خطاب موجه من مدير عام الإدارة العامة لشؤون المستشفيات النفسية إلى مديري المستشفيات، وصلني نسخة منه عن طريق بعض الأطباء، طلب منهم ترشيح أطباء للذهاب إلى مستشفيات العزل لمدة 14 يومًا يليها 14 يومًا أخرى عزل ذاتي، وذلك بدءًا من الأحد 3 مايو/ أيار 2020، ويشير الخطاب أن ذلك طبقًا لتعليمات وزيرة الصحة وأمين عام الأمانة العامة للصحة النفسية، ومذيّل بعبارة "مع اعتبار الموضوع هام وعاجل جدًا" ومحرر بتاريخ 26 أبريل/ نيسان.
أحد الأطباء من إدارة إحدى مستشفيات الصحة النفسية حدثني معقبًا على هذا الخطاب أو مستنجدًا منه "إحنا كإدارة مستشفى نرد على أمانة الصحة النفسية ازاي؟ علشان جاي تكليف رسمي وبصراحة مش عارف اختار أي اسمين وارميهم في النار كده، وفي نفس الوقت مزنوقين في الرسميات فهل من مخرج؟ الشباب خايفين جدًا وأنا مقدَّر ده ومزنوقين في المنتصف، حاولنا نماطل ولكن مش قادرين أكثر من كده".
كان حديث زميلي الطبيب في الإدارة هو ما جعلني أراجع تقييم خطاب آخر قبل هذا بأيام، الذي صدر من أمين عام الأمانة العامة للصحة النفسية، الدكتورة منن عبد المقصود، وممهور بتوقيع طبيبة أخرى عنها، وموجه لمديري 8 مستشفيات، إضافة إلى الأمانة نفسها بتكليف 14 طبيبًا وطبيبة للعمل بـ14 مستشفى عزل مختلفة بدءً من 20 أبريل لمدة 14 يومًا يعقبها 14 يومًا أخرى عزل ذاتي، وأن ذلك طبقًا لتعليمات وزيرة الصحة والسكان.
لاحظ أن الخطاب محرر بتاريخ 19 أبريل، وحرصنا على تظليل أسماء الأطباء فيه، كنت أعتقد أن هؤلاء الأطباء هم من طلبوا طواعية من وزارة الصحة العمل بمستشفيات العزل، إلا أن تتابع خطابات التكليف ومداخلات الأطباء تؤكد صفة الإلزام كُرهًا والاستمرارية، مما يجب معه مناقشة فوائد وأضرار هذا القرار.
مخاطرة غير محسوبة
ينبغي أن تكون المخاطر المعرّض لها الأطباء النفسيين دافعًا لمناقشة جدوى إرسالهم إلى مستشفيات العزل، لتقديم خدمات الدعم النفسي للعاملين والمرضى بها، مقارنة بالأضرار التي قد يتسبب فيها القرار، ومناقشة طرق أخرى لتقديم هذا الدعم وتفادي المخاطر في نفس الوقت.
في ظل العجز الشديد في عدد الأطباء النفسيين بالمستشفيات الحكومية والخاصة، والذي أكدت عليه أمين عام الأمانة العامة للصحة النفسية الدكتورة منن عبد المقصود، بنفسها، بالإضافة إلى قدوم فصل الصيف الذي يضاعف فيه الفريق الطبي من متابعة المرضى النفسيين وتقييم العلاجات، والتأكد من وجود وسائل تهوية جيدة وتناول المرضى لكميات من السوائل، ذلك نظرًا لتأثير بعض العقاقير على شعور الجسم بدرجة حرارة الجو، مما يزيد الخطورة على المرضى، وأيضًا احتمالية إصابة أحد الأطباء النفسانيين في مستشفيات العزل بفيروس كورونا دون اكتشاف المرض، في إطار نسبة الخطأ الواردة علميًا في تحليل العينات، ما ينذر بكارثة محققة لو انتقلت العدوى منه إلى المرضى النفسيين بالمستشفيات.
