لم يظهر الاحتياج للصحافة والسؤال عنها مثلما هو الحال الآن. تعليقات على فيسبوك وتويتر تبحث عن صحفي أو موقع يعالج موضوع محمد علي "المفروض الصحافة تقوم بدورها وتعالج قصة المقاول دا"، أو تعليقات ذات سقف أكثر انخفاضًا "مفروض الصحافة تقول إن فيه واحد بيقول كذا، وتحاول تجيب منه ما يثبت ادعاءاته".
في الحقيقة الصحافة لن تستطيع حتى ممارسة أكثر أشكالها تفاهة بمعايير الزمان القديم (2005- 2013) بأن تقول: فلان، الشخصية العامة، يدّعي أن جهة كذا نصبت عليه في عدة ملايين ونقطة وانتهى الموضوع. أصبح هذا غير ممكن إلا بمخاطرة كبرى، تحتاج رأيًا قانونيًا في التاسعة صباحًا.
لا سبيل هنا لمستندات تحصل عليها من مقاول من الباطن حصل على مشروعات بالأمر المباشر، يريد أن يصبح الآن شاهد ملك بعد خلاف على أرباح ومستحقات، وتذهب بها للطرف المقابل وتمنحه الحق في الدفاع عن نفسه وعرض مستنداته هو الآخر. وبفرض أن هذا المقاول أعطاك ما يملكه من مستندات، فلن تجرؤ على نشرها ليهنئك عشرة من زملائك وتنام سعيدًا قبل أن تفكر في القصة التالية.
لماذا وصلنا لهذا المستوى؟
ببساطة لأن الصحافة تسير في طريق الموت منذ 2015. هذا العام الذي سيؤرخ به، فيما بعد، لنقطة نهايتها في مصر.
كانت هناك مساحات للعب، بسبب الانفتاح الذي يعقب الأحداث الكبرى واستمر رغم يوليو 2013. مساحات يملؤها صحفي بتحقيق وتغطية هنا أو حلقة جيدة من برنامج هناك. كل هذا انتهى تمامًا مع فتح السيسي نيرانه على الإعلام في 2015 "مش بتقولوا كل حاجة فيها كارثة؟ هو (الإعلام) دا يعني مافيهوش كارثة؟". أو في الشهر نفسه في لقاء مع الإعلاميين أنفسهم "تجنبوا الإحباط الذي يُبثّ بشكل مستمر".
قبل أن تأتي الضربة الأخيرة بتحديد شكل التغطية الإخبارية المثالية من وجهة نظر السيسي في أبريل 2017 "الواقعة حصلت وطلّعناها مرة، ما تفضلش تتكرر طول الوقت". هكذا؟ وبعد يوم من تفجير كنيستين في الأسكندرية وطنطا، وبهذه الصيغة التي لا يمكن أن تصدر إلا من رئيس تحرير في غرفة أخباره.
ومن هذا الوضع وصلنا إلى جروب واتسآب الشهير الذي يدير من خلاله، ما يطلق عليه تهذيبًا، "الجهاز"، ظهور الوزراء أو منعهم من الشاشات حسبما يراه المسؤول في "الجهاز"، وانتهاءً بـ "تم الإرسال من جهاز سامسونج".
السلخ قبل الذبح
أذكر سلخ مواقع إلكترونية جديدة في 2011 و2012 كان يعيش محتواها في بروفايلات المشاهير. تنشر أشياء تبدأ بـ "تداول نشطاء" و"بوست على فيسبوك قال كذا" و"تويتة للناشط فلان دعا فيها لكذا". كان هذا تهريج صاف.
حتى هذا التهريج صار ينتظره الناس من الصحافة الآن. لا أزال أراه مسخرة بالطبع وإن أصبحت العودة إليه أمرًا بعيد المنال.
في تلك الأزمان السحيقة؛ كان يظهر من وقت لآخر لغو مضحك يفكر في تطوير الصناعة، وتخليق أرباح، ووصول لشرائح أصغر في السن، وعن سبلٍ لمجابهة غيلان التكنولوجيا المقبلة علينا والتي يكتب فيها الأخبار وينشرها كود.
لن أتحدث عمّا يحدث الآن وأقارن.
حروب التريد ميل
موقعان أو ثلاثة على أقصى تقدير تتابع الأخبار وتحللها وتحاول تقديم إجابات عن أسئلة الناس. هذه هي الصحافة بألف ولام التعريف. لكن هذه المواقع تمارس الآن وبكل نشاط وهمة الجري على التريد ميل. لا تبارح مكانها، غير قادرة على تعظيم جمهورها، أو توليد أرباح. فالصحافة هي صناعة في شكلها النهائي وليست مشروعات خيرية تنويرية. الآن صار هدفها في الحياة أن تحافظ على الشريحة التي عرفتها والتي هي أصلًا شريحة على هامش اللاشيء، وأن تُبقِي على صدقات المحسنين متدفقة.
فأن يكون لديك تحليل إخباري عن العلاقات الخارجية، لا فساد ولا رشوة هنا. فعلٌ كهذا سيتسبب في حجب موقعك.
وماذا يعني؟ هذا يعني أنك ميت، فقط تحاول، في عالمك الآخر، استعادة ما ستفقده من قرّاء. هذا يعني أن تعيش أسبوعين من المعاناة والدعاية لقصص جديدة أخف وأخف، قد تتسبب هي الأخرى في حجب جديد من حيث لا تدري. فلا منطق لأي شيء.
