خرج متثاقل الخطوات وعلامات الإرهاق الممزوجة بالحزن والقلق تغمر وجه، عيناه حائرتان وعقله مشتت بين التفكير في ضرورة جمع المبالغ المستحقَّة عليه خلال أيام، ودوائر معارفه القليلة جدًا التي بالكاد كان يمكنه أن يقترض منهم مبلغ بسيط ليكمل شهره. كل هذا بعد أن أبلغه مديره، بنبرة مكسورة، قرار الإدارة بخفض ساعات العمل للنصف، وكذلك خفض الراتب للنصف أيضًا.
على الرصيف المقابل، تتعثر خطوات سيدة في منتصف الثلاثينيات، تتلفت يمينًا ويسارًا، كأنها فقدت شيئًا ما داخل عقلها، تخرج هاتفها بين برهة وأخرى، تفتح الحاسبة، تجمع وتطرح، ثم تتنهد بضيق، تفكر إلي أين ستذهب بعد أن فقدت عملها.
عبد الله سلامة* موظف في شركة سياحة، وأب لطفلين (8 سنوات و 4سنوات)، وشيماء مختار أم منفصلة تتحمل نفقات طفلتيها (6 سنوات و4 سنوات)، اثنين غرباء يتقاطع طريقهما عند مركز دائرة إجحاف القطاع الخاص في ظل أزمة فيروس كورونا.
يبدأ الأسبوع الثالث من الحجر الصحي الذي فرضته الحكومة، في مصر، على المواطنين، كإجراء وقائي، للحد من انتشار فيروس كورونا بإجراءات أشد من الأسبوعين الماضيين، حيث فرض حظر التجول الليلي، مع استمرار وقف عمل الجامعات و المدارس، وأغلب الجهات الحكومية.
تخفيض رواتب
بدأ القطاع الخاص، الذي يمثل العاملون به 80% من قوة العمل المصرية، في اتخاذ إجراءات وقائية، تنفيذًا لتوجيهات الحكومة، منها تخفيض عدد ساعات العمل، وتقسيمها لورديات، وبما أن ذلك، سيؤثر على الإنتاج، في ظل الظروف القائمة، خفضت بعض هذه القطاعات أجور عمالتها بنسب مختلفة تتخطى الثلث أحيانًا.
في أسى شديد، يتحدث عبد الله سلامة للمنصَّة، عن قرار تخفيض الرواتب، فأثناء يوم عمل معتاد، أخبره زميله أن المدير يطلب الموظفين في اجتماع طارئ، تلفتوا جميعًا قي محاولة لتخمين سبب الاجتماع المفاجئ، وشعروا بأن هناك كارثة ما في انتظارهم، ظنوا أن الشركة ستعلق نشاطها لحين الانتهاء من الأزمة، وسيفقدون لقمة عيشهم، دخلوا قاعتهم على مهل، ليمرر مديرهم إقرارًا بالموافقة على تخفيض رواتبهم بنسبة 30%.
يقول عبد الله "فجأة حسيت بدوخة شديدة، افتكرت كل المسؤوليات اللي ورايا، لأني أعول أسرتي، زوجة وطفلين، وزوجتي لا تعمل، إزاي هسد احتياجاتهم كلها، بعد ضياع تلت المرتب، اللي كان يادوب بيكفي لحد قبض الشهر اللي وراه".
الوظيفة تبخرت
الوضع لم يختلف كثيرًا عند شيماء، "من أين سندبر أمورنا خلال فترة الحظر غير معلومة النهاية؟". الحظ لم يحالف شيماء مختار التي واجهت نوعًا آخر من الخسارة، فهي لم تتعرض لخفض راتبها، أو إجازة بدون أجر، فهي لم تحصل على الوظيفة بالأساس.
حصلت شيماء على وظيفة في شركة عقارات، بعد محاولات عديدة في البحث عن عمل؛ "بقالي فترة طويلة بدور على شغل عشان أقدر أوفر مصاريف بناتي، وعشان نقص فرص العمل، جالي شغل في شركة عقارات، مواعيدها مش مناسبة، وبعيدة عن بيتي، ومرتبها مش كبير، بس قولت مش مهم هعتبرها خطوة مؤقتة".
وتكمل "الشركة بعتتلي مواعيد التدريب، و اللي استمر لأسبوع، كنت بوفر فيهم المواصلات عشان أقدر أكمل، و كنت بعتمد على المترو بدل التاكسي، و بتمشى كام خطوة، خلصنا أيام التدريب الستة، بعدها نزلنا ثلاثة أيام، وبلغونا أنهم هيتحسبوا من أيام العمل، بعدها الشركة عطتنا إجازة، وبعد محاولات كتير علشان أوصل لحد من المديرين، بلغني المدير العام إن الشركة مش هتقدر تتحمل مرتبات ومفيش بيع".
