رسم متخيَّل للهمجي ڤارامير وحيواناته الستة، وهو من الشخصيات التي لم تُقتبس في مسلسل شبكة HBO.

ڤارامير: فصل من رواية "رقصة مع التنانين"

منشور الثلاثاء 25 فبراير 2020

تنشر المنصة ترجمة فصل من رواية "رقصة مع التنانين" A Dance with Dragons للمترجم هشام فهمي، وهي الكتاب الخامس من سلسلة "أغنية الجليد والنار" للكاتب جورج ر. ر. مارتن.

المقاطع المائلة، هي مونولوج داخلي يدور داخل ذهن الشخصية ولا تنطق به.


كانت رائحة البَشر الزَّنخة تُفعِم اللَّيل.

توقَّف الوارْج تحت شجرةٍ يتشمَّم الهواء وقد برقشَت الظِّلال فروه البنِّي الرَّمادي، وبلغَته رائحة البَشر محمولةً على تنهيدةٍ من الرِّيح المشبَّعة بالصَّنوبر، تطغى على روائح مختلفة أضعف تُحدِّثه عن الثَّعالب والأرانب البرِّيَّة والفقمات والوعول، وحتى الذِّئاب. يعلم الوارْج أن تلك أيضًا روائح بَشريَّة، روائح جلودٍ قديمة ماتَت وبلَت، تكاد تُغرِقها الرَّوائح الأخرى الأقوى للدَّم والدُّخان والعفَن. وحده الإنسان يُجرِّد الدَّواب الأخرى من جِلدها ويرتدي فروتها وشَعرها.

على عكس الذِّئاب، لا يخاف الأوْراج البَشر. تلوَّى المقت والجوع في معدته، وأطلقَ زمجرةً خفيضةً يُنادي أخاه الأعور وأخته الصَّغيرة الماكرة، وإذ ركضَ بين الأشجار اندفعَ رفيقاه في القطيع بسرعةٍ في أعقابه. هما كذلك شمَّا الرَّائحة، وبينما يَركُض كان بإمكانه أن يرى بأعيُنهما أيضًا، ولمحَ نفسه متقدِّمًا عليهما. خرجَت أنفاس أفراد القطيع بيضاء دافئةً من بين فكوكٍ رماديَّة طويلة، وقد تكوَّن بين كفوفهم جليد بصلابة الحجر، لكن الصَّيد بدأ، والفرائس أمامهم. طعام، لحم.

الإنسان مخلوق واهن عندما يكون بمفرده. صحيحٌ أنه كبير قويٌّ ثاقب البصر، لكنه ثقيل السَّمع ويصمُّ أنفه عن الرَّوائح، في حين أن الغزال والإلكة وحتى الأرنب البرِّي أسرع، والدُّب والخنزير البرِّي أشرس في القتال. أمَّا البَشر الذين يتحرَّكون في قُطعانٍ فيُمثِّلون خطرًا. مع دنوِّ الذِّئاب من الفرائس سمعَ الوارْج جرْوًا ينوح، وقشرة ثلوج اللَّيلة الماضية تتكسَّر تحت أقدامٍ بَشريَّة خرقاء، وخشخشة الجلود الصُّلبة والمخالب الرَّماديَّة الطَّويلة التي يحملها الإنسان.

وهمسَ صوت في داخله: سيوف، حِراب.

كانت أسنان من الجليد قد نبتَت للأشجار، تُزَمجِر لهم من الفروع البنِّيَّة الجرداء بالأعلى. اندفعَ الأعور يخترق سياج الشُّجيرات الصَّغيرة ناثرًا الثَّلج، وتبعَه رفيقاه في القطيع. صعدوا تلًّا ثم نزلوا المنحدَر من النَّاحية الأخرى، إلى أن انفتحَت أمامهم الغابة وبانَ لهم البَشر. إحداهم أنثى، والحزمة الملفوفة بالفرو التي تقبض عليها جرْوها. همسَ الصَّوت: دعها للنِّهاية. الذُّكور هُم الخطر. أخذَ بعضهم يزعق في بعضٍ كما يفعل البَشر، لكن الوارْج شمَّ رائحة خوفهم. كان أحدهم يحمل نابًا خشبيًّا يُناهِزه طولًا، وقد رماهم به، لكن يده كانت ترتجف، وطارَ النَّاب بعيدًا.

ثم انقضَّ عليهم القطيع.

أسقطَ أخوه الأعور رامي النَّاب على ظَهره فوق كومةٍ من الثَّلج ومزَّق حَلقه وهو يُقاوِمه، فيما تسلَّلت أخته من وراء الذَّكر الآخَر وهاجمَته من المؤخِّرة، وهكذا تركا له الأنثى وجرْوها.

هي أيضًا كانت تحمل نابًا صغيرًا مصنوعًا من العظم، إلَّا أنها أوقعَته حين انغلقَ فكَّا الوارْج على ساقها، وإذ سقطَت طوَّقت جرْوها المزعج بكلتا ذراعيها. تحت الفرو الذي ترتديه وجدَ الأنثى جِلدًا على عظم، وإن امتلأَ ضرعاها باللَّبن، أمَّا أشهى لحمٍ فكان لحم الجرْو، وقد احتفظَ الوارْج بأفضل القِطع لأخيه.

وحول الجُثث اصطبغَ الثَّلج المتجلِّد بالوردي والأحمر إذ ملأَ أفراد القطيع بطونهم.

غلاف الجزء الجديد من السلسلة. الصورة: بإذن خاص من المترجم

وعلى بُعد فراسخ، في كوخٍ من حُجرةٍ واحدة من الطِّين والقشِّ، سقفه النَّجيل مزوَّد بفتحة تهوية وأرضيَّته من التُّربة الصُّلبة، أخذَ ڤارامير يرتجف ويَسعُل ويلعق شفتيه، عيناه محمرَّتان، وشفتاه مشقَّقتان، وحَلقه جافٌّ يشتعل عطشًا، لكن مذاق الدَّم والدُّهن ملآ فمه، وإن صرخَ بطنه المنتفخ في الآن نفسه طالبًا الغذاء. قال لنفسه متذكِّرًا پَمپ: لحم طفل، لحم بَشري. هل بلغَ به الانحطاط أن يشتهي لحم البَشر؟ يكاد يسمع هاجون يقول له مزمجرًا "للإنسان أن يأكل لحم البهيمة والبهيمة لحم الإنسان، أمَّا أكلُ الإنسان لحم الإنسان ففاحشة".

