كتب: يوسف بناصرية*
- القاضي: هل شاهدتَ علم جمهورية الريف؟
= خالد: عفوًا؟
- ممثل النيابة العامة: إنه العلم الأحمر ذو السداسية.
= خالد: أتقصد رمز مقاومة الاستعمار؟
هذا الحوار واقعي جرى في كانون الثاني/ يناير 2018، بين أحد نشطاء حراك الريف خالد بركة، والمحكمة التي عرضت عليه فيديو يظهر فيه بجانب علم جمهورية الريف، مبديًا افتخارًا برمز مقاومة منطقته للاستعمار الإسباني في بداية القرن العشرين.
محاكمة معتقلي الريف التي انطلقت في حزيران/ يونيو 2017، على خلفية احتجاجات هزّت شمال المغرب بين عامي 2016 و2017، عقب مقتل بائع سمك داخل شاحنة نفايات، لم تخلُ جلساتها من عرض تدوينات تضمنت اسم "جمهورية الريف"، ومرئيات أظهرت حمل "علم الجمهورية" في التظاهرات، وصور مؤسسها محمد بن عبد الكريم الخطابي، قائد ثورة الريف ضد المستعمرَين الإسباني والفرنسي في عشرينيات القرن الماضي.
وفي 28 تشرين الأول/ أكتوبر 2016، صادرت السلطات شحنة سمك "أبو سيف" غير مرخّص بيعه من محسن فكري. وعندما حاول بائع السمك منع عناصر الشرطة من إتلاف "ثروته" في حاوية للنفايات سقط داخلها وسحقته، ما أثار غضب أبناء مدينته الحسيمة، فانطلقت حركة احتجاجية امتدت إلى مناطق أخرى في شمال المغرب، وعُرفت بـ"حراك الريف".
خلال هذه المحاكمات، ساءلت المحكمة المعتقلين عن ملابسات حملهم للعلم ولصور الخطابي، وعن ذِكر بعضهم اسم الجمهورية في تدويناتهم على فيسبوك، ما أشعل جلسات المحاكمة في كثير من الأحيان، احتجاجًا على ما أسماها ناصر الزفزافي قائد الحراك "محاكمة للأمير مولاي محند (لقب الخطابي) الذي تأثر به زعماء حركات التحرر عبر العالم".
أثار علم جمهورية الريف حساسية تجاه كل مَن يعلن الاعتزاز به، أو يحمله في احتجاجات منطقته، رغم أن سقف مطالب المتظاهرين كان اجتماعيًا ومنخفضًا، بل وصل الأمر بجهات عديدة إلى ربطه بتهمة "الانفصال".
عَلَم الخطابي: انفصال أم هويّة ريفية
في 18 أيلول/ سبتمبر 1921، تأسست جمهورية الريف برئاسة محمد الخطابي بعد سلسلة انتصارات حققها الأخير بمعيّة القبائل الريفية على الجيش الإسباني، وكان المغرب مقسّمًا بين مناطق خاضعة للنفوذ الإسباني، وأخرى للنفوذ الفرنسي.
اتخذت الجمهورية من "أجدير"، بلدة تقع قرب الحسيمة، عاصمة سياسية، واختارت قماشًا أحمر تتوسطه نجمة وهلال أخضران داخل مُعيّن أبيض علمًا لها، لتكون بهذا أول جمهورية مستقلة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
شملت جمهورية الخطابي التي دامت خمس سنوات منطقة شاسعة في شمال المغرب، بين واد ملوية شرقًا وقمة سبارطيل المطلة على الساحل الأطلسي غربًا، وبين البحر الأبيض المتوسط شمالًا حتى واد ورغة جنوبًا، وكانت أهم أقاليمها الحسيمة والناظور وشفشاون وتطوان، قبل حلّها عام 1926 بفعل تحالف عسكري بين فرنسا وإسبانيا، استخدم الأسلحة الكيميائية في هجومه الشامل الذي انتهى بنفي الخطابي خارج البلاد بعد أن سلّم نفسه للقوات الفرنسية.
يرى المؤرخ المغربي المعطي منجب أن حركة بن عبد الكريم لم تكن ذات بعدٍ قبلي كما كان الحال بالنسبة إلى أغلب المقاومات منذ بداية القرن العشرين، بل كانت ذات منحى وطني. ويعتبرها أقوى مقاومة ضد الاحتلال في المغرب، مؤكدًا أنها ألحقت بإسبانيا أكبر هزيمة تلقتها قوة استعمارية خلال النصف الأول من القرن العشرين، في إشارة إلى معركة أنوال.
ففي تموز/ يوليو 1921، مُنيت القوات الإسبانية بهزيمة ساحقة، سقط فيها 19 ألف قتيل و4300 جريح و570 أسيرًا، من أصل 22 ألف جندي، أمام ثلاثة آلاف مقاتل ريفي قُتِل منهم 500 فقط. كما أسفرت المعركة عن مقتل الجنرال سيلفستر قائد جيش المُستعمر، وتسبّبت بأزمة سياسية انتهت بسقوط الحكومة الإسبانية.