التزامات أكبر
اتحاد الصناعات المصري، أصدر ورقة في 29 مارس/ أذار، تحمل ستة عشر مطلبًا من الدولة، على رأسها تأجيل فترة تقديم الإقرارات الضريبية حتى 30 يونيو/ حزيران المقبل، وإعفاء جميع الشركات لمدة ثلاثة أشهر من ضريبة كسب العمل والتأمينات الاجتماعية لتوفير سيولة للمصانع للوفاء بالتزاماتها، ومنها أجور العمالة، والإعفاء من القسط الثابت في الكهرباء وغرامات الغاز، والاستعانة بصندوق التعويضات لدعم الصناعات التي تتأثر بالأحداث.
وفي الوقت الذي أقر فيه محمد سعفان وزير القوى العاملة، صرف تعويض استثنائي للعمالة غير المنتظمة، المتضررة من أزمة كورونا، بقيمة 500 جنيه، للحد من نزولهم للشارع للبحث عن فرصة للعمل، لتقليل احتمال العدوى، هناك الكثير من الأيدي العاملة في القطاع الخاص يفقدون نسبة من أجورهم، وآخرون فقدوا أجرهم بالكامل.
يقول سلامة "بعد أزمة كورونا، استجدت ضروريات لازم توفرها لحماية بيتك، كمستلزمات التعقيم، وتنويع الأكل عشان نقوي مناعة الأطفال، كل ده أسعاره زادت بسبب الناس اللي اشترت كميات كبيرة لتخزينها، فقل المعروض، وده بيزود وضعي سوء".
بداية من شهر شعبان، يبدأ الأهالي في الاستعداد لاستقبال رمضان (يوافق 23 أبريل/ نيسان) وتحضير مستلزماته الخاصة، لكن مع اضطراب الأوضاع، يدخر الناس مقتطعاتهم لرمضان، لتغطية عجز مصروفات فترة الحجر، ويقول سلامة "زي الأيام دي كنا بنبدأ نكتب ورقة بحاجات رمضان، ياميش و خزين البيت، وفوانيس الولاد، لكن، أنا مش عارف دلوقتي هكمل الشهر ازاي، فترة الحجر هتكمل لحد إمتى، ويا عالم لحد ما تعدي هنقدر نغطي مصاريف البيت إزاي".
في مواجهة شره الآخرين
أما شيماء فتقول إن "الأطفال مستحيل نسيطر على طلباتهم، بحاول أشاركهم الوضع وأحملهم جزء من المسؤولية، بس صعب يفهموا، أنا متحملة نفقة بناتي، ومش عارفة هقدر أوفر مصاريف البيت إزاي، وأنا تقريبًا ماعنديش دخل ثابت، كلها حاجات مش مستقرة من شغل فريلانس".
وتكمل "من الأول بحاول أخفض مصاريف البيت، ومع بداية انتشار فيروس كورونا، بقيت حريصة أنضف بيتي أول بأول، وبدأت أبحث على النت، عن بدائل أرخص للمطهرات اللي سعرها عالي أصلًا من قبل الأزمة، كنت بعتمد على الكلور، وبطهر كل يوم أوضة، وأعزل بناتي في أوضة تانية، عشان حساسية صدرهم وريحته القوية، وعشان إحنا مش بنخرج تقريبًا بعد وقف المدارس، فمكناش بنحتاج كمامات أو جوانتي و كحول كتير، حاليًا، مش عارفة هخفض أيه أكتر من كده؟".
ارتفعت أسعار عدة سلع في الآونة الأخيرة، بينما تضاعفت أسعار بعض مواد التعقيم والتطهير، وسط استغلال التجار لحالة الشره الشرائي، ومحاولة تخزين كميات ضخمة من المنتجات تحسبًا لسوء الأوضاع.
مع ارتفاع حدة الأزمة، وازدياد الحاجة إلى المعقمات و المطهرات، على الرغم من تأكيد الشركة القابضة للأدوية في بيان لها على عدم رفع أسعار المستلزمات الطبية، إلا أنها شهدت ارتفاعًا كبيرًا، وقفز لتر سعر لتر الكحول من 45 إلى 200 جنيه، وعلبة الكمامات الطبية من 12 إلى 50 جنيه، حسب عضو شعبة المستلزمات الطبية بالغرفة التجارية بالقاهرة، أسامة كشري.
لا حلوى هذا الشهر
دخل سلامة منزله على مهل، استقبلته زوجته بتلك الورقة الصغيرة المعتادة المدوَّن بها طلبات المنزل، لم يأخذها كعادته، وأخبرها عن وضعهم الجديد، ويقول "قعدنا سوا بدأنا نفكر هنعمل إيه في المصيبة الجديدة، فكرنا هنقلل مصروفنا إزاي، بدأنا بتخفيض فواتير النت و الموبايل، نقلل الحلويات، ونقلل ميزانية اللحوم، كلها حاجات هتوفر، بس مش هتغطي المبلغ اللي محتاجينه عشان نكمل الشهر".
