برز اسم تهاني عباس على الساحات الإعلامية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، بعد الدور الكبير الذي لعبته في لفت أنظار العالم إلى قضايا النساء في السودان، والانتهاكات التي مورست بحقهن خلال سنوات طويلة من حكم نظام الرئيس المخلوع عمر البشير العسكري ذي الطابع الإسلامي.
في نهاية عام 2018 وبينما كان نظام البشير يلفظ أنفاسه الأخيرة، اختارتها هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي ضمن أفضل مائة امرأة في العام، وفي مطلع العام الذي تلاه سقط البشير لتبدأ النساء في السودان مرحلة جديدة يأملن أن تتشكل فيها مساحات أوسع من الحرية والحياة والأمل.
المنصة التقت تهاني عباس، ممثلة المجموعات النسوية في قوى إعلان الحرية والتغيير، ومسؤولة المكتب القانوني في مبادرة لا لقهر النساء، وعضوة اللجنة التنسيقية للتحالف السوداني لإنهاء زواج الطفلات ومؤسسة مبادرة بيوت رحيمة التي تعنى بعاملات المنازل، بالإضافة لنشاطها في أكثرمن مباردة نسوية سودانية، ودار معها حوار حول التضامن النسوي وتأثيره في مسار الحراك النسوي في السودان خاصة إبان الثورة السودانية.
سنوات البشير: سنوات الانتهاك
تعتبر تهاني أن السنوات الثلاثين التي شهد السودان فيها حكمًا عسكريًا إسلاميًا كانت "سنوات الانتهاكات المتكررة لحقوق النساء"؛ حيث "شرعت الدولة القوانين وحمتها بترسانة عسكرية كانت كلها في سبيل إذلال وإهانة المرأة في السودان، بينما المرأة السودانية لديها تاريخ كبير من النضال ممتد من "الكنداكات" في عهد الدولة النوبية وحتى التاريخ الحديث في مناهضة الاستعمار.
وتلفت تهاني إلى أن الحركة النسوية السودانية "دائما كانت غنية برائدات بارزات"، لكن وقت الحكم العسكري وعهد الإسلاميين وهي سنوات حكم الرئيس المخلوع عمر البشير، تراجع الحراك النسوي السوادني كثيرا "ما كنا قادرين نلاقي براح كي نشتغل بمفردنا، وكانت كل واحدة فينا تحتاج إلى اليد الثانية من أختها" فاحتاجت النساء لمناصرة حقيقية بدأنها كوسيلة عادية لكن أثبتت فاعليتها بشكل كبير لذلك قمن بتأسيسها بشكل أوسع.
تعمل تهاني حاليا مسؤولة للمناصرة في أحد منظمات المجتمع المدني السودانية، وتقول إن عمل المناصرة يجلب كل يوم قضية جديدة لم تكن مطروحة من قبل لأنه عبر 30 سنة "ما فكرنا في تنمية ما فكرنا في اقتصاد"، مشيرة إلى الانتهاكات الكثيرة التي حدثت للنساء سواء من القانون أو من العنف المؤسسي أو عنف الدولة والعنف المنزلي وغيرها، فلم يكن هناك طريق غير مناصرة النساء لبعضهن .
"أنا عميقة الإيمان بالعمل الجماعي". الكثير من أحاديث تهاني تبدأ بهذه الجملة، ولكن هذه المرة كانت تتحدث عن مسألة المناصرة والتشبيك وحشد الدعم والتضامن وكلها أدوات فعالة اختبرتها النساء وكانت ناجحة جدا في إبراز قضاياهن للخارج وتوصيل أصواتهن للجهات المعنية محليا وإقليميا. تقول تهاني إن الحشد وكسب التأييد من المجموعات النسوية العالمية سواء كانت إعلامية او جهات ذات صنع قرار كلها أدوات أسهمت كثيرا في تحقيق مكاسب للحركة النسوية السودانية.