فاحشة. لطالما كانت هذه كلمة هاجون المفضَّلة. فاحشة، فاحشة، فاحشة. أكلُ لحم الإنسان فاحشة، الجماع مع الذِّئب وأنت ذئب فاحشة، وأن تحتلَّ جسد إنسانٍ آخَر فتلك أبشع الفواحش قاطبةً. هاجون كان ضعيفًا، يخشى ما في نفسه من قوَّة، وماتَ وحيدًا باكيًا حين انتزعتُ منه حياته الثَّانية. لقد التهمَ ڤارامير قلبه بنفسه. علَّمني الكثير والكثير، وآخِر ما تعلَّمته منه كان مذاق اللَّحم البَشري.

على أن ذلك كان وهو ذئب. إنه لم يأكل لحم إنسانٍ بأسنانٍ بَشريَّة قَطُّ، لكنه لن يضنَّ على قطيعه بالوليمة. مِثله، الذِّئاب في أشدِّ الحاجة إلى الطَّعام، وتُعاني الهزال والبرد والجوع، والفرائس... رجلان وامرأة ورضيع في أحضان أمِّه، يفرُّون من الهزيمة إلى الموت. كانوا سيهلكون قريبًا على كلِّ حال، سواء أمن التَّعرُّض للأجواء أم الجوع. هذه الطَّريقة أفضل وأسرع. إنها رحمة.

بصوتٍ عالٍ كرَّر "رحمة". حَلقه جافٌّ تمامًا، ولو أنه سُرَّ لسماع صوتٍ بَشري، حتى إذا كان صوته هو. في الهواء رائحة الرُّطوبة والعفَن، والأرض باردة صُلبة، وناره تُصدِر دُخانًا أكثر من الحرارة. دنا من اللَّهب قدر ما يجرؤ فيما يتبادَل السُّعال والرَّجفة اجتياحه وينبض جانبه ألمًا حيث انفتحَ جرحه، وقد أغرقَت الدِّماء سراويله حتى الرُّكبة وجفَّت مستحيلةً إلى قشرةٍ بنِّيَّة يابسة.

هذا ما حذَّرته منه ثيسل قائلةً "لقد خيَّطته قدر المستطاع، لكن عليك أن تستريح وتَترُكه يلتئِم وإلَّا انفتحَ ثانيةً".

كانت ثيسل آخِر رفاقه، زوجة حربة[1] قاسية كجذرٍ قديم، ووجهها الذي لوَّحته الرِّيح مليء بالبثور والتَّجاعيد. هجرَهما الآخَرون على الطَّريق، واحدًا تلو الآخَر تخلَّفوا عنهما أو تقدَّموا عليهما عائدين إلى قُراهم القديمة أو متوجِّهين إلى (النَّهر اللَّبني) أو (هاردهوم)، أو إلى ميتةٍ وحيدة في الغابة. لا يدري ڤارامير، ولا يقوى على الاهتمام. كان عليَّ أن آخذ واحدًا منهم والفُرصة سانحة؛ أحد التَّوأمين، أو الرَّجل الكبير ذا النُّدوب في وجهه، أو الشَّاب ذا الشَّعر الأحمر. لكنه خافَ، فربما كان أحد الآخَرين ليُدرِك ما يَحدُث، وعندئذٍ كانوا سينقلبون عليه ويَقتُلونه. ثم إن كلام هاجون ما انفكَّ يُلاحِقه، وهكذا ضاعَت الفُرصة.

 بعد المعركة تقدَّم آلاف منهم قاطعين الغابة بمشقَّة، يُقاسون الجوع والخوف في فرارهم من المقتلة التي حلَّت بهم عند (الجِدار). بعضهم تكلَّم عن العودة إلى البيوت التي هجروها، وبعضهم عن شَنِّ هجمةٍ ثانية على البوَّابة، إلَّا أن أكثرهم مضى تائهًا لا يدري أين يذهب أو ماذا يفعل. لقد فرُّوا من الغِربان ذوي المعاطف السَّوداء والفُرسان المدرَّعين بالفولاذ الرَّمادي، لكن أعداءً أقسى يتصيَّدونهم الآن، وكلَّ يومٍ يُخلِّفون مزيدًا من الجُثث في أعقابهم. منهم من ماتَ جوعًا ومن ماتَ بردًا ومن ماتَ مرضًا، ومنهم آخَرون قتلَهم من كانوا إخوتهم في السِّلاح عندما زحفوا جنوبًا مع مانس رايدر، ملك ما وراء الجِدار.

وقال بعض النَّاجين لبعضٍ بنبراتٍ يائسة: سقطَ مانس، أُسِرَ مانس، ماتَ مانس، وبينما تخيط ثيسل جرحه قالت له "هارما ماتَت، ومانس أسير، والباقون هربوا وتركونا. تورموند والبكَّاء وسِت جلود، كلُّ أولئك المُغيرين الشُّجعان، أين هُم الآن؟".

حينها أدركَ ڤارامير أنها لم تتعرَّفه. ولِمَ تتعرَّفني؟ إنه لا يبدو كرجلٍ عظيم في غياب وحوشه. كنتُ ڤارامير سِت جلود الذي شاركَ مانس رايدر طعامه وشرابه. ڤارامير هو الاسم الذي أطلقَه على نفسه في سِنِّ العاشرة. اسم يليق بلورد، اسم للأغاني، اسم قويٌّ مهيب. وعلى الرغم من ذلك فرَّ من الغِربان كالأرنب المذعور. اللورد ڤارامير الرَّهيب أصابَه الجُبن، لكنه لم يحتمل أن تعرف هي ذلك، فقال للزَّوجة الحربة إن اسمه هاجون، وبعدها تساءلَ لِمَ خرجَ هذا الاسم تحديدًا من بين شفتيه دونًا عن كلِّ الأسماء الأخرى التي كان بإمكانه أن يختارها. أكلتُ قلبه وشربتُ دمه، ولا يزال يُطارِدني.

