من أصعب ما يقدم عليه الكاتب، هو أن يبدأ قصته بمشهد الذروة، لأنه يكون قدم للقارئ خلاصة الحدوتة ومفاجآتها، ويجد نفسه بعدها متورطا في حكي "كيف حدث" وليس "ماذا حدث"، فماذا لو كان الكاتب يحكي حكايةً نعرف بدايتها، وتطورها، وذروتها، ونهايتها أيضًا؟
ذلك ما واجهه صناع آل التنين House of the Dragon، المشتق من عالم أغنية الجليد والنار الذي شاهدنا منه قبل عشر سنوات مسلسل لعبة العروش Game of Thrones. ولكننا الآن، وسط أحداث جرت قبل 172 عامًا من ولادة دنيرس تارجيريان.
تقوم أحداث آل التنين على كتاب النار والدم/Fire & Blood لجورج آر آر مارتن، وبالتحديد فترة الحرب الأهلية المعروفة بإسم رقصة التنانين، بين الأميرة رانيرا وأخيها إيجون على العرش الحديدي.
وخلافًا لـ لعبة العروش، الذي بنيت أحداثه على سباعية أغنية الجليد والنار غير المنتهية، فإن كتاب النار والدم عمل منتهٍ نعرف تفاصيله، ونهاية الرقصة ومصائر المشاركين فيها، بل ورأيناه مسبقًا في لعبة العروش.
لكن بعد نهاية الموسم الأول من آل التنين، الذي حفل بالمفاجآت، يمكننا قول إن صناع العمل نجحوا في مهتمهم، ونحن أمام عمل ينافس لعبة العروش بجدارة، وقد يتفوق عليه أيضًا، وذلك بفضل المراعاة الذكية للعديد من التفاصيل.
دراما ذكية
صاغ المؤلف جورج مارتن "الدم والنار" في شكل كتاب تاريخ، يسرد الوقائع التي مرت بها عائلة تارجيريان من منظور معاصريها، وفي محاكاة لكتب التاريخ الحقيقية، تضاربت روايات الشخصيات عن الأحداث، واستغل صناع المسلسل ذلك التضارب لخلق خطوط درامية ثرية.
واحد من أقوى هذه الخطوط، كان شخصية لاريس سترونج، ففي الكتاب اندلع حريق هارينهول الذي قتل يد الملك لايونيل سترونج وابنه سير هاروين، لأسباب غامضة. قال البعض إنها لعنة هارينهول، أو انتقام الملك ڤسيريس من عشيق ابنته، أو تخطيط ديمون تارجيريان للتخلص من منافسه على قلب رانيرا، بينما قال آخرون إن المدبر هو لاريس سترونج، ليتخلص من أبيه وأخيه الأكبر ويصبح لورد هارينهول.
اختار صناع المسلسل تبني الرواية الأخيرة، وخلقوا بُعدًا أعمق لشخصية لاريس سترونج، ومنحوه مساحة أكبر على الشاشة، وصلت لابتزازه الملكة شخصيًّا، ليعيد لأذهاننا بيتر بايليش، الذي تلاعب بالجميع في لعبة العروش، وأشعل حرب الملوك الخمسة.
كذلك غيَّر صناع المسلسل الخط الدرامي لشخصية لينور ڤيلاريون، وبدلاً من قتله على يد عشيقه كارل هربا سويًا، تاركين لرانيرا وديمون حرية الزواج. ذلك الخروج الآمن النادر في عالم وستروس جعل مشاهدين يتوقعون عودته في المواسم القادمة، مع تنينه، كحليف لفريق السود في رقصة التنانين.
أمَّا الخط الدرامي الأكثر أهمية، الذي خلق أساسًا للصراع، فهو رؤية إجون الفاتح التي سمّاها "أغنية الجليد والنار"، وتربط أحداث المسلسلين معًا. هذه التفصيلة لم ترد في الكتاب، لكنها إضافة ثرية لآل التنين.
صنعت هذه التلاعبات الصغيرة فارقًا هائلاً عن الكتاب، نتوقع امتداده للمواسم التالية.
تطور استثنائي
تميز لعبة العروش بالتطورات المذهلة لأبطاله، خصوصًا ما يعرف بـ"قوس الشخصية"، وهو تغير طبيعتها مع تطور الأحداث التي تعيشها، كما رأينا في شخصية جايمي لانستر مثلاً، الذي تحوَّل من رجل عابث يستسهل القتل ولا يبالي إلا بنزواته في الموسم الأول، إلى محاربٍ شريف يتعاون مع أعدائه لمجابهة خطر يهدد البشرية في الموسم الأخير.