ترى تهاني أن التضامن هو واحد من أدوات التصحيح التي انتبهت لها النسويات في السودان حديثا، حيث كانت الجهود مشتتة او متفرقة فيما مضى " كل حد بيكون عنده قضية أو أجندة نسوية ما ماشي فيها"، لكن مسألة التضامن النسوي ومفهوم المناصرة والحشد جميعها ظهرت خلال الخمسة عشر عاما الأخيرة، والمجتمع المدني السوداني عمل على تطويرها مما ساعد في إعادة قراءة الحركة النسوية السودانية.
وتقول تهاني إن هناك دائما تساؤل حول ما إذا كانت الحركة النسوية في السودان هي الحركة التي بدأت في أربعينات القرن الماضي أم هي مدارس فكرية ذات علاقة بالمدارس العالمية والسودان "ما معزول" ، في النهاية الحركة النسوية في السودان هي خاضعة لكل التغيرات التي تحدث للحركة النسوية في العالم، لكن في الوقت نفسه تؤكد أن مسألة التضامن والمناصرة كانت واحدة من الأدوات الناجحة التي مكنت الحراكات النسوية في السودان من " لم شتاتها" والاتفاق على أرضية مشتركة يمكن إطلاق الحراكات منه، و"حقيقي كانت واحدة من أدواتنا الكويسة جدا".
المرأة السودانية في قلب الثورة
مع اندلاع الثورة السودانية نهاية 2018 ثم الإطاحة في أبريل/ نيسان الماضي بالبشير، اكتسب الحراك النسوي مزيدًا من الزخم. وترى تهاني أن هذا الحراك أظهر كل أشكال التضامنات النسوية، رغم أنه كان هناك دائما حراك نسوي لكن منذ بداية الثورة، وبات الأمر أكثر وضوحا، حيث في رأيها المرأة السودانية هي صاحبة المصلحة الأولى من سقوط العسكر والإسلاميين.
"هي عندها مصلحة في زوال نظام غاشم صمم كل آلياته تجاه قهرنا وإرجعانا إلى حوش الحريم"، لذلك ترى أن مسألة التضامن كانت واحدة من نجاحات الثورة السودانية؛ مثلًا عندما تمت الاعتقالات لقيادات الحركة النسوية كلها، وكان هناك وقتها حوالي 217 سيدة معتقلات في السجون، كانت السيدات قائمات على أمر بيوتهن وعلى أسرهن ورعاية أطفالهن، وكان ذلك أحد مظاهر التضامن النسوي.
كونها مسؤولة التنسيق بين قوى إعلان الحرية والتغيير والمجموعات النسوية في السودان، اعتبرت تهاني أن فترة الثورة كانت الوقت الذي ظهر فيه التضامن النسوي الحقيقي على المستوى المحلي والحركة النسوية السودانية "الوقت كان صعب شديد" وقيادات الحركة النسوية ذاتها كانت في السجون، والتضامن النسوي في هذه الفترة "كان الروح الذي نجت الثورة وجعلتنا صمدنا وواصلنا في الشارع، هذه واحدة من مكاسبنا كحركة نسوية سودانية"، حيث كان الهدف محددا وهو إسقاط النظام، وتم العمل عليه وحشد الرأي العام العالمي والمناصرة ، وظهرت قيادات نسوية شابة في الميدان منها على سبيل المثال آلاء صلاح التي لقبت فيما بعد بأيقونة الثورة السودانية وكان كل ذلك بفضل التضامن بين النساء.
أما على المستوى الإقليمي والدولي فتقول تهاني إن التضامن جاء من الدول المجاورة، فكانت كل المدافعات عن حقوق الإنسان في الإقليم يظهرن لنساء السودان أشكالا مختلفة من الدعم، منها على سبيل المثال إصدار البيانات والرصد وكتابة التقارير، بالإضافة إلى توفير خدمات الدعم النفسي وغيرها من سبل الدعم والتأييد.