ذات يومٍ في أثناء فرارهم جاءهم خيَّال يُهروِل قاطعًا الغابة بحصانٍ أبيض أعجف، يصيح فيهم أن يتَّجهوا جميعًا إلى (النَّهر اللَّبني)، وأن البكَّاء يجمع المُحاربين من أجل عبور (جسر الجماجم) والاستيلاء على (بُرج الظِّلال)، فتبعَه كثيرون لكن أكثرهم لم يفعل. بَعدها تنقَّل مُحارب قاسي الملامح يرتدي الفرو المزيَّن بالكهرمان من بؤرة نارٍ إلى أخرى يحثُّ جميع النَّاجين على التَّوجُّه شمالًا واللُّجوء إلى وادي الثِّنِّيين. لم يُدرِك ڤارامير قَطُّ لماذا حسبَ الرَّجل أنهم سيكونون آمنين في المنطقة التي هربَ منها الثِّنِّيون أنفسهم، لكن مئاتٍ تبعوه، في حين ذهبَ مئات غيرهم مع ساحرة الغابات التي رأت في رؤيا أسطولًا من السُّفن الآتية لحمل شعب الأحرار جنوبًا. صاحَت الأُم خُلد "علينا أن نسعى إلى البحر"، واتَّجه أتباعها معها شرقًا.

لو أن ڤارامير أقوى لكان معهم، لكن البحر كئيب بارد بعيد، وهو يعرف أنه لن يعيش حتى يراه أبدًا. لقد ماتَ تسع مرَّاتٍ والآن يُحتضَر، وستكون هذه ميتته الحقيقيَّة. معطف من فرو السَّناجب، طعنَني من أجل معطفٍ من فرو السَّناجب.

كانت صاحِبته ميتةً، تهشَّمت مؤخِّرة رأسها وتحوَّلت إلى كتلةٍ من العجين الأحمر المرقَّط بقِطع العظم المكسور، لكن معطفها بدا ثقيلًا سميكًا. كان الثَّلج يَسقُط، وڤارامير فقدَ معاطفه كلَّها عند (الجِدار). الجلود التي ينام تحتها، وثيابه الدَّاخليَّة الصُّوف، وحذاؤه المصنوع من جِلد الخراف، وقُفَّازاه المبطَّنان بالفرو، ومخزونه من البِتع[2] ومؤونته من الأطعمة... كلُّ هذا فقدَه وتركَه وراءه. احترقتُ ومِتُّ ثم هربتُ منتابًا بجنون الألم والرُّعب. ما زالَت الذِّكرى تُشعِره بالخزي، لكنه لم يكن وحده. آخَرون غيره هربوا أيضًا، مئات منهم، آلاف. خسرنا المعركة، جاءَ الفُرسان بفولاذهم لا يُقهَرون، يَقتُلون كلَّ من ظَلَّ يُقاتِل. كان إمَّا الهرب وإمَّا الموت.

على أن الهرب من الموت ليس بتلك السُّهولة، وهكذا حين صادفَ ڤارامير المرأة الميتة في الغابة انحنى يخلع معطفها، ولم يرَ الصَّبي حتى انقضَّ من مكمنه ليُغمِد السكِّين العظمي الطَّويل في جانبه وينتزع المعطف من يديه المُطبِقتين عليه. لاحقًا، بعد أن فرَّ الصَّبي، أخبرَته ثيسل "أمُّه. كان معطف أمِّه، ولمَّا رآك تسرقها...".

قال ڤارامير جافلًا إذ ثقبَت الإبرة العظميَّة نسيج لحمه "كانت ميتةً. أحدهم هشَّم رأسها، غُراب ما".

أغلقَت الشَّقَّ في جانبه بإبرتها قائلةً "لم يكن غُرابًا، بل ذوو الحوافر. لقد رأيتهم. قوم همجيُّون، ومن تبقَّى ليُروِّضهم؟".

لا أحد. إذا ماتَ مانس فشعب الأحرار هالك لا محالة. الثِّنِّيون والعمالقة وذوو الحوافر، وأهل الكهوف بأسنانهم المدبَّبة، وقوم السَّاحل الغربي بعرباتهم المصنوعة من العظام... كلُّ هؤلاء سيهلكون أيضًا. حتى الغِربان هالكون. ربما لم يُدرِكوا ذلك بعدُ، لكن هؤلاء الأوغاد ذوي المعاطف السَّوداء سيلقون نحبهم مع البقيَّة. إن العدوَّ قادم.

تردَّد صوت هاجون الخشن في عقله قائلًا "ستموت مرارًا يا فتى، وستتألَّم كلَّ مرَّة... لكن حين يأتي موتك الحقيقي ستحيا ثانيةً. يقولون إن الحياة الثَّانية أبسط وأحلى".

عمَّا قريب سيعلم ڤارامير سِت جلود حقيقة ذلك. إنه يذوق ميتته الحقيقيَّة في الدُّخان اللَّاذع في الهواء، ويَشعُر بها في السُّخونة تحت أصابعه حين يدسُّ يده تحت ثيابه يتحسَّس جرحه. البرودة متغلغِلة فيه حتى النُّخاع، وهذه المرَّة سيكون البرد قاتِله.

آخِر ميتةٍ له كانت بالنَّار. احترقتُ. في البداية، في خضمِّ ارتباكه، حسبَ أن راميًا ما على قمَّة (الجِدار) أصابَه بسهمٍ مشتعل.. لكن النَّار اضطرمَت في داخله تلتهمه التهامًا، والألم.

قبلها ماتَ ڤارامير تسع مرَّات، منها مرَّة برزخة حربة، ومرَّة بأسنان دُبٍّ مزَّقت حَلقه، ومرَّة في بِركةٍ من الدَّم إذ وضعَ جرْوًا ميتًا. أول مرَّةٍ ماتَ كان في السَّادسة من عُمره، عندما شجَّت فأس أبيه جمجمته، لكن حتى ذلك لم يُدانِ عذاب النِّيران التي اشتعلَت في أحشائه وطقطقَت آتيةً على جناحيه وافترسَته افتراسًا، ولمَّا حاولَ الطَّيران هاربًا منها أجَّج هلعه اللَّهب ولظَّاه. في لحظةٍ كان محلِّقًا أعلى (الجِدار)، تلحظ عيناه النَّسريَّتان حركة الرِّجال بالأسفل، ثم أحالَت النَّار قلبه إلى جذوةٍ مسودَّة وردَّت روحه الصَّارخة إلى جسده، ولفترةٍ قصيرة جُنَّ جنونه. الذِّكري المحضة كفيلة بجعله يرتعِد.

كان هذا حين لاحظَ أن ناره انطفأَت.

لم يتبقَّ إلَّا كومة من الحطب المتفحِّم وبضع جمارٍ تتوهَّج وسط الرَّماد. ما زالَ هناك دُخان، تحتاج إلى حطبٍ فقط. مقاومًا الألم، كزَّ ڤارامير على أسنانه حتى صرَّت، وزحفَ إلى كومة الفروع المكسورة التي جمعَتها ثيسل قبل ذهابها إلى الصَّيد، وألقى بعض الأعواد فوق الرَّماد قائلًا لها بصوتٍ مبحوح "اشتعِلي، احترِقي"، ثم إنه نفخَ في الجمار وردَّد دُعاءً صامتًا لآلهة الغابات والتِّلال والحقول التي ليست لها أسماء.