وذكر المؤرخ لرصيف22 أن من بين مميزات حركة المقاومة الريفية أيضًا أنها كانت حداثية، "خاصة بعد انتظامها على شكل دولة سمّت نفسها جمهورية الريف، توفّرت على الكثير من مظاهر الحداثة السياسية المتمثلة في التنظيم شبه الديمقراطي، والتقنية التي كان من بين مظاهرها استعمال تقنيات جديدة وقتها كالتلغراف والتليفون"، فضلًا عن الانتقال إلى التفكير في "اقتناء طائرات لاعتمادها في الحرب ضد الاستعمار".
لم يبقَ التخوّف من المقاومة الريفية حبيسًا لدى إسبانيا فقط، بل اجتاح الحكومة الفرنسية أيضًا وقال مقيمها العام في الرباط آنذاك، الجنرال ليوطي، حسب منجب "إن عبد الكريم رجل خطير لأنه يحيط نفسه برجال حداثيين".
ويُرجِع المؤرخ المغربي والباحث في التاريخ المعاصر في معهد الدراسات الإفريقية في الرباط، ارتباط المغاربة من سكان منطقة الريف بمقاومة الخطابي إلى "الهوية المحلية القوية، وثقافة الريفيين المحارِبة، إذ جسدوا درع الحدود الشمالية للمغرب لما يزيد عن خمسة قرون، منذ بداية التحرشات الأوروبية في القرن الـ15".
يرتبط المغاربة عمومًا بذكرى الخطابي ومقاومته ضد المستعمر، يضيف منجب، إلا أن الارتباط داخل مدن الريف وقراه أكبر لأن سكان المنطقة يعتبرون أنفسهم الأقرب إليه، "فهم فخورون جدًا بانتمائهم للريف، لأن ابن عبد الكريم كان زعيمًا ريفيًا، وكان له منظور وطني يريد تحرير كامل البلاد، وبناء دولة عصرية تشمل كل المغرب".
أما بالنسبة إلى علم الجمهورية، فيشير المؤرخ لرصيف22 إلى أنه لم يُستعمَل كثيرًا أثناء حركة عبد الكريم، بل أحدثته جمهورية الريف عندما كانت تريد أن تنتمي إلى جمعية الأمم، لأن العلم هو أحد رموز السيادة، بالإضافة الى الاسم والعملة، وكانت عملتها آنذاك الـ"ريفان".
تحوّل العلم إلى مرجع للمغاربة
ولم يصبح العلم مرجعًا لدى المغاربة إلا في العقود الأخيرة، إذ صارت رمزيته اليوم أقوى مما كانت عليه في القرن الماضي "نظرًا لارتباطه بالعقلية الحديثة، بينما كانت القاعدة السكانية في جمهورية الريف في أغلبها تقليدية، والنخبة الحداثية كانت جزئية وقليلة جدًا"، يقول منجب، مستنتجاً تطورًا ملحوظًا للذاكرة الريفية كما يحدث في كل الجماعات البشرية.
في هذا الصدد، يرى الحقوقي المغربي خالد البكاري أنه "لا يمكن اعتبار كل مَن يحمل علم جمهورية الريف انفصاليًا، لا بالمنطق الحقوقي ولا السياسي ولا التاريخي"، فجمهورية الخطابي، يوضح المتحدث، لم تكن في سياقها التاريخي انفصالًا عن الوطن، "لأن الوطن قبلها كان مقسّمًا بين مناطق خاضعة للنفوذ الإسباني، وأخرى للنفوذ الفرنسي".
وبالتالي، فإن حكومة الريف كانت خطوة استراتيجية في مواجهة الاحتلال في شمال المغرب، ومن هذا المنطلق يؤكد البكاري أن "رفع تلك الأعلام يحمل رمزية حضور الذاكرة في المتخيل الجمعي الريفي، وكل الدارسين للحركات الاجتماعية الجديدة يعرفون دور الذاكرة الجمعية في بناء أي هوية احتجاجية".
"شخصيًا، لا أعتبر أن من حق المغاربة الافتخار بعلم الخطابي، بل من واجبهم ذلك، حفظاً للذاكرة، واعترافًا بفضل الخطابي ومنطقة الريف في مقاومة الاستعمارين الإسباني والفرنسي"، يقول البكاري، مشيرًا إلى أنه بعد انتهاء مرحلة الحماية "لم يكن في المغرب سوى علمين، علَم وضعه المستعمر الفرنسي، وآخر يُمثّل المقاومة الريفية"، ومتسائلًا "أيهما كان الأجدر بأن يكون علم دولة الاستقلال؟".
