على أصوات دق حبوب البن المحمص ورائحة بخور الجاوي، تستيقظ عائلة سناء موسى السودانية كل صباح، إذ اعتادت تحميص البن وتجهيز قعدة القهوة يوميًا منذ جاءت إلى مصر لتحافظ هي وعائلتها على العادة التي ترمز لكرم الضيافة السودانية.
عشر سنوات مرت منذ هاجرت سناء وأسرتها من السودان، غير أنها حملت معها ما يذكرها بوطنها كتميمة، قعدة الجبَنَة السودانية، وهي طقوس فلكلورية لشرب القهوة، تدل على أهمية المشروب الأسود المحبب.
تصف سناء لـ المنصة قعدات الجَبنة السودانية بمتنفس الجميع، حيث يجتمع كبار السن والنساء وحتى الصغار، كلٌ له دوره "الجميع لازم يتكلم أو زي ما بنسميها احنا يتونس".
يتولى الأطفال مهمة تقديم القهوة للضيوف، حسب بروتوكول متوارث، يبدأ من الأكبر سنًا وهكذا.
سناء ليست السودانية الوحيدة التي تعيش في مصر وتحافظ على عاداتها الأصيلة، ووفقًا لما جاء على لسان الرئيس عبد الفتاح السيسي يوجد في مصر 5 ملايين سوداني ينتشرون بالأخص في محافظات القاهرة والجيزة والإسكندرية ودمياط، وبعد فرار أعداد أكبر من الحرب الدائرة في السودان منذ 7 أشهر إلى مصر، انتقلت معهم قعدات القهوة متجاوزة الخوف والحزن، وأجواء الحرب المسيطرة.
تسمى القهوة السودانية باسم الجَبَنَة بفتح الجيم والنون، نسبة للإناء الفخاري المخصص لصب القهوة، الذي يشبه الإبريق الصغير مع قطعة من الشاش عند فوهته لتصفية القهوة.
وتسمى تجمعات شرب القهوة بالوناسة لأن الجميع يستأنسون بالجلوس، يتسامرون ويتشاركون النصح والاستشارات والخبرات.
حكاية الجَبَنة
ترتبط القهوة بتراث السودان، لتشكل طقسًا اجتماعيًا وثقافيًا مميزًا، حيث يمتزج صوت طحن البن بإيقاعات الموسيقى والغناء الذي يتشارك فيها الجالسون.
يعود تاريخ قعدات القهوة إلى قبائل البجا الموجودة في شرق السودان، فاعتادوا صنع القهوة في التجمعات بطقوس خاصة كالغناء وإلقاء الشعر والعزف على آلة الطنبور التراثية التي تشبه الربابة، وحكي الأساطير.
تحب قبائل البجا القهوة، يتناولونها في كل المناسبات حتى أن الواحد منهم يمكن أن يشرب أكثر من 40 كوبًا في اليوم، يشبهونها بالعسل في شكلها لكنها تتفوق عليه في المذاق بالنسبة لهم.
انتشرت القهوة في بيوت السودان كطقس يُميز الجلسات الخاصة والمناسبات، كما اكتسبت حضورًا خاصًا في الأعمال الفنية والفنون التشكيلية. وتناولتها كثير من الأغاني السودانية التراثية، وسرعان ما اندمج المصريون في جلسات القهوة ليصبحوا جزءًا من طقس سوداني عزيز.
طريقة صنع الجَبَنَة
تُصنع الجَبَنَة السودانية يدويًا بالمنزل بداية من تحميص حبوب البن الخضراء حتى صنع كوب القهوة، "ريحة تحميص البن الأخضر في البيت في الصباح أهم أحيانًا من شرب القهوة نفسها" كما تقول سناء. وتتكون القهوة السودانية من حبوب البن المطحونة، وتقدم كما هي دون إضافات ووقتها تسمى جَبَنَة فقط، أو تُصنع محوجة بإضافات من الحبهان والزنجبيل والقرفة والفلفل الأسود ووقتها تسمى جَبَنَة بالدوا أو قهوة محوجة.
وتسمى صانعة القهوة بست المزاج، وتتبارى الفتيات الصغار في تعلم طريقة صنعها وتحضيرها لتكتسب مكانة خاصة في جلسات القهوة.
البخور أيضًا عنصر مهم في قعدات القهوة السودانية، خصوصًا الجاولي الإثيوبي، والعدني الذي تصنعه السيدات السودانيات بالمنزل.
وتقول سناء "البخور من الأساسيات في حياتنا اليومية نستخدمه في تعطير المنزل وطرد السموم والطاقة السلبية وفي كافة المناسبات والأفراح". وطبخ البخور يحتاج لمهارة وخبرة تتقنها السودانيات ويتعلمنها منذ الصغر، ويُصنع عن طريق خلط المواد العطرية من خشب الشاف والصندل والضفرة السودانية مع السكر والمسك المطحون.
