كان تيد موزبي وهو أحد أبطال مسلسل How I Met Your Mother يتمنى من كل قلبه أن يتقدم في العمر، وفي رأيه أن سن المعاش هو الأفضل؛ حينما يصل الإنسان إلى نهاية كل شيء، ولا يزور قلبه حيرة أو يشغل باله سعي وراء العمل وتحقيق الاحلام، والوقت كله يكون متاحًا للاسترخاء والمتعة.
تذكرت هذا الشخص وتمنيت أن تفكر أمي مثله؛ تذكرته وأنا جالسه أمامها وهي تشكو للطبيب من أمراض تشعر بها لكن ليس لها وجود، ليخبرها الطبيب أنها "حالة نفسية"، ويصف لها المهدئات القوية، والتي ستجعلني أجلس بجوارها ليالٍ طويلة في محاولات فاشلة لإقناعها بالخروج من الفراش، وكل هذا بسبب وصولها إلى الستين و"طلوعها على المعاش".
ميرفت محمد إبراهيم، تلك الشخصية القوية والتي دائمًا ما تميزت بالمرح نظرًا لقرابتها لمحمود شكوكو (عمها)، وكانت مديرة عامة في وزارة الشباب والرياضة قبل المعاش؛ نظرت إلى حياتها لتجد أن ابنها تزوج، وابنتها على وشك ذلك أيضًا، ولم يعد لها أي دور في الحياة، فهجم عليها الاكتئاب للمرة الأولى في حياتها، وهي التي لم تشتك من أي مرض نفسي من قبل حتى بعد وفاة زوجها، ولكن الفراغ أحيانًا قد يكون أشد وطأة من الحزن. تقول أمي عن تلك الفترة "شعرت أن حياتي انتهت.. لا زوج ولا صديق ولا أحد يشاركني المنزل.. الوحدة كانت تقتلني".
قبل وبعد.. أيهما أكبر؟
أثناء رحلة إلى الاسكندرية وفي محاولة للترفية عنها، حاولت إقناعها أنها في حاجة ماسة لتكوين صداقات، فأصدقاء العمل خرجوا من حياتها بمجرد وصولها لسن المعاش، وللمرة الأولى ألمح في عينيها اقتناع تام بما أقوله؛ ومنذ تلك اللحظة تغير كل شيء في حياتها؛ وكلمة السر كانت مجموعة على فيسبوك اسمها قلوب.
بالصدفة البحتة، وأثناء حديثها مع أحد أصدقائها القدامى، قال لها إن هناك مجموعة على فيسبوك ويود أن يضمها إليها، لأنه يظن أنها ستسعد بها، وقد كان. تقول أمي "كنت أشعر بالقلق.. فعلى مدار ثلاثة سنوات بعد المعاش لم أتعامل مع أحد، وكنت أشعر برهبة تجاه الخروج من المنزل، وثقتي في نفسي كانت مهزوزة، ولكن مع الوقت، وبعد أول تجمع مع الجروب والذي كان أصعب؛ شعرت أن هناك حياة كاملة يمكن أن أعيشها في هذا الجروب".
المميز في تلك المجموعة، والذي لفت نظري إليها، أنها ليست مجموعة افتراضية فقط، فمؤسس هذه المجموعة اللواء المتقاعد إسماعيل فهمي، ينظم مقابلات مرتين في الأسبوع على أقل تقدير، إلى جانب السفر للإسكندرية وبلطيم والفيوم حوالي أربعة مرات سنويًا.
الأعمار في هذه المجموعة تتراوح ما بين 40 و70 سنة، والنسبة الأكبر منهم لا يعملون، عادة ما تتم اللقاءات في النوادي الخاصة بالشرطة أو الجيش بالمعادي، أو مقاهي الزمالك والحسين.
في اللقاء الواحد للمجموعة قد يصل عدد الحاضرين لحوالي 40 شخصًا، وغالبًا ما يتم اختيار مطرب لتلك الجلسة، ويشارك جميع الحضور في أجر هذه، وفي اللقاء الواحد قد تجد أكثر من شخص قادم من محافظة غير القاهرة، مثل طنطا أو الاسكندرية، وتجد أيضًا الأبناء والأحفاد يشاركون كبار السن تلك المتعة، وأنا واحدة منهم؛ لم أستطع مقاومة فضولي لمقابلة هذا الـ"جروب" وذهبت مع أمي بالفعل في أكثر من لقاء؛ لاكتشف عالمًا لطيفًا للغاية.
فيسبوك كبوابة للحياة
عادة ما نسخر نحن الشباب من الصور التي يستخدمها كبار السن على الفيسبوك والتي تحتوي على زهور وكلمات مثل صباح الخير أو جمعة مباركة، ونخجل من وجودهم لدينا في قائمة الأصدقاء حتى لا يعلقون تعليقًا قد يحرجنا أمام أصدقائنا، ولكن بعد انضمامي لتلك المجموعة اكتشفت أن كبار السن يستخدمون الجروب استخدامًا رائعًا.