لا مجال الآن للمزايدة
يقول المدير الأسبق للإدارة العامة لشؤون مستشفيات الصحة النفسية، الدكتور مصطفى فهمي إن "ذهاب الأطباء النفسيين إلى مكان معامل الخطورة فيه بالشدة اللي احنا شايفينها لو وزناه مع قيمة الخدمة التي يقدمها الطبيب النفسي، نجد إن ده يدفع بزيادة الحالات في الكادر الطبي، وزيادة الحمل علي العاملين من الجهتين، وممكن يكتفي بتقديم المشورة بالخط الساخن أو عن طريق سايت يتعمل علي الإنترنت، يعني تقديم الخدمة عن بُعد. ولا يوجد مجال الآن للمزايدة وفتح الصدر، ويجب الالتزام بالعلم فقط".
أخصائي الطب النفسي المقيم بالسعودية، الدكتور شوكت رفعت، يرى أن "الفكرة من الناحية العملية غير مجدية، تخيل اللبس اللي هيبقي لابسه الطبيب وكمية الإجراءات علشان يدخل يكلم المريض، وبعدين يقعد يكلمه عن عدم الخوف أو يشجعه، والطبيب أصلًا مرعوب من المرض. هتكون رسالة متناقضة، بالإضافة لقِصَر الفترة لتقليل فترة التعرض، وأفضل طريقة في الظروف دي تقديم الدعم عن طريق التليفون، أو الفيديو كونفرنس".
أما المدير الأسبق لمستشفى طنطا للصحة النفسية، الدكتور محمد سعد، فيقول "نحن كأطباء ملتزمين تمامًا بأداء واجبنا الطبي والوطني تحت أي ظروف وفي أي وقت. هذا ما أقسمنا عليه ونلتزم به تمامًا، إلا أن هذا القرار قد لا يتفق تمامًا مع كافة الأعراف والقيم الطبية والإنسانية بل والقانونية، فهو قرار يخالف تعليمات رئيس الوزراء بضرورة التباعد الجسدي، وأن التقارب يكون للضرورة القصوى حفاظًا على المرضى والفريق الطبي، وأرى أن العاملين بالطب النفسي لن يوافقوا على هذا القرار حيث لا توجد أي ضرورة ملحة لوجود الطبيب النفسي جسديًا لتقديم خدمات الدعم النفسي أو العلاج الدوائي، ويمكن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي أو التليفون لتقديم تلك الخدمات، فضلًا عن ضرورة تدريب الأطباء على نحوٍ كافٍ لتقديم الدعم النفسي بكفاءة، لأن التدخل غير المناسب قد يؤدي إلى أضرار جسيمة".
ويضيف الدكتور سعد أن "القرار لم يتضمن معايير ترشيح الأطباء النفسيين، ولم يتضمَّن توقيع الكشف الطبي على الأطباء المرشّحين بواسطة لجنة طبية متخصصة لتحديد مدى اللياقة الصحية للأطباء للعمل بمستشفيات العزل، ولم يتضمّن مهمتهم داخل مستشفيات العزل، وإذا افترضنا أن مهامهم تقديم خدمات الدعم النفسي فقط فلماذا لم يتم الاستعانة بالاكثر تخصصًا في تقديم الدعم النفسي مثل الأخصائيين النفسيين تخصص علم نفس إكلينيكي، وهم الأكثر تخصصًا عن الأطباء فى تقديم خدمات الدعم النفسي بكافة أنواعها؟"
ويتابع "لا قدر الله إذا حدثت عدوى فى إحدى مستشفيات النفسية أو جميعها لا قدر الله، من سيتعامل مع المرضى النفسيين، بينما تم إرسال أطبائهم إلى مستشفيات العزل لتقديم دعم نفسي؟ وهل أُخذ الرأي القانوني في صحة هذا القرار، حتى لا يعتبره أهل القانون لاحقًا جريمة يعاقب عليها القانون، من تعريض أطباء للإصابة المَرَضية، أو للوفاة، لا قدر الله، دون ضرورة ملحة لذلك؟"
كنا جينا من زمان
أحد الزملاء بأحد مستشفيات العزل يرى إيجايبات شرحها لي في مكالمة هاتفية "الحقيقة يا أحمد أنت فعلًا لو جيت هنا كنت هتقول المفروض كنا جينا من زمان، بمجرد أن الناس لقيت إن حد ممكن يساعدها. متعرفش إن فيه أطباء و تمريض بيجوني ويقعدوا يعيطوا مرعوبين لما سمعوا أخبار إصابة زملائهم في المستشفيات، أنا هنا تقريبًا 70% بعمل علاج نفسي وتقريبًا 30% أدوية بسيطة، بعض المرضى بيعملوا إنكار للمرض وعاوزين يخرجوا، المرضى اللي في العناية بتبقى أغلب مشكلتهم رفض أنبوبة التنفس الصناعي، وبمجرد ما بفهمهم ضرورتها وطبيعة المرض والأعراض بيستجيبوا، أطباء العناية كثر خيرهم بيبقى عليهم ضغط شديد علشان كده مش بيقدروا يعملوا توعية للمرضى".