مزاج الجَبَنة
رغم ظروف الحرب الحزينة التي يعيشها الشاب العشريني مجاهد شرف، بعد انتقاله للإقامة في مصر وعائلته لم يتخل عن قعدات القهوة السودانية التي وصفها لـ المنصة بـ"الونسة السوداني"، أي الونس.
يقول مجاهد "قعدات الجبنة عادة يومية مهمة تزيد الروابط بالأهل والأصدقاء ونادرًا ما تلاقي واحد بيشرب القهوة منفردًا".
القهوة تحب اللمة، إذ يندمج الجميع في جلسات جماعية تتخللها الحكايات، يشرح مجاهد "حكايات واقعية أو خيالية من نسج خيال الحاكي، وعشان كده الشخص الثرثار أو راوي القصص بيكون له دور مهم في جلسات القهوة"، يأتي بعده في الأهمية العازف أو المطرب وأي شخص يتقن القرع على الطبل والأداء.
يصف مجاهد الونسة بقوله "ترأس الجلسة في أغلب الأحيان الجدة أو الجد ليروي الحكايات القديمة التي تحمل العبر والحكم، أو يحكي قصصًا مسلية ومضحكة ويجلس باقي أفراد العائلة الأصغر سنًا يستمعون لهذه القصص". ويكمل "لا جَبَنة بدون ونسة ولا ونسة بدون بخور فهو يعطي لجلسات القهوة جو مريح يصلح للونس والدفء".
ويحب مجاهد دعوة أصدقائه المصريين في جلسات القهوة، "نحن السودانيين نفخر بطقوس القهوة ونحب أن نرحب بضيوفنا وأصدقائنا من المصريين الذين يعجبون بطقوس القهوة ومذاقها ويندمجون بسرعة ويصبحون جزء من الونسة" يقول مجاهد.
الونس في مصر
"وقعت في غرام القهوة السودانية من اليوم الأول الذي تذوقتها فيه، لأن لها مذاق مميز وأجواء خاصة"، هكذا وصفت الشابة المصرية نورا رجب القهوة السودانية؛ تحكي بداية تعرفها على جلسة الجبنة لـ المنصة وتقول "دعاني زملاء سودانيون مرة لحضور إحدى جلسات القهوة، وماكنتش أعرف عنها حاجة، استقبلتني الأغاني السودانية المميزة، مع ريحة البخور، خلاني أدمنها".
وتضيف "مش هتحس أبدًا إنك غريب في الجلسة، حتى لو كنت المصري الوحيد الناس كلها بتتكلم وتضحك وتغني".
أصبحت نورا عضوة أساسية في جلسات الجبنة السودانية، التي يقيمها معارفها في بيوتهم مرة أسبوعيًا. "حتى إني خليت واحدة تقرالي الفنجان، اتعلمت قرايته من جدتها" تقول نورا، وتعد قراءة الفنجان وضرب الودع من طقوس الجبنة الشهيرة.
يأتي اندماج المصريين وتعلقهم بالثقافة السودانية بسبب الترابط بين مصر والسوادن عبر نهر النيل خاصة القبائل التي عاشت بمحاذاته. وتتشابه كثير من هذه التقاليد الثقافية مع مثيلتها في مصر خاصة النوبة جنوب مصر.
تعتمد طقوس القهوة السودانية في الأساس على اجتماع الأهل والأصدقاء كل يوم، والحكي وضرب الودع وقراءة الفنجان التي تشبه كثيرًا العادات المصرية الشعبية والتي تبعث أجواء من الدفء والمحبة.
تتذكر الخمسينية سناء جلسات الونس في السودان التي ترأسها العجائز الخبيرات في قراءة الطالع وضرب الودع لتبدأ بتبشير الجالسين حولها من البنات الصغار بالزواج والإنجاب والرزق وكثير من الأخبار والنبوءات التي تحدث بالفعل، ويكون هذا الطقس في آخر قعدة القهوة ليعود كل إلى منزله مبشرًا ومسرورًا بالنبوءات.
وتقول "في كل عائلة سيدة عجوز جدة أو أم تقرأ الطالع، وأنا اليوم في مصر أقوم بهذا الدور بجمع أبنائي وأصدقائي؛ لأخبرهم بالأخبار والبشرة الحسنة، فلا قهوة بدون ونسة وفضفضة وضرب ودع وبشرى للبنات بالزواج أو الرزق، وهذا جزء من وطننا نحمله معنا أينما ذهبنا".