عندما سُئل أستاذ رياضيات روسي في أحد الأفلام الوثائقية الأوروبية عمّا تغير في حياته بعد انهيار النظام الاشتراكي، كان جوابه التلقائي "بات لدينا ماركات صابون أكثر في السوبر ماركت".
ركّز "العالم الحرّ" في دعايته ضد القيم الاشتراكية منذ "الحرب الباردة" على مبدأ الرفاهية وربَطَه بالحرية الفردية. فلكي تعيش حياة مرفّهة سعيدة، قالت الأنظمة الرأسمالية لمواطنيها وللمستهلكين حول العالم، يجب أن تكون إنسانًا حرًّا أي أن تكون قادرًا على تملّك ما تريد وبالكميات التي تريدها. ولكي تشعر بتلك الحرية حقًّا، أضافت تلك الأنظمة، لا بدّ أن يكون أمامك مئات ومئات الخيارات فتمارس حرية الانتقاء بينها.
بناءً عليه، سوّقت الولايات المتحدة الأميركية منذ الحرب الباردة صورة "التحرر" و"التفوّق" و"النجاح" بالتركيز على الرفاهية والسعي إلى تحقيقها بكل الوسائل. هكذا أُطلق، في أواخر خمسينيات القرن الماضي، سباق عالمي لـ "زيادة الرفاه" من خلال زيادة الخيارات في الأسواق وفي طريقة العيش وسبل "تحقيق السعادة".
مع اجتياح تلك المبادئ الاقتصاد العالمي، وفي كلّ مرّة أراد فيها "السوق" (أي سوق) أن يزيد من أرباحه (القاعدة الإلزامية في سياسة التنافس)، زاد من جرعة تحفيز المستهلك لكي يستهلك أكثر؛ صلصة باستا بالحبق (الريحان) أو بالحبق وزيت الزيتون أو بالحبق وزيت الزيتون والمريمية؟ مرتديلا (نقانق إيطالية تشبه اللانشون) مع حرّ (شطة) أو فلفل أو خلطة بهارات؟ شامبو برائحة الفراولة أو الأعشاب البحرية أو الأعشاب البرّية أو العود أو الليمون أو التفاح، لإزالة القشرة أو التنعيم أو الحفاظ على اللون، للإشراقة أو للانسياب أو للمتانة أو للتوفير؟ النظام الليلي أو النهاري لشاشة الهاتف؟ هاتف مع كاميرا واحدة أو اثنتان أو ثلاثة؟ أي فلتر للصور؟ أُخرس تلك المجموعة على واتساب لأيام أو لأسابيع أو لسنة؟ مزيل العرق للثياب الفاتحة أو الداكنة؟ أي نوع تلفزيون وبأي حجم؟ أي مسلسل على نتفليكس؟ أي أغنية على تطبيقات الأغاني، حفلة أو استوديو، أدفع المال كي أتمكّن من سماعها من دون الإعلانات؟ أكتب تعليقًا عليها أو أرسلها إلى أحدهم أو أبقيها في مكتبتي الموسيقية؟ أرسل له أيميلًا أو أهاتفه أو أراسله على فيسبوك؟ مسكّن آلام نهاري أو ليلي، سريع المفعول أو بتركيبة متطورة؟ إلخ إلخ إلخ.
نعيش منذ نهاية القرن الماضي غارقين في "حرية الخيارات"، ربّما توهّمنا أننا أحرار وأسياد قراراتنا ومهندسو حياتنا بكل تفاصيلها، وربما حسّنت فعلًا بعض تلك الخيارات حياتنا بشكل كبير. البعض يرى أننا، كمستهلكين، لا يمكن أن نكون "أحرارًا" إذ نحن عبيد خيارات تحددها الأسواق حسب مصالحها ولزيادة الأرباح فقط، وأننا كمتلقّين لا نملك سوى القبول بها والانصياع لـ "ترند" تجاري عالمي نسعى جاهدين -لاهثين أحيانًا- للّحاق به. سباق مكلف مادّيًا ومعنويًا لا يصل إلى نهايته "السعيدة" سوى من باستطاعته تحمّل نفقاته. يرى آخرون أن كثرة الخيارات المتاحة في كلّ جوانب حياتنا هو ما أنتجه مسار التطور الطبيعي للمجتمعات الصناعية الغربية، ويحمل معه أدوات تسهيل العيش وعلينا تلقّفها والاستفادة منها.
لكن مع تشعّب الخيارات، كبرت الحاجة الى السيطرة على كل تفاصيل العيش كشرط لإيجاد المتعة وتحقيق الرفاه. حتى بات هذا الأمر أحيانًا عبئًا مرَضيًا على المتلقّين.
انشغل المحللون النفسيون منذ حوالي عشرين سنة بدراسة ما يسمّى بالقلق المرضي من كثر الخيارات أمام المستهلكين (anxiety of choices)، وخلص معظمهم إلى نتيجة تفيد بأن تعريض الفرد إلى خيارات كثيرة هو أمر مؤذٍ له ولا يعود بالفائدة عليه. لماذا؟ يقول المحللون إن وضع الفرد/ المستهلك أمام خيارات كثيرة (سلعًا أو خيارات حياتية أساسية كأنواع المدارس أو العلاجات الطبّية أو غيرها) سيولّد لديه شعورًا بعدم الرضا، وبعبء المسؤولية الضخمة، وبالندم ولوم الذات. كيف؟ عدم الرضا سينتج عن صدمته بالمنتج الذي كان يعتقد أنه الأفضل بين جميع الخيارات ليكتشف لاحقًا أنه لم يكن على مستوى توقّعاته، بالتالي سيشعر المستهلك تلقائيًا في تجاربه اللاحقة بعبء تحمّل مسؤولية الخيار بين المئات منها خصوصًا مع علمه المسبق بأن المنتج الأفضل قد يكون أمامه على أحد الرفوف لكن هناك احتمال أن لا يختاره، ما سيولّد لديه تلقائيًا الشعور بالندم ثم لَوم الذات على هذا "الفشل". الشعور بـ "الفشل" في عالم يقول لك باستمرار إنه "لا يوجد أي مبرّر لتفشل"، سيؤدي حتمًا الى الاكتئاب.