ولم تُجِب الآلهة، وحتى الدُّخان كفَّ عن الانبعاث بعد قليل، وبدأ الكوخ الصَّغير يزداد برودةً بالفعل. ليس مع ڤارامير صوَّان أو صُوفان أو مادَّة جافَّة، ولن يستطيع وحده إشعال النَّار ثانيةً أبدًا. نادى بصوتٍ أجش يحفُّه الألم "ثيسل. ثيسل!".

ذقنها مدبَّب وأنفها مفلطح، وعلى وجنتها شامة تنبت منها أربع شَعراتٍ داكنة. وجه قبيح قاسٍ، لكن ڤارامير مستعدٌّ لبذل الكثير كي يراه في مدخل الكوخ الآن. كان عليَّ أن آخذها قبل أن تُغادِر. كم مرَّ على غيابها؟ يومان؟ ثلاثة؟ لا يدري بالضَّبط، فالكوخ مظلم من الدَّاخل، كما أنه غابَ عن الوعي واستيقظَ مرارًا دون أن يعلم يقينًا أبدًا إن كان الوقت ليلًا أم نهارًا بالخارج. قالت له "انتظِر، سأعودُ بطعام"، وكالأحمق انتظرَ، يَحلُم بهاجون وپَمپ وكلِّ الأذى الذي ارتكبَه في حياته الطَّويلة، لكن أيامًا ولياليَ مرَّت ولم ترجع ثيسل. ولن ترجع. تساءلَ ڤارامير إن كان قد أفشى لها هُويَّته. هل تبيَّنت ما يُفكِّر فيه بمجرَّد النَّظر إليه أم أنه تمتمَ بشيءٍ ما في حُلمه المحموم؟

سمعَ هاجون يقول: فاحشة. كأنه هنا بالفعل، في هذه الحُجرة، وقد قال له ڤارامير "إنها مجرَّد زوجةٍ حربة قبيحة. أنا رجل عظيم، أنا ڤارامير، الوارْج، مبدِّل الجِلدة. ليس صوابًا أن تعيش هي وأموت". لم يردَّ أحد، ليس في المكان أحد. ثيسل غائبة، تخلَّت عنه مِثلها مِثل كلِّ الآخَرين.

أمُّه نفسها تخلَّت عنه أيضًا. بكَت پَمپ، لكنها لم تبكِني قَطُّ. في الصَّباح الذي شدَّه فيه أبوه من الفِراش ليُسلِّمه إلى هاجون أشاحَت بوجهها عنه، وقد راحَ يَصرُخ ويَركُل وهو يُجَرُّ إلى الغابة، إلى أن صفعَه أبوه وأمرَه بالصَّمت، وحين ألقاه عند قدمَي هاجون لم يقل إلَّا "مكانك مع نوعك".

فكَّر ڤارامير مرتجفًا: لم يكن مخطئًا. هاجون علَّمني أشياء كثيرةً جدًّا، علَّمني صيد الحيوانات والأسماك، وعلَّمني الجزارة ونزع الشَّوك من السَّمك، وكيف أجدُ طريقي في الغابة. وعلَّمني أساليب الأوْراج وأسرار مبدِّلي الجِلدة، رغم أن موهبتي كانت أقوى من موهبته.

بعد أعوامٍ حاولَ العثور على أبويْه ليُخبِرهما أن صغيرهما لَمپ أمسى العظيم ڤارامير سِت جلود، لكن كليهما كان قد ماتَ وأُحرِقَ. ذهبا إلى الأشجار والأنهار، إلى الصُّخور والأرض، ذهبا إلى التُّربة والرَّماد. هذا ما قالته ساحرة الغابات لأمِّه يوم موت پَمپ. أمَّا لَمپ فلم يرغب في أن يصير حفنةً من الثَّرى. كان الصَّبي يَحلُم بيومٍ يُغنِّي فيه الشُّعراء عن مآثره وتُقبِّله الحسناوات، وهكذا وعدَ لَمپ نفسه قائلًا حين أكبرُ سأصبحُ ملك ما وراء الجِدار. لم يُصبِح ملكًا قَطُّ، لكنه اقتربَ. ڤارامير سِت جلود اسم هابَه النَّاس. كان يذهب إلى المعركة راكبًا على ظَهر دُبَّة ثلوجٍ تَبلُغ الثَّلاثة عشر قدمًا طولًا، ويُسَيطِر على ثلاثة ذئابٍ وقِطِّ ظِل[3]، ويجلس إلى يمين مانس رايدر. مانس هو من أتى بي إلى هذا المكان. لم يكن عليَّ أن أصغي إليه. كان حريًّا بي أن أتلبَّس دُبَّتي وأمزِّقه إربًا إربًا.

قبل مانس كان ڤارامير سِت جلود يُعَدُّ، نوعًا، من اللوردات، وقد أقامَ بمفرده في قاعةٍ مبنيَّة من الأخشاب والطَّحالب والطِّين كانت ملكًا لهاجون من قبل، تُرافِقه حيواناته وتُقدِّم له دستة من القُرى البيعة بالخُبز والملح وخمر التُّفَّاح، وتُزوِّده بالفواكه من بساتينها والخضراوات من حدائقها. أمَّا اللُّحوم فكان يَحصُل عليها بنفسه، ومتى اشتهى امرأةً أرسلَ قِطَّه يمشي وراءها، وبإذعانٍ تتبعه الفتاة التي اختارَها أيًّا كانت إلى الفِراش. بعضهن كُنَّ يأتينه باكيات، لكنهن أتين دومًا، وتعوَّد ڤارامير أن يُعطيهن نُطفته ويأخذ خُصلةً من شَعرهن يتذكَّرهن بها قبل أن يصرفهن. من حينٍ إلى آخَر كان بطل قريةٍ ما يأتي حاملًا حربته ليَقتُل الحيواني ويُنقِذ أختًا أو حبيبةً أو ابنةً. هؤلاء كان يَقتُلهم، لكنه لم يُؤذِ امرأةً قَطُّ، بل إنه باركَ بعضهن بالأطفال كذلك. ضُعفاء، مخلوقات صغيرة تافهة مِثل لَمپ، ولا أحد منها يتمتَّع بالموهبة.

