(1)
لا يمكن لأحد، مهما بلغ حذره، أن يختبئ من الموت؛ تلك نهاية أكيدة، حتى الآن، لكل نفس حية، ولكنني متى يحين أجلي لا أريد أن أموت في جماعة أريد أن أرحل عن هذه الدنيا فردًا مثلما جئت فردًا إليها.
لا يخلو الأمر من أنانية واضحة، لكنه على العكس من ذلك، فأنا ضحية، مثل كثيرين غيري، لخدعة الكتابة؛ توهمتُ أن فيها طريقًا لفهم الحياة فصرت مدفوعًا بالبحث عنه دون أن أعيش الحياة نفسها، وربما يكون في ادعائي هذا تعزية عن فشلي في ممارسة أي نشاط سواها، ولكنني حين عاينت الموت يحصد الآلاف في كل يوم بفعل الجائحة، فزعت من أن تكون رحلتي التي خضت في هذه الدنيا محض مصارعة لأوهام كثيرة في متاهة أتحول في نهايتها إلى مجرد رقم ينضم إلى حصيلة الموت اليومية، أو يسقط منها عمدًا، فقد لا تحصيه حتى عدادات الدولة الرسمية التي تتغاضى عمن يموت بعيدًا عن مؤسساتها الطبية.
في هذه الأيام الصفراء، صار الموت في حادث سيارة أو في عرض البحر أو سقوطًا من النافذة أو في خضم شجار دام أو عبر عيار طائش أو حتى بتوقف الدورة الدموية عن عملها الطبيعي ميزة تنزع عن الموت عاديته وتعيد إليه جلاله.
حين كنت أصغر سنًا تدبرت قبض الروح؛ تخيلت الموت أسدًا يترفع عن أكل الجيفة، ورأيت الخوف يقتل، لذلك لم ألتقط نفسًا إلا وفكرت في الموت مرتين، كنت على يقين من أن عزرائيل لا يزور الخائفين، لذلك دربت نفسي على لعبة أضمن صمودي فيها دقائق جديدة من تلك الحياة. وبعد الثورة وما خضته من خبرة طارئة، رأيت الموت مثل ملك يخشى فقدان مهابته، أن ينساه شعبه، فصار يقبض أرواح الناسين منهم، ثم دفعتني الحياة هكذا إلى أيامها، وقد وضعت في نقطة قرار عميق من نفسي جرعة كافية من الخوف.
منذ ظهور الفيروس كأخبار عابرة وحتى سيطرته على مجريات حياتنا اليومية، لم أخش الإصابة به أو الموت جراءه، كان الخوف الذي يتأرجح كنقطة ثقيلة في بطني يملأني ثقة في أنني لن أنتهي هكذا في غمضة عين، ربما كان فاكسين أبدي، أو أن وهم الخلود المعنوي: خدعة الكتابة المحكمة/ الساذجة التي كشفت حيلتها، كان دافعًا أكبر للتمسك بالحياة، لأنني لن أحصيه، لا أريده، أريد فقط أن أشعر أنني اكتفيت من الحياة قبل أن أودعها، ومع الموت اليومي، العادي، الماسخ، ثقيل الظل، صارت تلك أمنية تشبه ذلك الوهم، غير أنه ومع كل ذلك الثقل الذي سمحت له أن يؤرق بطني، أصبح من حقي، بكل بساطة، رفض تلك النهاية الجمعية، لذلك تقدمت بغير تردد لتسجيل نفسي ضمن الراغبين في تلقي اللقاح المضاد لفيروس كورونا.
(2)
في أيامي العادية أنا واحد من هؤلاء الذين يفتشون روشتة الدواء عن كل أعراضه الجانبية، لكنني، وربما لعلمي المسبق بأنه ليس ثمة خيار في عملية التلقيح، ذهبت لتلقيه دون أن أجمع أية معلومات عن أنواعه المختلفة، وحتى الآن لم يدفعني الفضول لمعرفة نسبة التحصين التي سأمتلكها باكتمال حصولي على الجرعتين، ولا أريد أن أعرف ذلك.
كان يومًا عاديًا في بداية شهر رمضان الماضي، ونهاية شهر أبريل/ نيسان، حين حل دوري لآخذ الجرعة، فذهبت قبل موعد الإفطار بدقائق كي أضمن خلو المركز من المواطنين وأتغلب على أي انتظار محتمل، ولأنها 15 دقيقة فقط التي كانت تفصل بين موعد آذان المغرب والإفطار، وفي نهاية يوم عمل طويل، لم يشرح لي أحد شيئًا عن اللقاح ولم يطلعوني على نوعه، فقط سلمتُ بطاقة الهوية للموظفة المسؤولة عن إدخال البيانات وملأت استمارة طويلة ببياناتي، ولم يسعني الوقت لقراءة ما أنا مقبل بالموافقة عليه، وحين امتثلت أمام الطبيب عرفت أنني سأحصل على لقاح أسترازينيكا الإنجليزي.