لا كذبَ هنا. فلا أحد يضع يديه على فمه من الدهشة وعيناه تبرّقان: اتحجبنا تاني.. تالت.. سابع.. عشرين. فأنت تتوقع الحجب قادمًا بعد يوم أو اثنين من نشر قصة جيدة. هذا أمر طبيعي الآن. لكن أن يأتي هذا الشيء بعد ساعة ونصف فهذا هو تعريف الـ*** لصحفي يعيش في مصر الآن. حينها فقط لا تستطيع مقاومة استحضار الميم الشهير: Ah shit, here we go again، وأنت في طريقك للعمل صباح كل يوم.
هانحارب؟ قول والله؟
لأن الكفاح لإيجاد شيء ما في دوائر إنتاج الملل لم يعد مجديًا، فلنتوقف عن البحث للخروج منه ونحاول الاستمتاع، كما استخلصت لينا عطا الله، رئيسة تحرير مدى مصر، في مقال قبل عامين (حاوِل قراءته على هذا اللينك المحجوب في مصر إن استطعت: https://tinyurl.com/a7aEL7agb ).
لم يعد سؤال الملل العبثي يطاردنا الآن: ماذا نفعل هنا، وما جدوى ما نفعله، وهل سيُحدث ما نفعله أيّ فارق، وهل ننتظر شيئًا مما نفعله غير تقاضي مرتب والحصول على ركلة أدرينالين مع نشر قصة جيدة بسرعة يقرؤها جمهور الهامش الميكروسكوبي، وهل هذا مقابلٌ مجزّ لجرعة إضافية من أدرينالين مقاومة الحجب الذي يتناقص بحكم التكرار.
حقيقة لا أنوي أن ينتهي هذا بالـ Plot twist الشهير: ما دمنا أحياء؛ سنظل نقاتل. أبدًا.
فالمقاومة الآن صارت فعلًا يثير الـههههخيو، أكثر من إثارة أي شعور آخر كالتعاطف أو حتى القرف والإحساس باللاجدوى. نقاوم ماذا، وبأي شيء.
وعلى نفس الدرجة؛ فالاستغراق في الملل وعدم "مكافحته" على أمل ظهور شيء ما بداخل فراغه؛ يخلّف ثقوبًا في الصدر أكثر اتساعًا من تلك التي تخلّفها الأفلام المستقلة البطيئة في جسدك. ولذلك أعتقد أنه من الأفضل تفعيل موود مشاهدة التدمير الذاتي، وهي تتهدم بعنف فوق رؤوس الجميع.
ألا يريدان إغلاقها ضبّة ومفتاح؛ فليكن. ألا يريدان تحديد شكل التغطيات الإخبارية وهو الأمر الذي يحتاج صحفيًا متمرسًا؛ فليكن. ألا يريدان طرد حتى مذيعيهم الملاكي وإبعاد صحفييهم المستأجرين؛ يا مرحبًا. ألا يريدان إطلاق مواقع على طريقة الأولد سكول "اضرب ولاقي" للتعمية على أي نقاش جاد، مع السماح لها بربع هامش وحصانة ضد الحجب لتنتشر في صفوف جمهور هامش اللاشيء وتكسب بجانب هؤلاء أرضًا من صحف رجال الأعمال القديمة؛ يا أهلًا بقنابل الدخان الإلكترونية هذه.
فاصل
الجملة السابقة قد تبدو عمومية بعض الشيء. هي معدّلة بناء على اقتراح من المستشار القانوني للمنصة.
ألم ينطروا لميس الحديدي، وأسامة كمال، وخيري رمضان، ومجدي الجلاد، ويوسف الحسيني، وإبراهيم عيسى، وتوفيق عكاشة، ونائلة عمارة، ومعتز الدمرداش، وأماني الخياط من قدامى المحاربين، ويزحلقوا أحمد الطاهري، والدسوقي رشدي، ورشا نبيل، وباقي مذيعي ومعدّي دي إم سي من الجدد، ألم يخصوا صحف رجال الأعمال، ويصادروا أحزابهم وقنواتهم ويستحوذوا عليها. ألف مبروك.
إنهم يأكلون رجالهم الآن.. ألف صحة.
مؤسس بايرت باي للتورنت بيتر صاند، تمنى قبل نجاح ترامب بأكثر من عام انتصاره على خصومه "طبعًا أتمنى فوزه، حتى يفشخ أمريكا بشكل أسرع من الذي سيفعله رئيس أقل سوءًا. أتمنى أن تسيطر الروبوتات على الاقتصاد وتستحوذ على كل الوظائف. ستكون هناك بطالة؟ قطعًا. ألم؟ بالتأكيد. دماء؟ بالطبع. فإن كان انهيار هذا النظام شبه مرئيّ الآن؛ فمن الأفضل تسريع ذلك".
جربنا المقاومة. ذقنا طعم النصر. وتجرعنا الهزيمة واليأس ببطء. وبحثنا في الملل عن متع صغيرة مخبأة. لكن مَن يدري؛ قد يكون حفز عوامل النهاية هو طريق الخلاص. فلنجرب ذلك، مستمتعين بالمشاهدة كلٌ ثابت في موقعه حتى تتطربق.