ساقَه الخوف إلى النُّهوض مترنِّحًا. أمسكَ ڤارامير جانبه ليُوقِف الدَّم النَّازف من جرحه، وذهبَ يتمايَل إلى الباب وأزاحَ قطعة الجِلد البالية التي تُغطِّيه ليجد نفسه في مواجهة حائطٍ من البياض. ثلج. لا عجب أن الظَّلام والدُّخان تزايَدا بشدَّةٍ في الدَّاخل. الثُّلوج المتساقطة دفنَت الكوخ.

حين دفعَه ڤارامير تفتَّت الثَّلج الذي لا يزال طريًّا مبتلًّا وسقطَ، وبالخارج كان اللَّيل أبيض كالموت، يتراقَص السَّحاب الباهت الخفيف في حضرة القمر الفضِّي، في حين تتفرَّج ألف نجمةٍ ببرود. رأى الأشكال المحدَّبة لأكواخٍ أخرى مدفونة تحت أكوام الثَّلج، ووراءها الظِّلَّ الشَّاحب لشجرة ويروود مدرَّعة بالجليد. إلى الجنوب والغرب التِّلال تِيه أبيض شاسع لا يتحرَّك فيه إلَّا ثلوج تذروها الرِّيح. متسائلًا عن المسافة التي ابتعدَتها نادى ڤارامير بضعف "ثيسل، ثيسل، يا امرأة، أين أنتِ؟".

ومن بعيدٍ أطلقَ ذئب عُواءه.

وارتعدَ ڤارامير الذي يعرف هذا العُواء تمامًا كما كان لَمپ يعرف صوت أمِّه. الأعور. إنه أكبر الثَّلاثة سِنًّا وحجمًا وأشرسهم. أخوه المتربِّص أرشق وأصغر وأسرع، وأختهم الماكرة أكثر دهاءً، لكن الاثنين يخشيان الأعور، فالذِّئب العجوز لا يعرف الخوف، عنيد، مفترس.

في غمرة الألم الذي التهمَه مع موت النَّسر فقدَ ڤارامير السَّيطرة على حيواناته. قِطُّ الظِّلِّ انطلقَ هاربًا في الغابة، في حين انقلبَت دُبَّة الثُّلوج على من حولها، ممزِّقةً بمخالبها أربعة رجالٍ قبل أن تُسقِطها حربة، وكانت لتفتك بڤارامير نفسه لو وجدَته في متناوَل يديها. لقد كرهَته تلك الدُّبَّة، ومتى ارتدى جِلدتها أو امتطاها ثارَت ثائرتها.

أمَّا ذئابه..

إخوتي، قطيعي. ليالٍ باردة عديدة نامَ فيها مع ذئابه، وقد تكوَّمت أجسامها المشعثة حوله تُدفِّئه. حين أموتُ ستلتهم لحمي وتَترُك عظمي فقط يُحيِّي ذوبان الرَّبيع. فكرة مريحة على نحوٍ عجيب. كثيرًا ما تبحث ذئابه له عن المأكل في أثناء تجوالهم، ويبدو من اللَّائق تمامًا أن يُطعِمها في النِّهاية، ولربما يبدأ حياته الثَّانية بالقضم من لحم نفسه الدَّافئ الميت.

الكلاب أسهل حيواناتٍ يُمكن تكوين رباطٍ معها، ذلك أنها تحيا على مقربةٍ شديدة من البَشر حتى إنها تكاد تكون بَشريَّةً. تلبُّس الكلاب أشبه بانتعال حذاءٍ قديم طرَّى طول الاستخدام جِلده، وكما الحذاء المشكَّل لقبول القدم فالكلب مفطور على قبول الطَّوق، حتى إذا كان طوقًا لا تراه عين إنسان. على أن الذِّئاب أصعب، إذ يستطيع الإنسان أن يُصادِق ذئبًا، أو حتى يكسر إرادته، لكن لا أحد يستطيع أن يُروِّض ذئبًا حقًّا. كثيرًا ما كان هاجون يُردِّد "الذِّئاب مِثل النِّساء، تتزوَّج مدى الحياة. عندما تتَّخذ لنفسك ذئبًا فهذا زواج، يُصبِح الذِّئب جزءًا منك منذ ذلك اليوم فصاعدًا وتُصبِح جزءًا منه. كلاكما سيتغيَّر".

رسم لمعركة القلعة السوداء. الصورة: بإذن خاص من المترجم

لكن الصيَّاد أعلنَ أن من الخير ترك الحيوانات الأخرى وشأنها. القِطط مغرورة قاسية ومستعدِّة دومًا للانقلاب عليك. والإلكات والغزلان فرائس، إذا ارتديت جِلدتها طويلًا فسيتمكَّن منك الجُبن حتى لو كنت أشجع الرِّجال. والخنازير البرِّيَّة والدِّببة والغُريرات وبنات عرس. تلك الحيوانات لم يكن هاجون يقبلها من الأصل. "بعض الجلود لست ترغب في ارتدائه أبدًا يا فتى، فلن يروقك ما ستصيره". وحسب كلامه فالطُّيور هي الأسوأ، "فليس للبَشر أن يرتفعوا عن الأرض. اقضِ وقتًا أطول من اللَّازم بين السَّحاب ولن تُريد الهبوط ثانيةً أبدًا. إنني أعرفُ مُبدِّلي جِلدة جرَّبوا الصُّقور والبوم والغِدفان، وحتى في جلودهم هُم يجلسون بذهنٍ شارد يتطلَّعون إلى زُرقة السَّماء اللَّعينة".

غير أن هذا ليس رأي جميع مُبدِّلي الجِلدة. ذات مرَّة، عندما كان لَمپ في العاشرة، أخذَه هاجون إلى اجتماعٍ لهم، وكان الأوْراج الأكثر عددًا في تلك الجماعة، إخوة الذِّئاب، لكن الصَّبي وجدَ الآخَرين أغرب وأكثر جاذبيَّةً. بوروك الذي يُشبِه للغاية خنزيره البرِّي حتى إنه يفتقر فقط إلى النَّابيْن، وأوريل بنسره، وبرايار بقِطَّة الظِّل (ولحظة أن رآهما لَمپ أرادَ قِطَّ ظِلٍّ لنفسه)، وامرأة الماعز جريسلا.