واستطاعت النساء إبان الثورة السودانية أن يلفتن انتباه العالم بالوسائل المختلفة كالزغاريد والأغاني والأناشيد الثورية، لكن بالإضافة لذلك تروي تهاني أن المجموعات النسوية السودانية أسسن شبكة كاملة متصلة "فكنا نصدر بيانا موحدا لدعم النساء ، ونعمل على السوشيال ميديا في نفس الوقت"، بالإضافة إلى الاشتباك مع أكثر من جهة دولية مثل الاتحاد الأفريقي، وجامعة الدول العربية، وتضيف أنه لولا العمل الجماعي ما كان سيحدث هذا الفرق وتحقيق المكاسب التي فازت بها نساء السودان ، فبفضل هذا الحشد النسائي الذي شكل ضغطا على حكومة الثورة ذاتها فازت النساء بنسبة 40% في كل مستويات الحكم، وهذه كلها تعتبر انتصارات حقيقية للحركة النسوية السودانية في رأيها.
بالنسبة لها، التضامن النسوي هو روح المقاومة القوية والمؤثرة، حتى أن انتهاكات النظام السابق - وتضرب مثلًا حوادث الاغتصاب الممنهج التي تمت في أحداث القيادة العامة- جاءت كنوع من الانتقام ومحاولة لكسر روح التضامن بين النساء الذي حدث في الثورة؛ فبحسب شهادات بعض ناجيات كان المغتصب أثناء قيامه باغتصاب الفتاة يقول لها "عشان تقولوا احنا الكنداكات واحنا مع بعض واحنا الترس.. تحسي الغل في كلامهم"، وتؤكد تهاني أن هذه الفترة كانت من أسوأ الفترات التي مرت بها نساء السودان حيث عشن فيها في "جرح عميق ..كانوا تعبانات شديد"، مشيرة إلى أن التضامن فيما بينهن كان دائما روح الصمود والمقاومة الحقيقية للحركة النسوية في السودان.
وتوضح تهاني أن التضامن مفهوم يتجدد كل مرة وفقا لمتغيرات العالم، فكلما كان منظمًا أمكن استخدام الآليات الجديدة بشكل علمي وتحقيق فائدة أكبر، لذا في رأيها من الأفضل أن يتم التضامن بشكل منظم في إطار مؤسسات أو شبكات أو تحالفات حتى تصبح النتائج فعالة ومضمونة، وخاضعة للمحاسبية والتقييم، من أجل التمكن من قراءة نقاط القوة والضعف ومدى التأثير ، لكن ذلك "لا ينفي أهمية التضامن الفردي أو يقلل من أثره" بحسبها.
قصة نورا
تدلل تهاني على أهمية التضامن المؤسسي، بقصة الفتاة نورا حسين التي اقتربت كثيرًا من حبل المشنقة بعد أن قتلت زوجها الذي اغتصبها بمساعدة أهله، فقضت المحكمة بإعدامها.
استطاعت تهاني بالحشد والتضامن أن توجه أنظار العالم لقضيتها وتجعله يتضامن معها. "نورا حقيقي وصلت المشنقة"، تقول تهاني، لكنها تمكنت من رؤيتها أول ما وصلت المحكمة بسبب عملها (تهاني) الدائم مع النساء داخل السجون، وعندما سمعت قصتها أطلقت تهاني نداء للسودانيين وللعالم كله لدعم الفتاة وإنقاذها من حبل المشنقة الذي كان محتما عليها، ووصل الأمر لرئاسة الجمهورية التي استدعتها ونددت بفعلتها باعتبار أن ذلك "يعرض سمعة السودان للخطر" كما قال لها حسبو عبد الرحمن نائب الرئيس، الذي كان مصادفة من نفس قبيلة نورا المحكوم عليها.