يضيف الزميل "طبعًا لو تم شرح المرض و العلاج للمريض هيقلل كثير جدًا أعراض القلق و الإنكار، ممكن يقوم بالدور ده أخصائي نفسي أو حتى ممرض يكون فاهم ومخصَّص بس لتوعية المرضى. فيه حاجة مهمة جدًا لازم تعرفها، إن الطبيب النفسي اللي يجي مستشفى العزل لازم يكون دارس ومُدَرب على العلاج النفسي، ويعرف كويس تفاعلات الأدوية غير كده يبقى ملهوش لازمة ومش هيعمل حاجة، أنا معاك أنه فيه مخاطر وممكن دراسة تقديم الخدمة بوسائل أخرى، إحنا بنحتسبها لوجه الله و ربنا يستر".
طبيب نفسي آخر بأحد مستشفيات العزل بالصعيد يقول لي "الحقيقة اللي عندهم أعراض قلق و توتر هنا مش كتير، باقي لي 4 أيام في الفترة و لم أضطر لكتابة أدوية و لما كتبتها لطبيبة رفضت. الحالات اتحسنت بالدعم النفسي والصراحة أغلب مشاكل القلق خاصة مع المرضى المتعلمين بتنتج من عدم مصداقية المستشفى معاهم، يعني مثلًا يقولوا لهم نتيجة التحليل هتظهر غدًا، ولما يجي وقتها يتحججوا بأي حجة، بصراحة فيه مشكلة في نظام الوقاية في المستشفى، طبعًا لازم اللي يجي يكون مُدَرب على العلاج النفسي مش أي طبيب".
أحد أطباء مستشفى سوهاج للصحة النفسية يقول "إحنا هنا في المستشفى مفيش حد مُدَرب و يعرف في العلاج والجلسات النفسية غير مدير المستشفى، فؤجئنا أنه بيطلب منا التوقيع بالعلم على تكليف الأمانة، واحنا اعترضنا فعمل حصر بأسمائنا، تقريبًا هيرسلها لأمانة الصحة النفسية".
حاولت التواصل مع زملاء بمستشفيات النجيلة والعجمي و15 مايو، لسؤالهم عن ردهم ودعمهم للفريق الطبي الذي أُصيب بكورونا أثناء تأدية عملهم، وترفض وزارة الصحة أن تعطيهم مستند يُثبت ذلك، وأيضًا أولئك الذين تراجعت وزارة الصحة عن صرف المكافأة التي وعدتهم بها، إلا أنني لم أتلق إجابة على الاتصالات، أو كان الهاتف "مغلقًا أو خارج نطاق الخدمة".
الحقوق مبهمة مثل الواجبات
"يا دكتور أحمد الجوابات المبعوثة للمستشفيات لا توضح طبيعة العمل المكلف به الأطباء بمستشفيات العزل، إذا كان الدعم النفسي فمش كل الأطباء مدربين عليه، وبعدين مش المفروض فيه أطباء عندهم أمراض يستثنوا من الذهاب؟ وفين حقوق الأطباء اللي هيروحوا. الخطاب لا موضح مكأفاة و لا تعويض لا قدر الله في حالة الإصابة". كان هذا حديث طبيب بمستشفى العباسية للصحة النفسية، يُضيف عليه طبيب بمستشفى أسيوط "هو ينفع الأطباء يتبلغوا يوم 19 أبريل إنهم يسافروا لمستشفيات عزل تاني يوم الصبح؟ طيب نرتب أمور أسرنا ازاي، الي عنده أولاد ولا أب ولا أم يوديهم فين بين يوم و ليلة؟"
خطوط ساخنة
سألت استشاري الطب النفسي والمدير الأسبق لمستشفى طنطا للصحة النفسية، الدكتور محمد سعد، عما إذا كانت هناك دول غير مصر توظف أطباء نفسيي في مستشفيات العزل، فكانت الإجابة هي النفي القاطع.