لكن أحدًا منهم لم يكن بقوَّة ڤارامير سِت جلود، ولا حتى هاجون الطَّويل العابس بيديه الصُّلبتين كالحجر. ماتَ الصيَّاد باكيًا بعد أن أخذَ منه ڤارامير ذئبه الأشهب، طاردًا إياه من داخله ليتَّخذه لنفسه. لا حياة ثانية لك أيها الشَّيخ. آنذاك كان يُسمِّي نفسه ڤارامير ثلاث جلود، وقد كان الأشهب بمثابة الجِلدة الرَّابعة، لكن الذِّئب العجوز كان واهنًا وتساقطَت أسنانه كلُّها تقريبًا، وسرعان ما تبعَ هاجون إلى الممات.

باستطاعة ڤارامير أن يأخذ أيَّ حيوانٍ يشاء ويُخضِعه لإرادته ويجعل جسمه له، كلبًا كان أو ذئبًا، غُريرًا أو دُبًّا.

ثيسل.

كان هاجون ليقول إنها فاحشة، ألعن الخطايا على الإطلاق، لكن هاجون ماتَ والتُهِمَ واحترقَ. وكان مانس ليلعنه أيضًا، لكن مانس سقطَ قتيلًا أو أسيرًا. لا أحد سيعلم أبدًا. سأكونُ الزَّوجة الحربة ثيسل، وسيموت ڤارامير سِت جلود. يتوقَّع أن موهبته ستموت معه، وسيفقد ذئابه ويقضي ما تبقَّى من حياته امرأةً نحيلةً ذات بثور... لكنه سيعيش. إذا عادَت، إذا كنتُ بالقوَّة الكافية لأخذها.

اجتاحَته موجة من الدُّوار، ووجدَ نفسه على رُكبتيه وقد اندفنَت يداه في كومة ثلج. أخذَ مِلء قبضةٍ من الثَّلج وملأَ به فمه وفركَه في لحيته وعلى شفتيه المشقَّقتين ممتصًّا ما يسيل، وكان الماء باردًا لدرجة أنه أجبرَ نفسه بالكاد على الابتلاع، ومرَّةً أخرى أدركَ ارتفاع حرارته الشَّديد.

لم يُزِده الثَّلج الذَّائب إلَّا جوعًا. إن معدته تشتهي الطَّعام لا الماء. كانت الثُّلوج قد توقَّفت عن السُّقوط، لكن الرِّيح تشتدُّ مالئةً الهواء بالبلَّور، تجلد وجهه وهو يتقدَّم بصعوبةٍ بين أكوام الثَّلج، والجرح في جانبه ينفتِح وينغلِق من جديد، وأنفاسه تصنع سحابةً بيضاء مهترئةً. حين بلغَ شجرة الويروود وجدَ غُصنًا ساقطًا بالطُّول الكافي لاستخدامه كعُكَّاز، وقد اتَّكأ عليه وتوجَّه مترنِّحًا صوب أقرب الأكواخ. ربما نسيَ أهل القرية شيئًا عند فرارهم... جوالًا من التُّفَّاح أو القليل من اللَّحم المجفَّف أو أيَّ شيءٍ يُبقيه حيًّا حتى عودة ثيسل.

كان على وشك الوصول إلى الكوخ حين انكسرَ العُكَّاز تحت ثقله، وتداعَت ساقاه من تحته.

لا يدري ڤارامير كم ظلَّ منطرحًا هناك فيما يتشرَّب الثَّلج حُمرة دمائه. ستدفنني الثُّلوج. سيُدرِكه الموت في سلام. يقولون إنك تَشعُر بالدِّفء قُرب النِّهاية، بالدِّفء والنُّعاس. سيكون جميلًا أن يَشعُر بالدِّفء ثانيةً، وإن أحزنَه أن يُفكِّر أنه لن يرى الأراضي الخضراء أبدًا، الأراضي الدَّفيئة وراء (الجِدار) التي اعتادَ مانس الغناء عنها. أمَّا هاجون فاعتادَ أن يقول "العالم وراء (الجِدار) ليس لنوعنا. الأحرار يخشون مُبدِّلي الجِلدة، لكنهم يُكرِّموننا كذلك. جنوب (الجِدار) يُطارِدنا الرُّكَّع ويذبحوننا كالخنازير".

فكَّر ڤارامير: لقد حذَّرتني، لكنك أخذتني إلى (القلعة الشَّرقيَّة) أيضًا. مؤكَّد أنه لم يكن قد تجاوزَ العاشرة في ذلك الحين. قايضَ هاجون دستةً من العقود الكهرمان ومِزلجةً تكوَّمت عليها عاليًا الجلود بسِتِّ قربٍ من النَّبيذ وقالبٍ من الملح ومرجل نُحاس. (القلعة الشَّرقيَّة) مكان أفضل للتِّجارة من (القلعة السَّوداء)، فهناك ترسو السُّفن المحمَّلة بالبضائع من الأراضي الأسطوريَّة وراء البحر. عرفَ الغِربان هاجون كصيَّادٍ وصديقٍ لحَرس اللَّيل، ورحَّبوا بالأخبار التي يأتي بها عن الحياة وراء جِدارهم، وكان بعضهم يعلم أنه مُبدِّل جِلدةٍ أيضًا، لكن أحدًا منهم لم يتكلَّم عن ذلك. هناك في (القلعة الشَّرقيَّة) على البحر بدأ الصَّبي الذي كانه يَحلُم بدفء الجنوب.

شعرَ ڤارامير بنُدف الثَّلج تذوب على جبهته. ليس هذا بسوء الاحتراق. فلأنم ولا أصحو أبدًا، فلأبدأ حياتي الثَّانية. ذئابه قريبة الآن، إنه يَشعُر بها. سيَترُك هذا الجسد الواهن ويتوحَّد معها، يصطاد آناء اللَّيل ويعوي في وجه القمر. سيصير الوارْج ذئبًا حقيقيًّا. ولكن أيُّ ذئب؟

ليس الماكرة. كان هاجون ليقول إنها فاحشة، لكن الحقيقة أن ڤارامير كثيرًا ما تلبَّسها فيما يمتطيها الأعور، غير أنه لا يرغب في قضاء بقيَّة حياته كأنثى ذئب إلَّا إذا لم يجد خيارًا آخَر. قد يُناسِبه المتربِّص أكثر، الذَّكر الأصغر... مع أن الأعور أكبر حجمًا وأضرى، والأعور هو من يأخذ الماكرة متى عانَت الاحترار.

قبل موته بأسابيع قليلة أخبرَه هاجون "يقولون إنك تنسى. حين يموت جسد الإنسان تظلُّ روحه حيَّةً في الحيوان، لكن كلَّ يومٍ تخبو ذاكرته، ويَضعُف الوارْج في الحيوان ويقوى الذِّئب، حتى لا يتبقَّى شيء من الإنسان ولا يبقى إلَّا الحيوان".