تواصلت تهاني مع جهات مختلفة لتخلق حالة من المناصرة الدولية والإقليمية "وقتها العالم كله التف حول نورا"، حتى جاءت سيدة من الكونجرس لحضور جلسات المحاكمة وتدخلت وزارة الخارجية الأمريكية والسفارات الأجنبية في الخرطوم، فأصبحت هناك حالة من التضامن " أنا ما مستوعباه لحد الآن"، تقول تهاني، انتهت بإنقاذ الفتاة بالفعل من حبل المشنقة وتخفيف الحكم إلى خمس سنوات، وهي الآن تدرس القانون في السنة الثانية لتصبح بذلك أول سجينة تلتحق بالجامعة وتقدم امتحاناتها من داخل السجن في السودان، بعد أن كان موتها محتما، لكن التضامن معها غير مسار القضية تماما "دي واحدة من الحاجات اللي حققنا فيها انتصار كبير جدا".
ومن الأمثلة الأخرى التى أحدث فيها التضامن النسوي في السودان تغييرا ، تحكي تهاني عن جرائم الاغتصاب التي تمت في أحداث القيادة العامة "والتي أنكروها في البداية جملة وتفصيلا"، في حين وجود مقاطع فيديو للجرائم وشهادات الناجيات الأحياء "شايفينهم بعيوننا يعني"، بالإضافة إلى تقارير الحالات ممن تم اغتصابهن، لكن "عشان يحافظوا على علاقاتهم بالعساكر الجنجويد والقوات المسلحة قالوا ما في اغتصاب".
وتتذكر تهاني حالة فتاة انتحرت بالفعل أول ما سمعت هذا الكلام، وهي كانت في السنة الخامسة في كلية الطب وكانت تعمل في العيادات الميدانية في الثورة، وتم اغتصابها بالفعل في القيادة العامة فعندما تم إنكار الاغتصابات "ما استحملت المسألة وشعرت بالخذلان انه هاي ما الثورة اللي مشوا ليها" فأقدمت على الانتحار فورا، ومجددا بفضل تضامن النساء واحتشاد المجموعات النسوية والإصرار على الاعتراف بالجريمة، بالفعل أقرت السلطات قبل أيام بوقوع جرائم الاغتصاب في القيادة العامة، وهو ما تعتبره تهاني أيضا أحد مكتسبات المناصرة والعمل الجماعي.
أما على الصعيد الشخصي فقد استفادت كثيرا من التضامن النسوي في حياتها، "طبعا، أنا جاية من الموت"، تقول تهاني، "مرت بي ظروف على المستوى الشخصي، لا يستطيع أحد أن يتحملها أحد، فأنا أتعرض للتهديدات دائما خاصة أنا عندي أطفال، وفي بعض الأحيان تصلني رسائل تهديدات وصور لأطفالي، لكن لما أمشي في الشارع في السودان "ألقى بنات ما أعرفهم يقولوا لي شكرا ليكي، دي حاجة بتخليني أستمر في نشاطي كمدافعة".
وتابعت أن التضامن يجعلها تشعر بأنها ليست وحيدة في هذا النضال، وتعبر عن امتنانها للصديقات المدافعات في مصر تحديدا اللواتي قدمن لها سبل الدعم المختلفة عندما فقدت أعز خمس صديقات لها اللائي لقين مصرعهن جميعا في أحداث الثورة، وتقول إنها لم تكن لتتجاوز هذه المرحلة إلا بفضل دعم النساء وإحساسهن بها. "صديقاتي توفين ولا يوجد شئ لتغيير ذلك، لكن ما نستطيع عمله هو الوقوف بجانب الأحياء والبحث عن ما يمكن عمله لهن"، مشيرة إلى أن كل القوة التي تحركها تعزوها للتضامن الذي لولاه على المستوى الشخصي ما كانت لتكمل المشوار.
تضيف تهاني أن السودان مر بفترة كرب شديد أثناء أحداث مجزرة القيادة العامة، حيث أغلقت البيوت وأجلت الأعياد وتوقف الناس عن الاحتفال بالأعراس، " ما كان زول يقدر يشوف زول"، ثم دخلت البلاد حالة blackout of Media وتم قطع الانترنت لأكثر من شهر، تصفها تهاني بـ"الفترة القاسية جدا" ، مؤكدة أنه لولا المناصرة والتضامن معنا "ما كنا وصلنا لما وصلنا له الآن".