بعد تلك الدراسات، لجأت بعض أشهر محلّات التسوّق حول العالم وأضخمها الى التقليل من أعداد أصناف المنتجات على رفوفها بهدف "تبسيط عملية التسوق على زبائنها"، مثل قرار شركة تيسكو البريطانية العملاقة بالتخلّص من 30 ألف صنف من أصل 90 ألفًا من فروع السوبرماركت التابعة لها حول العالم، ذلك بعد أن كان "الحجم والعدد" الكبيران هما جوهر فكرة نشوء تلك المحلات وعنصر دعايتها الأساس.
"أريدُ فقط أن أدخل الى محلّ ثياب وأجد بنطلون الجينز الذي طالما كان يناسبني بشكله ونوعيته من دون عناء التفتيش بين عشرات الأشكال والأنواع.. والانتهاء بالخروج غير راض من دون الحصول على ما أردته فعليًا" يقول عالم النفس الأميركي باري شوارتز أحد المنظرين لمساوئ تطبيق مبدأ تكثيف الخيارات في الأنظمة الرأسمالية الغربية (له كتاب The Paradox of Choice, why more is less صدر عام 2004).
الخيارات في زمن كورونا
ثم جاء فيروس كورونا، وهزّ بعض أسس منظومة خياراتنا كما اعتدناها فأعادها الى معادلات بدائية وذكّرنا بالواقع "الحقيقي" وخياراته الفجّة الثقيلة. قرارات كإنقاذ حياة أحدهم أو إزالة جهاز التنفس عنه لإنقاذ حياة آخر؟ هل أخبز كيكة وأضعها على باب جيراني المصابين المحجورين أو أكتفي بتحيّتهم عبر النافذة أو أغلق كل نوافذ المنزل وأسدل الستائر؟ هل أعطي العمّال إجازات مرضية مدفوعة أو أخصمها من رواتبهم أو أصرفهم؟ هل أبقى في المنزل وحيدًا أو أذهب الى أصدقائي أو أهلي مع كل المخاطر المرافقة؟ هل أشتري كمامة أو أتركها لمن يحتاجها فعلًا؟ خيارات محدودة وغير متشعّبة لامست قضايا الحياة الأساسية: الحياة والموت، التواصل الاجتماعي الفعلي، حقوق العمّال ومبادئ العمل، حسّ المسؤولية تجاه المجتمع، عمل الخير، أولويات الحفاظ على الوجود. عادت خياراتنا الى نقطة الصفر، إلى أسئلة مسّت الغرائز البشرية الأولى وطبيعة تكوين الذات.
هل كنّا فعلاً غارقين في "لا واقع" أردناه مهرجانًا دائمًا من سلع متدفقة واستمتاعًا بخيارات غير محدودة وبنشوة التملّك؟ وهل كنّا بذلك نبتعد عن الرفاه والسعادة أو نقترب منهما ونحققهما أحيانًا؟
بعد انتشار الفيروس، وضعتنا العزلة المفروضة كحجر صحّي بدورها، أمام أسئلة موازٍية ومناقضة لمجموعة الأسئلة السابقة: ماذا لو لم تكن لدينا تلك الخيارات الكثيرة المتاحة خلال أزمات كهذه؟ كيف كنّا لنمضي هذا الوقت الطويل في عزلاتنا من دون أدوات الاستعلام والترفيه والتواصل الآني؟ لكن أيضًا، ما الذي كان سيتغيّر لو لم نكن قادرين على الاطلاع على أعداد المصابين والقتلى على مدار الساعة في مختلف بقاع العالم؟ هل كنّا سنعلم أقلّ أو نهلع أقلّ؟ ماذا عن كميات المعلومات الطبّية المتخصصة (الدقيقة والمفبركة منها) التي تملأ تطبيقات هواتفنا ومحرّكات البحث لدينا، إلى أي مدى يبدو مفيدًا الوصول إلى معلومات متخصصة بهذا الكمّ من دون القدرة على فلترتها أو فهمها حتى؟ كيف ستبدو خياراتنا عندما تنتهي الجائحة ونخرج من العزلة؟
... ثم يأتي أحدهم ليقول؛ وما فائدة كلّ تلك الخيارات إن كثرت أو قلّت ونحن بتنا نعيش في نظام شمولي توتاليتاري فرضه علينا فيروس بات يتحكّم بطريقة تحرّكنا داخل منازلنا وبمواعيد تحرّكاتنا خارجها وبكيفية المشي وبأماكن وقوفنا وبعدد مرّات غسيل اليدين وبطرق تطهير كل شيء؟ نظام فرض علينا "تباعدًا اجتماعيًا" وأعاد إحياء رهاب الأماكن المكتظة وتخوين من لا يلتزم بالتعاليم الصارمة.
هل ستضيق المساحات بعد أن تشعّبت كثيراً؟ كيف سيكون شكل الرفاه الجديد والحرية الفردية وخياراتها في الدعاية الرأسمالية المقبلة؟ هل ستسمح الأسواق للشعوب بأن تستجمع قواها تهيّؤًا للأزمة المقبلة؟