فكل مهمة في الجروب لها أهمية، وكل بوست يجب التعليق والمشاركة عليه، واللقاءات والخطط تعامل بجدية، وتشعر أن بهم حيوية أكثر من معظم الشباب الذين يتمنى كل واحد منهم أن يلغي الطرف الآخر خطة الخروج حتى يستمتع بالكسل في منزله، وهو يشاهد المسلسلات الأجنبية أمام التلفاز.
يتشاركون التجارب، و يواسون بعضهم البعض في المحن، وتدب بينهم الشجارات، ويتصالحون، ويتزوج بعضهم من بعض فهناك الكثير من الأرامل والمطلقين في الجروب، وأمي واحدة منهم (أرملة) وهي الآن تدرس جديًا فكرة الزواج حتى لا تعيش ما تبقى لها من العمر وحيدة، خاصة وأن هناك أكثر من "عريس"، كما تصف الأمر بنفسها، يحدثها من الجروب طالبًا الزواج منها، وكل ما أفعله الآن هو تشجيعها على هذه الخطوة. ولكنها أيضًا تقول "إذا كان هذا الزوج سيمنعني عن الجروب فلن أتزوج.. فأصدقاء الجروب عندي أهم من الزواج".
فيسبوك الذي عادة ما يُستخدم للسخرية والخلافات السياسية وشجارات كرة القدم، أرى كبار السن في هذا الجروب يستخدمونه كبوابة للحياة، التي فقدوها بعد سنوات من المكوث في المنزل فريسة للوحدة.
الموظفون وفيسبوك
في المرة الأولى التي قابلت فيها أمي أعضاء الجروب لم تتحمس وهاجمتها نوبات ذعر، وكان هذا طبيعي بعد الفترة الطويلة التي قضتها في المنزل بعد المعاش. تصف إحساسها وقتها "كنت أشعر بالغربة بينهم، وبعد أول مرة لم أكن أنوي الذهاب للتجمع التالي"، ولكن بعد حديثنا سويًا الذي اقنعتها فيه أن تمنح الأمر بعضًا من الوقت، اقتنعت وهي الآن مسؤولة (أدمن) في الجروب.
في هذا الجروب أن تكون أدمن؛ فأنت موظف، هناك مواعيد يومية للنشر، وهناك أدوار محددة للأدمن، وأخرى للمشرف، وتلك الأدوار لا تتوقف على الواقع الافتراضي أيضًا، بل تشمل التجمعات والسفر، وكل مسؤول منهم له مهمة معينة، فشخص عليه تصوير اللقاءات، وآخر يتولى أمر الحسابات المالية، والترفية من مسؤولية مؤسس الجروب، الذي عادة ما يحدد مكان التجمع ويتفق مع المطرب.
شعرت أمي أنها موظفة مرة أخرى، وتؤكد لي "إدارة الجروب تملأ علي كل وقتي"، وعلى الرغم من أن الأمر ليس له أي عائد مادي، إلا أن العائد المعنوي لا يقدر بالمال، فشعورها بالمسؤولية وإدارة الأمور من جديد ساعدها على الخروج من قوقعة الاكتئاب التي كانت على وشك التهامها.
أنظر إلى أمي الآن في زيارتي الأسبوعية لها، وهي لا تجد الوقت الكافي لتقضيه معي نظرًا لانشغالها في الجروب، وأشعر بالسعادة، أتذكر يوم زيارتنا للطبيب والمهدئات، وأبتسم حينما أدرك أن حل المشكلة التي عشتها مع أمي خمس سنوات كان بهذه البساطة، ولذلك ومن وقتها، كلما قابلت أصدقائي أطالبهم بتشجيع آبائهم على الخروج للحياة مرة أخرى.
هذا الجيل، جيل الموظفين؛ اعتاد من شبابه على الحركة والانطلاق في الحياة، قبل ظهور وسائل التكنولوجيا التي ربطت جيل "الفريلانس" في منزله للعمل أو حتى للاسترخاء بعد عدد ساعات عمل طويلة، عكس الوظيفة الحكومة التي كانت ينتهي دوامها في الثانية ظهرًا.
هذا الجيل تعود على الذهاب للنادي، والسينمات، والحدائق العامة، واعتاد للخروج يوميًا للعمل، وبعد المعاش يشعرون بمكوثهم في المنزل أن حياتهم قد انتهت؛ إذا كان والدك أو والدتك في تلك الحالة، أبحث عن هذا الشيء الصغير الذي سيعيد الحياة مرى أخرى إليهم وأمنحه لهم، فالحزن والوحدة يمكنهما أن يقتلا كبار السن بسهولة.