يشعر سلامة بغصة في قلبه كلما تذكر التزاماته التي ستطرق بابه بانتهاء الشهر، ويقول "زي أغلب الأسر المصرية، ساكن في شقة إيجار، في منطقة متوسطة، الإيجار وفواتير الغاز و الكهرباء والميه كان أول حاجة بتتشال من المرتب، عشان البيت يفضل مستور، باقي الفلوس كانت بتتقسم على الشهر، أنا دلوقتي مش عارف هقسم المرتب إزاي".
ويكمل "أحيانًا، لو شهر المصروف زاد فيه، مثلًا زي حد من الولاد يتعب، أو تطلع التزامات تانية، كنت بتصرف من صحابي، وهم كذلك، ونسدد بعض يوم القبض، دلوقتي، كلنا بنعاني من نفس الظروف، فحتى السلف بقا رفاهية مش موجودة".
بظرف مشابه، فتحت شيماء باب منزلها، استقبلتها ابنتاها متلهفتين، في انتظار أن تفتح الحقيبة وتُخرج منها قطعتان من الحلوى لكلتيهما، لكن عوضتهما الأم بحضن دافئ، كأنها تستمد قوتها منهما؛ "أول ما دخلت البيت، زي ما متعودين، استنوا أديهم حلويات، حضنتهم، وقولتلهم إن في ظروف جديدة، لازم كلنا نتشارك فيها، ونقلل الحلويات ونبدلها بكيك في البيت، نعمله سوا، عشان نقعد في بيتنا وقت أطول".
ينهي سلامة حديثه قائلًا "محدش عارف الأزمة هتنتهي امتى، وفي ظل مد الحجر والحظر، الوضع هيبقى صعب على الأسر المستورة، ولازم يكون في حل واضح من الدولة، بإلزام أصحاب العمل بدفع أجورنا كاملة، بما أن الرئيس هيدعم خسارتهم، أو الدولة نفسها توفرلنا بدلات أو سلع مخفضة نقدر نكمل بها الشهر".
تختم شيماء قصتها "كل اللي بفكر فيه إني ألاقي حلول بديلة، كنت بفكر في بيع منتجات أو أي شيء تاني، بس للأسف كل حاجة واقفة، خصوصًا مع حظر التجول، الحل الوحيد هو أني أقفل بيتي وألجأ لأهلي، وده أصعب حل عليا، لأني كنت بفضَّل أعيش مستقلة ببناتي، عشان يحسوا بالاستقرار وإن لهم بيت وخصوصية، مش ضيوف عند حد، بس نظرًا للظروف هضطر أشاركهم الوضع وننقل لحد الفترة دي ما تعدي".
دور القوى العاملة
يقول المحامي العمالي، ياسر سعد، إن قانون العمل حدد طرق التعامل بين طرفي العمل في المادة 41 منه، بطريقتين، إذا حضر العامل لمكان عمله وكان مؤهلًا للقيام به، وتم منعه لأي سبب، أو تخفيض ساعات عمله فيحصل على أجره كاملًا، في حالة منحه اجازة لظروف قاهرة، يحصل على 50% من الراتب.
ويؤكد سعد أنه من غير القانوني تعليق العمل دون دفع المستحقات للعمال، ولهم حق الطعن على هذه القرارات أمام المحاكم العمالية المختصة، وهنا تقع المسؤولية على وزارة القوى العاملة، التي يجب أن تحدد ماهية الإجراءات المتخذة، بحيث لا يقع الضرر على العاملين في مواجهة الأزمة.
لحد ما ربنا يزيل الغمة
دائمًا ما هناك نقطة مضيئة وسط الظلام، محمود شوقي، صاحب مقهي في مدينة الإسكندرية، قرر أن يخفف العبء عن عمالته، ووضع صحتهم أولويته، فقرر إعطائهم إجازة مدفوعة الأجر.
يقول شوقي "صنايعي القهوة هو عامل يومية، أوقات كتير كانوا بينزلوا يوم الإجازة عشان يوفر اليومية لحد من عياله، وهم اللي فاتحين المكان ده، لو أتحملت يومياتهم شهر مش هشحت، لحد ما ربنا يزيل الغمة ونرجع نشتغل تاني".
اتخذت الدولة عدة قرارات لمواجهة الوباء، ولكن وزارة القوى العاملة فضلت أن تلتزم الصمت، ولم تصدر بيانًا، حتى الآن، بشأن وضع عمال القطاع الخاص، ومدى مشروعية الاجراءات المتخذة ضدهم، وطرق المطالبة بحقوقهم في إطار القوانين، وحاولت المنصّة الحصول على رد من المتحدث الرسمي للوزارة، هيثم سعد الدين، ولكننا لم نتلق أي رد إلى وقت كتابة هذا التقرير.
* اسم مستعار بناءً على طلب المصدر