يعلم ڤارامير حقيقة هذا. عندما أخذَ النَّسر الذي كان لأورل شعرَ بمُبدِّل الجِلدة الآخَر يثور لوجوده. أورل قتلَه الغُراب المارِق چون سنو، وكانت كراهيته لقاتِله عاتيةً لدرجة أن ڤارامير وجدَ نفسه يكره الفتى الحيواني بدوره. لقد أدركَ حقيقة سنو لحظة أن رأى ذلك الذِّئب الرَّهيب[4] الأبيض الكبير يتحرَّك بصمتٍ إلى جانبه، فمُبدِّل الجِلدة يستطيع دومًا الإحساس بمُبدِّل جِلدةٍ آخَر. كان على مانس أن يدعني آخذُ الذِّئب الرَّهيب. لكانت حياةً ثانيةً تليق بملك. لا يشكُّ في مقدرته على فعلها. صحيحٌ أن موهبة سنو قويَّة، لكن الشَّاب لم يتعلَّم مفاتيحها، وما برحَ يُقاوِم طبيعته بدلًا من أن يعتزَّ بها.

رأى ڤارامير عينَي الويروود الحمراوين تُحدِّقان إليه من الجذع الأبيض. الآلهة تزنني. اقشعرَّ جِلده. لقد اقترفَ أفعالًا سيِّئةً، أفعالًا شنيعةً، سرقَ وقتلَ واغتصبَ، أكلَ اللَّحم البَشري وولغَ في دماء المحتضرين الحارَّة القانية وهي تنبثق من حلوقهم الممزَّقة، تربَّص بالأعداء في أنحاء الغابة وداهمَهم وهُم نيام وانتزعَ أحشاءهم من بطونهم وبعثرَها على الأرض الموحلة. وما أحلى مذاق لحمهم. قال بهمسةٍ مبحوحة "الحيوان فعلَها لا أنا. إنها الموهبة التي منحتِني إياها".

لم تُحِر الآلهة جوابًا. تكثَّفت أنفاسه كالغيم الشَّاحب في الهواء، وشعرَ بالجليد يتكوَّن في لحيته، وأغلقَ ڤارامير سِت جلود عينيه.

ورأى حُلمًا قديمًا عن كوخٍ على البحر، وثلاثة كلابٍ تئنُّ، ودموع امرأة.

پَمپ. تبكي پَمپ، لكنها لم تبكِني قَطُّ.

وُلِدَ لَمپ قبل موعده المناسب بشهر، وكان مريضًا أكثر الوقت حتى إن أحدًا لم يتوقَّع أن يعيش. انتظرَت أمُّه حتى شارفَ على بلوغ الرَّابعة لتُطلِق عليه اسمًا فعليًّا، ولكن بلا طائل، إذ تعوَّدت القرية كلُّها دعوته بلَمپ بالفعل، الاسم الذي أطلقَته عليه أخته ميها وهو ما يزال في بطن أمِّه. أطلقَت ميها على پَمپ اسمه أيضًا، إلَّا أن أخا لَمپ الصَّغير وُلِدَ في موعده المناسب، وكان كبيرًا متورِّدًا قويًّا، يمتصُّ اللَّبن بشراهةٍ من ثدي أمِّه. كانت ستُطلِق عليه اسم أبيها. لكن پَمپ ماتَ، ماتَ وهو في الثَّانية وأنا في السَّادسة، قبل ثلاثة أيام من يوم ميلاده.

وقالت ساحرة الغابات لأمِّه الباكية "صغيركِ مع الآلهة الآن. لن يتألَّم ثانيةً أبدًا، لن يجوع، لن يبكي. لقد أخذَته الآلهة إلى الأرض والأشجار. الآلهة في كلِّ مكانٍ حولنا، في الصُّخور والنُّهيرات، في الطَّير والحيوانات، وصغيركِ پَمپ ذهبَ ينضمُّ إليها. سيكون العالم وكلَّ ما فيه".

نفذَت كلمات العجوز في لَمپ كالسكِّين. پَمپ يرى، إنه يُراقِبني، إنه يعلم. ما كان بإمكان لَمپ الاختباء منه، أن يستتِر وراء تنُّورة أمِّه أو يهرب بالكلاب من غضبة أبيه. الكلاب. لوپتيل وسنيف وأبو زمجرة. كانت كلابًا طيِّبةً، كانت صديقتي.

حين عثرَ أبوه على الكلاب تتشمَّم حول جثَّة پَمپ لم يجد سبيلًا لمعرفة الفاعل، وهكذا أعدمَ ثلاثتها بفأسه. ارتعشَت يده بشدَّةٍ لدرجة أن إخراس سنيف تطلَّب ضربتين وأبي زمجرة أربعًا. علقَت رائحة الدَّم الثَّقيلة في الهواء، وكان للأصوات التي أصدرَها الكلبان المحتضران وقع شنيع، ومع ذلك جاءَ لوپتيل عندما ناداه أبوه. كان أكبر الكلاب سِنًّا، وقد تغلَّب تدريبه على رُعبه، وحين تلبَّسه لَمپ كان الأوان قد فاتَ بالفعل.

حاولَ أن يقول: لا يا أبي، أرجوك، لكن الكلاب لا تتكلَّم لُغة البَشر، ولم يَخرُج منه إلَّا أنين يُثير الشَّفقة. هوَت الفأس على جمجمة الكلب العجوز، وداخل الكوخ أطلقَ الصَّبي صرخةً. هكذا عرفَ. وبعد يومين جرَّه أبوه إلى الغابة حاملًا فأسه، وهو ما جعلَ لَمپ يحسب أنه سيَقتُله كما قتلَ الكلاب، لكنه أعطاه لهاجون بدلًا من ذلك.

استيقظَ ڤارامير فجأةً وبعُنفٍ وجسده كله يهتزُّ، يَصرُخ فيه صوت "انهض، انهض. يجب أن نرحل. إنهم بالمئات". كان الثَّلج قد كساه بدثارٍ أبيض جامد. يا للبرودة. حين حاولَ الحركة وجدَ يده ملتصقةً بالأرض، ولمَّا انتزعَها تركَ من جِلدها قطعةً على الثَّلج. عادَت تَصرُخ "انهض. إنهم قادمون".

لقد عادَت ثيسل، والآن تُمسِكه من كتفه وتهزُّه وتزعق في وجهه، وشمَّ ڤارامير رائحة أنفاسها وشعرَ بدفئها على وجنتين خدَّرهما البرد. الآن، افعلها الآن أو مُت.