سُئِلت إن كنت قد أصبت بالفيروس خلال الشهور الثلاثة الماضية فأجبت بالنفي، ونفيت أيضًا أن تكون لدي حساسية من أي عقاقير طبية، ثم طلبوا مني التهيؤ للحقن.
(3)
أن تحمل ذراعك وتتأبطه مثل طفل تقدمه للعالم بحذر؛ تحتفظ به إلى جانبك ليلحظ الناظرون جماله دون أن تكشفه كلية خوفًا عليه من أي مكروه، هكذا حملت ذراعي بعد الحقن ولعدة أيام متتالية لا أشعر من كامله سوى بتلك النقطة التي دخل فيها سن الإبرة، وكأن الثقب الصغير الذي صنعته في ذراعي صار نافذة جذبت ما أثقل بطني من خوف تدفعه للخروج، فصار ذراعي ثقيلًا بحجمه ومزعجًا في جماله كوليد ودليل في الوقت نفسه على الحصانة من ذلك الفيروس اللعين.
احتاج اللقاح نحو عشر دقائق كي يسري في دمي إلى رأسي الذي وَطَّن في داخله خدرًا لطيفًا، يشبه السُكر في طقس خريفي؛ لن تسقط إلى الأرض أو ترتفع إلى السماء، لكنك ستعاين لحظة بين الغياب عن الواقع والانخراط فيه في آن، وكأنك معلق إلى السماء تقف على الأرض في الوقت نفسه، غير أن أسوأ ما في تلك التجربة أن ذلك الشعور لن يستغرق سوى المدة نفسها التي احتاجها اللقاح كي يصل إلى رأسك: عشر دقائق على الأكثر.
ثم وصلت إلى الليل خفيفًا ونمت عاديًا، مثل كل المغدور بهم في ليلتهم الأخيرة قبل رحيلٍ نبيل، لأستيقظ في الصباح التالي تحاصرني جميع الأعراض الجانبية للقاح، أو أعراض المرض نفسه، أو أنني كنت في خضم صراع يدور بين الخوف الذي تضيق النافذة في ذراعي بثقله ويمنعه حجمه عن الخروج، وبين جسدي الذي ربما اعتاده ولم يهن عليه تركه؛ تكسير في جسمي كله كأنه سقط من بناية مرتفعة، وصداع يحتل رأسي في ربعه الأيسر إلى الوراء، فيما تعاين حواسي الهامدة ذلك كله غير قادرة على فعل شيء.
وحين نفعني الصيدلي بنصيحة تناول فيتامينات متعددة ومسكنًا قويًا استطعت الوقوف لأشهد ذلك الصراع الطويل الذي دام ليوم كامل أتنقل بمسرح أحداثه: جسدي بين غرف الشقة كلها على الكراسي والسرائر التي تقبلت إنهاكي بحنو، حتى وصلت إلى الليل ثقيلًا مثل جثة ضاق المشيعون بحملها، ونمت.
في الصباح، الذي تخيلت أنه لن يأتي أبدًا، قمت غارقًا في عرق مثل بحر، لكنني نهضت من السرير بحيوية الخارج لتوه من حمام منعش إلى الشاطئ، أو كأنني خضت للتو تجربة التعميد، وأنني ولدت الآن، وأن ذلك الألم الباقي في ذراعي ما هو إلا آثر يذكرني بذلك الصراع الذي دار في جسدي قبل أن يخرج الخوف منه.
(4)
عدتُ إلى كامل حيويتي قردًا، أو أنني عدت دُبًّا يقظًا في انتظار الجرعة الثانية من أسترازينيكا في يوليو/ تموز المقبل، حتى إنني قتلتُ فأرًا أو فأرين في الشقة، لست متأكدًا في الحقيقة، لكن الأكيد أنه وزميله لن يطردا من ذاكرتي أبدًا.
ترى أي منهما السبب في ذلك، كلاهما طلب النجاة بطريقتين مختلفتين، وربما نجا أحدهما فعلًا، وإن كان بشكل مؤقت، لكن هل يعرف أي من الفأرين شيئًا عن الموت؟ عن الخلود؟ يعرف الفأران الصغيران الخوف بكل تأكيد، لكنهما يجهلان اسمه، يجهلان تعريفه، ما يعرفانه قطعًا أن الخوف ليس سوى وسيلة للتمسك بالحياة لا أكثر.