هبقى خايف".
وأضاف "بالطبع الجانب المادي تأثر بالأزمة، فالوجود بالمنزل فترة أكبر والتجمعات العائلية تتطلب مصاريف مختلفة بعض الشيء، ولكن توقف دفع فلوس الدروس لأولادي التلاتة هو اللي عمل توازن في الميزانية بشكل كبير".
يدرِّس مجدي التصوير الصحفي بكلية الاعلام بإحدى الجامعات الخاصة، وعن ذلك يقول "ده صعب جدًا شرحه أونلاين، لأنها مادة عملية وبتعتمد على التواصل بيني وبين الطلاب، بين إرشادات لإعدادات الكاميرا أثناء التصوير، أو تنظيم يوم تصوير في الشارع للتطبيق العملي، لكن التواصل عن طريق النت أحسن من مفيش، نص العمي ولا العمي كله، ودلوقتي بدأت أحضّر لامتحان الفاينل للطلاب أونلاين برضو".
قبل الحظر كان يوم علي محمد، 26 سنة، مليء بالنشاطات الرياضية، ومع تغير الأوضاع واضطراره للمكوث بالمنزل، حاول علي الاستفادة من الموقف قليلًا "الناس قاعدة في البيت مورهاش حاجة غير السوشيال ميديا، فجاتلي الفكرة إن أعمل فيديوهات وأنزلها على الأكونت عندي للناس اللي المفروض بتيجي تتمرن معايا".
تغير روتين علي اليومي فأصبح يشاهد التليفزيون لفترات أطول من السابق؛ "من الحاجات اللي بقيت أعملها إني أتفرج على مسلسلات وأفلام، الاول مكنتش باعمل كده خالص، وبقيت بقرأ كتب ورقية، الأول كان كله أونلاين وعلى الموبايل، من أكثر الإيجابيات إني بقيت أقعد أكتر في البيت مع أهلي".
أضاف " طبعا الجانب المادي اتأثر جدا، بعد وصول الفيروس مصر، الوضع المالي بقي اسوأ بكتير"
جزء من عمل علي كان التأهيل البدني للاعبين بعد الإصابات، والآن يحاول مواصلة مساعدتهم على الحفاظ على لياقتهم البدنية واستكمال برامج التعافي، من خلال تسجيل مقاطع مصورة لبعض التمارين بمساعدة أخيه، ليمارسها اللاعبون باستخدام أدوات بسيطة من السهل وجودها في المنزل كبكرات المناديل وزجاجات المياه.
ستمر هذه الجائحة كما مر غيرها في تاريخ البشرية، أو هكذا نرجو، سنستفيق بعدها ونحصي موتانا ونبني لهم صرحًا كبيرًا نتذكرهم من خلاله، سنتزاور ونذهب للبحر وتعود حياتنا كما كانت، حتى لو استغرق ذلك سنوات، لكن ما سنتذكره جيدًا بعد مرور هذا الوقت الصعب كيف وقف الإنترنت في صفنا، وكيف ساهم في استمرار حياتنا وجعل وجودنا في المنزل بنَّاءً وساهم في تقاربنا ومحاولاتنا المستمرة في إيجاد وسيلة لاستمرار الحياة.