كنّا أطفالًا ثلاثة على شَفَا المراهقة. نسير جنبًا إلى جنب بميدان روكسي. الزحام شديد في أول أيام العيد خاصة أمام السينما التي كانت تعرض، على ما أذكر، فيلم مواطن ومخبر وحرامي (2001) الذي صُنف وقتها بين المراهقين بأنه من "أفلام المناظر".
ابتعدنا قليلًا عن السينما. كان هناك باعة جائلون يتزاحمون على أحد الأرصفة. فجأة تخلّف أحد صديقيّ.. أدركنا بعد دقيقة أو أكثر أننا فقدناه. نظرنا خلفنا وجدناه يتحدث مع أحد الباعة. بعد ثوانٍ قليلة وَجّه البائع لكمة قوية إلى وجهه تلاها سباب بأقذع الألفاظ. لم يحرك صديقي ساكنًا. هرول إلينا مسرعًا وطالبنا أن نبتعد عن المكان.
كان البائع يقف أمام نَصبَة عليها ملابس داخلية حريمي. أمامه جمع من النساء تسلل صديقي بينهن. بدأ يطالع البضاعة ويتحسس الملابس ويسأل عن سعرها وسط ذهول الحاضرات، وكان الرد: لكمة قوية وسباب عنيف.
اكتشاف الطبقة
أنا من أبناء الطبقة الوسطى. في تلك المرحلة من عمري لم أكن أعرف شيئًا عن طبقتي ولم أكن أفهم معنى التمايز الطبقي والصراع بين الطبقات إلى غير ذلك.. أعي فقط أننا لسنا فقراء ولسنا أغنياء أيضًا.
حياتي مُقسّمة إلى جزأين؛ دراسة وإجازة. في الأولى أتعامل مع أبناء طبقتي في المدرسة الخاصة التي أدرس فيها. والثانية، كنت ألهو للعب الكرة في الشوارع المحيطة بمنزلي، وبديهيّ أن أطفال المنطقة أيضًا متقاربون في المستويين المادي والاجتماعي.
العيد كان الفرصة الوحيدة للخروج من تلك الدائرة الضيقة. كنا نغادر المنزل وننتشر كالجراد في الطرقات. نبحث، بالأساس، عن اللهو والتسلية في أرض جديدة حيث يسمح لنا في الأعياد أن نبتعد قليلًا عن منازلنا. نذهب إلى تلك الأماكن المزدحمة التي في الغالب توجد بها دور السينما ومحلات الأكل والآيس كريم إلى غير ذلك. وهناك، نُقابل أناسًا لا يشبهوننا. نستشكف عوالم جديدة غامضة ظلّت طوال العام بعيدة عن مخيلاتنا.
حين لَكَم البائع صديقي باغتني الخوف. وحين طلب منّي صديقي الرحيل من المكان تضاعف الخوف. وقتها لم أفكر إلا في شيء واحد، العودة سريعًا إلى حدودنا الآمنة. إلى منازلنا والأمتار القليلة المجاورة لها.
لم أعرف إلى اليوم السبب الذي دفع صديقي إلى هذا التصرف. كان أكثرنا عقلًا وأفضلنا خُلقًا. لم أسأله عن السبب، ولم نستغرق في هذا الحديث كثيرًا، لكنني بعد سنوات طويلة، قلت إنه ربما استند إلى حالة التسامح أو التساهل مع المخطئين التي تواكب تلك التجمعات الاحتفالية "صلوا على النبي يا جماعة احنا في عيد".
خارج أسوار العالم
ما زلت في ميدان روكسي.. المراهقون، حديثو العهد بالمراهقة مثلي، متباينون إلى حد كبير. لم أرَ هذا الاختلاف من قبل في المدرسة أو المنطقة. ولم أكن أفهم أسبابه حينها.
الجميع يرتدي ثيابًا جديدة لكن هناك من تبدو ملابسه، على حداثتها، رديئة. هناك أيضًا قصّات شعر غريبة يحرص عليها بعض الذكور (لم تكن بالتأكيد، كما هو الحال الآن) وهناك فتيات يرتدين ملابس ليست فقط جديدة لكنها أيضًا غريبة. لم أرَ في أي مناسبة هذا "الميكس" الغريب من الألوان والتصميمات إلا في خروجة العيد. أذكر أنه كان منتشرًا في هذا العام "السلوبيت" الجينز كرداء رسمي للبنات، وبلوفر عمرو دياب الشهير في أغنية تملي معاك (2000) كان منتشرًا بشكل جنوني في هذا العيد.
في تلك اللحظات، حين تقتحم عالمًا جديدًا، لم تكن لسذاجتك وقلة خبرتك وحرص أهلك على ألا تخالط أحدًا لا يشبهك، تعرف عنه أي شيء.. وقتها لا تشعر فقط بالجهل أو الخوف لكنّك تشعر أيضًا بتضاؤل قيمتك. أنت جزء صغير من عالم محدود. وهناك، على بعد كيلومترات قليلة، عوالم أخرى لا تفقه عنها شيئًا.
وقتها، لم أكن قادرًا على فهم وقراءة الأمور بتلك الطريقة. تسرّب إلى داخلي إحساس بالخوف من تلك التجمعات التي أرى فيها "عالم غريبة".