في عشرينيات القرن الماضي، وبالتزامن مع نضال الريفيين لتحرير شمال المغرب من الاستعمار الإسباني، ظهر صراع سيادي من أجل المشروعية بين الملكية المغربية وجمهورية الريف. يحكي المؤرخ المغربي المعطي منجب أن "هذا الصراع كان قويًا خلال حركة الخطابي الذي لم يعترف بالحمايتين الأجنبيتين، بل إن مؤيديه كانوا يسمون السلطان يوسف ‘سلطان الروم’، أي الأوروبيين، لأنه ورث العرش عن عبد الحفيظ الذي وقّع عقد حماية مع الفرنسيين مفرّطًا بالسيادة المغربية"، أما من جانب السلطة فكان الخطابي يُدعى بـ"الروگي" أي المتمرد الذي لا مشروعية له.
أمام هذا الواقع، يضيف منجب لرصيف22، فإن "العرش الملكي يجد نفسه في موقع دفاعي أكثر مما هو هجومي، لهذا فإن الإعلام الرسمي غالبًا ما هاجم حراك الريف بأنه انفصالي، رغم أن هذا غير صحيح والأغلبية الساحقة من نشطاء الحراك هم وطنيون لا يقلون وطنية عن مغاربة الرباط أو الدار البيضاء".
مقاومون مغضوب عليهم ملكيًا
نيران حرب أكلت الأخضر واليابس، أسلحة كيميائية وغازات تستمر مخلّفاتها في اختطاف أرواح الريفيين إلى يومنا هذا، جراء أمراض السرطان التي استقرت داخل بيوتهم وتسرق منها روحاً بعد روح بين الفينة والأخرى، خصوصاً في المناطق التي عرفت مواجهات بين الإسبان ومقاتلي جمهورية الريف.
من مقاومين مستهدفين أوروبيًا إلى مواطنين مغضوب عليهم ملكيًا، تستمر معاناتهم بعد الاستقلال. يقول منجب إن "الملك الحسن الثاني (وكان حينذاك وليًا للعهد) ويده اليمنى الجنرال محمد أوفقير قاما عام 1959 بقمع شرس لأهل الريف، استُعملت فيه كل أنواع الأسلحة بما في ذلك الثقيلة والطائرات"، وصاحبته سلوكيات عنيفة حسب شهود عيان "كتفجير الأفراد والاغتصاب والتشهير بأهل المنطقة. كان الأمر عنيفًا جدًا"، يضيف المتحدث.
وفي أيار/ مايو 2017، حدث ما كان شاهدًا على استمرار شبَح الجمهورية، إذ قرر النظام المغربي بعد أن استطاع حراك الريف المقاومة سلميًا لمدة أشهر، اللجوء إلى القوة لوضع حد له، ما أسفر عن محاكمة عشرات النشطاء بتهم ثقيلة تضمنت مساءلات حول رفع علم الجمهورية وصور مؤسسها الخطابي، وهم اليوم، يقول منجب "يتعرّضون لمعاملة سيئة من قِبل إدارة السجون في مخالفة للقانونَين المغربي والدولي".
ويشير الحقوقي المغربي خالد البكاري إلى أن القانون لا يجرّم رفع أعلام ذات حمولة تاريخية، أو هوياتية، أو رياضية، أو فئوية، "والمستغرَب أن الدولة المغربية تتساهل مع كل الأعلام، وتواجه رفع علم الخطابي بتشنج محاوِلَة شيطنته لتثبيت تهمة الانفصال على نشطاء الحراك".
ويضيف لرصيف22 أن "الحمولة الرمزية لعلم الخطابي تضايق السردية الرسمية لنشوء الدولة الحديثة في المغرب باعتبارها منتجًا استعماريًا"، حسب تعبيره.
أزمة الريف: ما الحل؟
"إطلاق سراح جميع معتقلي الحراك". هذا ما يراه البكاري مدخلًا للمصالحة حقيقية مع منطقة الريف، محددًا ثلاثة عناصر أخرى لتحقيق هذه المصالحة، وهيَ "حفظ الذاكرة، وجبر الضرر المجالي، وضمانات عدم التكرار"، مع إعادة بناء الدولة المغربية وفق "لامركزية حقيقية تنهض على الاعتراف بالجهات التاريخية".
بينما يرى منجب أن أزمة الريف "لا حل جذرياً لها إلا بإقامة نظام ديمقراطي حقيقي في المغرب" يتيح لكل الهويات المحلية التعبير عن نفسها بكل حرية، لافتًا الانتباه إلى أنه "لم يحصل أبداً أن تفجّرت وحدة بلد ديمقراطي بسبب الأعلام المحلية أو الشعبية، في وقت تجني فيه الأنظمة غير الديمقراطية على شعوبها بالقمع الموجه ضد مكون هوياتي ما، والتشهير بأهله وبقيَمه وزعمائه".
*صحافي مغربي، مهتم بالمجتمع والثقافة والشؤون السياسية.
هذا الموضوع من إنتاج رصيفـ٢٢ وتنشره المنصة في إطار تعاون بين الموقعين.