تميزت شخصيات جورج مارتن برماديتها، ليست خيّرةً تمامًا أو شريرةً تمامًا، وسار كُتَّاب آل التنين على نفس الدرب، فأضافوا إلى الشخصيات التي نقلوها إلى الشاشة أبعادًا أكثر عمقًا، تتفوق على ما كتبه مارتن نفسه.
من أفضل تلك التطورات شخصية ڤسيريس، الذي كان ملكًا لاهيًا غير مبالٍ، يتجاهل الصراعات المحيطة ويدفن رأسه في الرمال، ما أكسبه عداوة القارئ تجاه سلبيته في الكتاب.
لكن على الشاشة اكتسبت شخصيته جمالاً ورهافة، وظهرت مشاعره نحو ابنته رانيرا أعمق، واحتياجه لعائلته أكثر إنسانية، وزلزله موت زوجته -باختياره- ليتوقف أخيرًا عن الحلم بالوريث الذكر، ويركز على تأهيل رانيرا للعرش، سعيًا لإنقاذ البشرية، مع جهوده لاستمرار السلام بالمملكة، كل هذا وهو يكافح مرضًا رهيبًا يأكله حيًّا.
تلقى الممثل بادي كونسيدين عاصفة من الاستحسان لأدائه الاستثنائي، خصوصًا من مارتن الذي صرَّح "ڤسيريس المسلسل أفضل من ڤسيريس الذي كتبته".
كذلك أضاف صناع المسلسل تفاصيل لم توجد في الكتاب، مثل تقديم شخصية هيلينا تارجيريان باعتبارها "حالمة"، وهو لقب يُطلق على من امتلكوا هبة البصيرة في عائلة تارجيريان، ليترقب المشاهدون كل ما تنطق به هيلينا بشغف، ويحاولون تفكيك شفراته.
أمَّا أخطر التطورات فكانت من نصيب الملكتين أليسنت هايتاور ورانيرا تارجيريان. قدم الكتاب أليسنت في صورة أكثر قسوة وجشعًا، إذ حرضت إيجون لسنوات على أخته، وعند موت ڤسيريس تركته يتعفن في غرفته لأيام ريثما ترتب تحالفاتها وتنصب ابنها على العرش. رانيرا أيضًا كانت أكثر نزقًا، وعندما أجهضت طفلتها الأخيرة بعد أنباء موت أبيها وسرقة عرشها، اتهمت الخضر بقتلها وعزمت على الانتقام فورًا.
في المسلسل لم تبلغ أليسنت بشاعة نظيرتها في الكتاب، تعرفنا عليها كطفلة تنشد إرضاء أبيها، ثم رأينا التضارب الذي يعصف بها لدرجة جعلتها كتلة تناقضات تسير على قدمين، نلمس إنسانيتها مع ڤسيريس وأطفالها، وتأرجح مشاعرها نحو صديقتها القديمة، بين محاولات لاغتصاب عرشها ورفض قتلها.
رانيرا أيضًا كانت أكثر عقلانية من الكتاب، فلم تسعَ للحرب فورًا، بالعكس، سعت لتجنب الدمار قدر الإمكان، وسيطرت على اندفاع مواليها بحزم.
هذه العقلانية وُظفت من أجل خط درامي مفاجئ للغاية: لقد حاول طرفا الصراع تجنب الدم، ومع ذلك تدخلت قوة أعظم منهم جميعًا لتبدأ الحرب.. إنها إرادة التنانين.
شريك لا تابع
استمرارًا لاستخدام نظرية أثر الفراشة، تؤدي تغيرات بسيطة إلى اختلافات ضخمة في المستقبل يعتمد عليها المسلسل سواءً في نسخته الأم أو تلك الأحدث. مهّد صناع آل التنين، إلى مشهد النهاية منذ الحلقة الأولى لموسمهم.
فكرة أن التنانين كائنات واعية تقرر كيف تستخدم سلطتها وضد من، والاعتقاد بأن التارجيريان يتحكمون فيها، ما هو إلا وهم. يظهر ذلك في حوار ڤسيريس ورانيرا عن سلطة التارجيريان على التنانين، ويظهر كذلك في تصاعد الإيقاع خلال الحلقة السابعة عندما نجح إيموند في ترويض ڤيجار، بعد فشله لسنوات، قبل أن تبلغ الإثارة أقصاها في الحلقة الأخيرة، ومعركة ستورمز إند.