استجمعَ كلَّ ما تبقَّى فيه من قوَّة، ووثبَ خارجًا من جِلده واقتحمَها.

وقوَّست ثيسل ظَهرها وصرخَت.

فاحشة. من قالها؟ هي أم هو أم هاجون؟ لم يعرف الإجابة قَطُّ. تهاوى جسده القديم على كومة الثَّلج مع ارتخاء أصابعها، وتلوَّت الزَّوجة الحربة بعُنفٍ صارخةً. اعتادَ قِطُّ الظِّلِّ أن يُقاوِمه بشراسة، وأصابَ الجنون دُبَّة الثُّلوج فترةً فراحَت تُهاجِم الشَّجر والصُّخور والهواء، لكن هذا أسوأ. سمعَ فمها يصيح "اخرُج، اخرُج!"، وترنَّح جسدها وسقطَ ثم عادَ ينهض، وراحَت يداها تضربان الهواء، والتوَت ساقاها في هذا الاتِّجاه وذاك في رقصةٍ مريعة إذ صارعَت روحها روحه على الجسد. عبَّت مِلء فمها من الهواء البارد، ونالَ ڤارامير نِصف لحظةٍ تمتَّع خلالها بمذاقه وبقوَّة هذا الجسد الشَّاب، قبل أن تُطبِق أسنانها وتملأ فمه بالدِّماء. ثم إنها رفعَت يديها إلى وجهه، فحاولَ أن يدفعهما إلى أسفل ثانيةً، لكن اليدين رفضَتا الطَّاعة، وبأظفارها أخذَت تخمش عينيه، وإذ غرقَ في الدَّم والألم والجنون قال لنفسه متذكِّرًا: فاحشة، ولمَّا حاولَ الصُّراخ بصقَت لسانهما.

مادَ به العالم الأبيض وتلاشى، وللحظةٍ شعرَ كأنه داخل شجرة الويروود، يَنظُر عبر عينين حمراوين منحوتتين فيما يرتعش رجل محتضر على الأرض بضعفٍ وتَرقُص امرأة مجنونة رقصةً داميةً عمياء تحت القمر، تذرف دموعًا حمراء وتُمزِّق ثيابها. ثم اختفى كلاهما، ووجدَ نفسه يرتفع، يذوب، محمولة روحه على ريحٍ باردة. إنه في الثَّلج وفي السُّحب، إنه عُصفور وسنجاب وسَنديانة. حلَّقت بومة ذات قرنين بصمتٍ بين الأشجار مطاردةً أرنبًا برِّيًّا، وكان ڤارامير داخل البومة، داخل الأرنب، داخل الأشجار. في الأعماق تحت الأرض المتجمِّدة تَنخُر ديدان الأرض العمياء في الظَّلام، وكان هو الدِّيدان أيضًا. منتشيًا فكَّر: أنا الغابة وكلُّ ما فيها. حلَّقت غِدفان مئة ونعبَت إذ شعرَت بمروره، وبصخبٍ صاحَت إلكة عظيمة مزعجةً الطِّفلين المتشبِّثيْن بظَهرها، ورفعَ ذئب رهيب نائم رأسه يزوم في الهواء الخالي.

وقبل الخفقة التَّالية لقلوب كلِّ تلك المخلوقات واصلَ هو طريقه بحثًا عن قلبه، عن الأعور والماكرة والمتربِّص، عن قطيعه، وقال لنفسه إن ذئابه ستقبله.

وكان هذا آخِر ما جالَ بباله كإنسان.

أتى الموت الحقيقي بغتةً. شعرَ بصدمةٍ من البرد كأنه أُلقِيَ في مياه بحيرةٍ متجمِّدة، ثم إذا به يَركُض على ثلوجٍ يُنيرها القمر وعلى مقربةٍ من ورائه رفيقاه في القطيع. نِصف العالم مظلم، وهكذا علمَ أنه في داخل الأعور. عوى، وردَّد المتربِّص والماكرة العُواء.

توقَّفت الذِّئاب حين بلغَت قمَّة التَّلِّ. قال لنفسه متذكِّرًا: ثيسل، وأحسَّ جزء منه بالحُزن على ما فقدَه وجزء آخَر لما فعلَه.

كان العالم قد استحالَ إلى جليدٍ بالأسفل، تزحف أصابع من الصَّقيع بتؤدةٍ على شجرة الويروود، يسعى بعضها للإمساك ببعض، والقرية الخالية لم تَعُد خاليةً. الآن تسري ظلال زرقاء الأعيُن بين أكوام الثُّلوج، بعضها يرتدي البنِّي وبعضها الأسود وبعضها عارٍ، وقد ابيضَّت بشرتها جميعًا كالثَّلج، وثمَّة ريح تتنهَّد بين التِّلال محمَّلةً برائحة الظِّلال، رائحة اللَّحم الميت والدَّم الجاف والجِلد المعبَّق بالعفَن والنَّتانة والبول. زمجرَت الماكرة وكشَّرت عن أنيابها وقد انتفشَ فروها. ليسوا بَشرًا، ليسوا فرائس، ليس هؤلاء.

الأشياء بالأسفل تتحرَّك، لكنها ليست حيَّةً. واحدًا تلو الآخَر رفعَت رؤوسها نحو ثلاثة الذِّئاب فوق التَّلِّ، وآخِر النَّاظرين الشَّيء الذي كان ثيسل. كانت ترتدي الصُّوف والفرو والجِلد، وفوق كلِّ هذا معطف من الصَّقيع يُطَقطِق حين تتحرَّك ويلتمِع في ضوء القمر، ومن أناملها تتدلَّى كُتل جليدٍ ورديَّة باهتة، عشرة سكاكين طويلة من الدِّماء المتجمِّدة... وفي الحُفرتين اللتين احتلَّتهما عيناها من قبل ضوء أزرق شاحب يتذبذَب، يُضفي على ملامحها الخشنة جمالًا عجيبًا لم تعرفه في حياتها قَطُّ.

إنها تراني.


[1] الاسم الذي يُطلِقه الهَمج على نسائهم المُحاربات. (المُترجم).

[2] البِتع هو نبيذ العسل. (المُترجم).

[3] قِطط الظِّل اسم يُطلَق على نوعٍ من الأسود الجبليَّة في عالم الرِّواية. (المُترجم).

[4] الذِّئب الرَّهيب حيوان حقيقي منقرض كان يَقطُن الأمريكتين قبل عشرة آلاف سنة. (المُترجم).