بالبحث عن الأمر وجدت أن الولايات المتحدة الأمريكية تعلن زيادة الاتصالات بسبب كورونا لتلقي خدمات الدعم النفسي، على الخط الساخن الذي أطلقته في 2012 لتقديم المشورة للأشخاص الذين يعانون اضطرابات نفسية أثناء الكوراث الطبيعية، وفي سلطنة عمان تم تدشين خط ساخن لتقديم خدمات الدعم النفسي إثر أزمة كورونا، وهو نفس ما فعلته لبنان والإمارات. وكانت مصر وحدها، في نطاق بحثي، التي اتخذت فيها وزيرة الصحة قرارًا منفردًا أثناء اجتماع بالفيديو كونفرانس، بوجود فرق الدعم النفسي بمستشفيات العزل باستمرار.
هل اللقطة هي السر؟
"أنا بلغت إدارة المستشفى إني عندي استعداد أقدم خدمات الدعم النفسي على مدار 24 ساعة عن طريق التواصل بوسائل الاتصال المختلفة. طالما أقدر أقدم نفس الخدمة من غير ما أأذي مريض و لا أأذي نفسي ليه منعملش كده؟ الإدارة وصلت كلامي ده للأمانة اللي بدورها قالت إنها وصلته للوزارة وكان الرد إن دي تعليمات الوزيرة"، هكذا أخبرني طبيب بأحد مستشفيات الصحة النفسية، ما جعلني أسترجع مشاهد لوقائع وقرارات عايشتها كانت "اللقطة الإعلامية" هي الهدف من ورائها.
في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، عقب الهجوم الإرهابي على أتوبيس بطريق دير الأنبا صموئيل بالمنيا، صدرت تعليمات وزيرة الصحة لأمانة الصحة النفسية بتقديم الدعم النفسي للمصابين وأسر الضحايا، وبالفعل زار وقتها فريق الطب النفسي المستشفيات ونشرت ذلك وسائل الإعلام، وكنت أحد أعضاء وفد نقابة الأطباء لزيارة الضحايا في مستشفى الشيخ زايد، ما أتاح لي التواصل مع بعضهم بعد خروجهم من المستشفى، لأعلم أن أحدًا لم يتواصل معهم بعد خروجهم، وكانت اللقطة في المستشفى فقط.
تواصلت أيضًا مع بعض طبيبات حادث المنيا بعد خروجهن من المستشفيات، وكانت الوزيرة وجهت بتقديم الدعم النفسي لهن لأعلم منهن أن التواصل انقطع معهن بعد خروجهن إلا من بعض الاتصالات الهاتفية من طبيبة نفسية بأمانة الصحة النفسية، استمرت لفترة وانقطعت أيضًا، ولست أدري إن كان التعامل مختلفًا عن هاتين الواقعتين في حادث معهد الأورام.
سيطرة اللقطة
توجهنا إلى أمين عام الأمانة العامة للصحة النفسية والزملاء في إدارتها بسؤال مصوَّر عن مبررات ودواعي تجعل ذهاب الأطباء النفسيين إلى مستشفيات العزل واجبًا حتميًا، في مقابل المخاطر التي قد يتعرض لها الأطباء وآلاف المرضى النفسيين في مستشفيات الصحة النفسية، لبحث إمكانية التراجع عنه إن كانت مخاطره أكثر من فوائده، خاصةً وأن الأمانة العامة للصحة النفسية بدأت بالفعل منذ فترة خدمات الدعم النفسي للفرق الطبية بالمستشفيات، عن طريق وسائل الاتصال المختلفة، إضافة إلى تقديم تلك الخدمات للمواطنين عبر الخط الساخن ومن خلال فيديوهات توعوية بوسائل الإعلام، وعلى صفحة الأمانة العامة للصحة النفسية على فيسبوك.
كانت أسئلتنا الموجهة إلى أمانة الصحة النفسية في 27 أبريل، آملين منها أن تعيد دراسة القرار والعرض على الوزارة لإلغاءه، إلا أنه للأسف كانت الإجابة سريعة بشكل عملي، فأصدرت الأمانة العامة للصحة النفسية كتابًا محررًا في 29 أبريل إلى بعض مديري مستشفياتها بتكليف أطباء منها لفترة العمل التالية بمستشفيات العزل، التي تبدأ في 4 مايو/ أيار. وهي إجابة تؤكد أن الرغبة في صناعة اللقطة الإعلامية، والتي قد تكون قاتلة، مسيطرة على صُنّاع القرار.