فوق تنينين يلتقي إيموند تارجيريان بابن أخته لوسيريس، ليحاول انتزاع عينه، وتبدو نيته في ترويع الفتى واضحة، لكن الأمور تخرج عن السيطرة عندما ينفخ التنين أراكس النار في وجه ڤيجار ضد إرادة لوسيريس، فتلاحقه ڤيجار بشراسة رغم أنف إيموند.
يحاول الراكبان إخضاع التنينين، لكن النهاية المؤسفة تأتي عندما تمزق ڤيجار أراكس وراكبه إلى أشلاء، ويقف إيموند غارقًا في المطر والرعب، لينتهي المسلسل بأكبر تغير درامي عن الكتاب؛ لقد أشعلت التنانين شرارة الحرب وليس أصحابها.
التنانين جزء مثير للغاية من عالم أغنية الجليد والنار، أكسبت شخصية دنيريس تارجيريان بريقًا وشعبيّة، في الكتاب والمسلسل على حدٍ سواء، لكن في لعبة العروش كانت التنانين تتبعها؛ ولدت في ظرفٍ استثنائي جعلها تتعلق بها كأم، وأطاعتها في كل شيء.
لكننا في آل التنين، نعيش في عالمٍ مزدحمٍ بالتنانين، فنرى للمرة الأولى شخصيتها المتفردة، بداية من اختيارها لراكبها، وتمردها على خدمتهم وحتى لفحهم بالنار، وانتهاءً بصراعاتها التي ستشعل الحرب التي ستنهي وجود آل التنين.
تثير الحلقة الأخيرة سؤالاً: إذا كانت التنانين أشعلت الحرب، فهل يعني ذلك أنها اختارت الهلاك لنفسها ولأصحابها منذ البداية؟ لن نعرف الإجابة الآن.
https://www.youtube.com/watch?v=6-7dJyMrs1k
النساء على الشاشة وفي الكواليس
على نقيض لعبة العروش، الذي طالته انتقادات عديدة بسبب مشاهد الجنس المبالغ فيها، وعدم وجود شخصيات نسائية تقود الأحداث إلا في المواسم الأخيرة، بجانب غياب النساء عن إخراجه، منح آل التنين دورًا كبيرًا للنساء على الشاشة وفي كواليس التصوير.
من أصل عشر حلقات أُخرجت أربع حلقات على يد نساء، بجانب وجود أربع كاتبات ضمن فريق السيناريو، وهو ما انعكس على الجودة الدرامية للشخصيات النسائية على الشاشة، ومعالجة العالم من منظور امرأة/Female Gaze.
انعكس ذلك المنظور في تفاصيل مختلفة، مثل واقعية مشاهد الولادة وقوتها، ونعومة مشاهد الحميمية ورقتها، ومحاكمة النظرة الذكورية التي ترفض منح النساء السلطة، وتصادر على حقهن في اختيار شريك عاطفي، وتقديم نموذج للرجال الذين يرفضون كلمة "لا" بشكل عنيف، وتنقلب مشاعرهم تجاه من رفضتهم إلى الكراهية والسعي للإيذاء، مثلما رأينا في شخصية سير كريستن كول.
أخيرًا نرى العالم من منظور امرأة، خصوصًا في تلك الأجواء المفعمة بالتستوستيرون والرجال التوَّاقين للحرب، التي تحاكي أجواء عصور وسطى هُمشت فيها المرأة وعوملت كنصف إنسان.
لا نزال في بداية الرحلة، وآل التنين يعدنا بالكثير في موسمه القادم، وبعد المقارنات الكثيرة التي عُقدت بينه وبين لعبة العروش، تبقى نقطة مهمة للغاية في صالحه، أن المؤلف جورج مارتن متورط في الإنتاج هذه المرة، كما أن النهاية المعروفة للأحداث تجعلنا مطمئنين إلى أن صناعه مهما جمح خيالهم، فسوف يلتزمون بإطار عام للقصة، ما يجعلهم بمنأى عن تكرار الأخطاء الدرامية الفادحة التي شهدتها المواسم الأخيرة من لعبة العروش، وأثارت غضب الملايين.
سننتظر ونرى.