قاموس الفتاة المهذبة
في خروجة عيد أخرى، أظنها بعد الأولى بنحو عامٍ، كانت هناك فتاتان جميلتان جذبتا الأعين والألسنة أيضًا. تعرضتا لمعاكسات بالجملة (لم يكن وقتها لفظ التحرش قد أدرج في ثقافتنا الشعبية) فجأة، ويبدو أن أحد الشباب بالغ في المعاكسة، فقررت إحداهما أن تلقنه درسًا قاسيًا. بدأت وصلة من السباب. قاموسها كان متخمًا بالألفاظ البذيئة. وبين الألفاظ تتزاحم الأصوات من أنفها.
ابتعد الشاب والسباب يلاحقه. لكنّه لم يتلقَ وحده هذا الدرس القاسي، أنا أيضًا تلقيت معه دروسًا ليس من بينها أن الجمال جمال الروح، وأن النساء يلجأن لمثل تلك الطرق لحماية أنفسهن. لم أكن وقتها أهتم بكل هذا. الدرس الأهم أن هناك أيضًا صنف آخر من البنات يسبُ ويلعن ويتفوه بألفاظ كنت وقتها أستحي منها، هناك فتيات لا يكتفين بــ"يا حمارة ويا جزمة ويا كلبة" وغيرها من الألفاظ الخارجة في قاموس الفتاة المهذبة.
وقتها، عقّب صديق على هذه الفتاة التي دافعت عن نفسها قائلًا "بنات بيئة". وكلمة بيئة كانت أول كلمة أسمعها في إشارة للتمييز الطبقي واحتقار من هم دوننا ماديًا واجتماعيًا. وهذه الكلمة ستكون من المُفضلات في قاموسي الشخصي في السنوات التالية.
على السلّم
يتطور فهمنا لذواتنا بمرور السنوات. ندرك من نحن، وإلى أي طبقة ننتمي، وكيف نتعامل مع أبناء الطبقات الأخرى. الطبقة الوسطى أحد عيوبها الرئيسة أنها لا ترى سوى نفسها. ولا تحب إلا نفسها. تقول دائمًا إنها أفضل من غيرها وتسرد للتدليل على ذلك أوهام وضلالات لا تُحصى، بعضها يذم الغِنى ويمتدح الفقر، والبعض الآخر على النقيض. المهم أننا الأفضل لأننا في منتصف الطريق، نحن أهل الوسط.
بدأت أميل إلى العزلة في الأعياد. ترسّخت لديّ قناعة أنني قادر على أن أخلق عالمًا صغيرًا أدور في فلكه طوال العام: أحدد من أقابله، أين سنذهب، ماذا سنأكل إلى غير ذلك، لكن حين يأتي العيد تتغير تلك القواعد بالجملة. هناك وجوه جديدة أنفر منها. تنطلق وكأنها في سباق محموم لتحتل الشوارع والميادين. تفرض كلمتها ويعلو صوتها فوق أي صوت آخر.
هذه الوجوه لا تشبهني ولا أشبهها. أنا بالنسبة لهم، ولو لم ينطقوا بذلك، عيل فرفور. وهو بالمناسبة نفس الوصف الذي أطلقه أنا على أبناء الأثرياء. وهم بالنسبة لي "شوية عيال بيئة".
الاقتراب من الفرافير
كان نفر من أصحابي قد أدركوا الحقيقة مبكرًا. وكان العيد فرصة مثالية للفرار من العاصمة. وبعيدًا عن السفر لزيارة الأقارب، كان الغالبية يفضل الذهاب إلى الساحل الشمالي أو أي مكان ساحلي آخر. وكانوا ينتقون أماكن تبعدهم قدر المستطاع عن "العالم البيئة" وتقربهم أكثر وأكثر من هؤلاء الفرافير.
أذكر عقب أحد الأعياد، وكنت وقتها بالثانوية العامة، كان صديق يكبرني بعامين أو ثلاثة يحكي لنا عن المبالغ الخرافية التي تكبدها أثناء وجوده بإحدى القرى السياحية لأنه نسى بعض ملابسه بالقاهرة، واضطر لشراء ملابس جديدة من هناك. كان يتحدث بإعجاب عن هذا العالم الآخر الذي رآه هناك، ويقارن بينه وبين "المناظر الغلط" اللي بنشوفها هنا في الأعياد.
صارت العزلة إذن هي الحل المثالي للعيد. وبدأت تظهر عادة انتشرت بين أصدقائي الذين يتواجدون بالقاهرة ولا يفضلون السفر في الأعياد. هي الانطلاق إلى الشوارع في اليوم أو اليومين التاليين للعيد. غالبًا تمتد إجازة العيد نحو أسبوع. وصار معتادًا أن أسمع أننا سوف نخرج "خامس يوم العيد". والعلة من وراء هذا التأخير هو التخفف من الزحام، وضمان أن تكون هذه الوجوه قد اختفت أو قلّ عددها بشكل كبير
أنت ضئيل
الإحساس بالخوف، وأنك ضئيل وجزء صغير من عالم منغلّق على نفسه، لا يفقه شيئًا عن الآخرين.. هذه المشاعر التي ولّدتها خروجات العيد لديّ باغتتني مرتين.
الأولى، حين قررت وأنا طالب جامعي أن أقتطع بعضًا من وقتي في إجازة الصيف لمساعدة أحد أقربائي في عمله الخاص. وقتها وجدت صعوبة في التعامل. كانت هناك نظرة ابتسامة بها خبث لا يخفى من العمّال والصنايعية الذين يتعاملون معي. هذه النظرة لم أفهم معناها إلا بعد سنوات: إيه اللي جابك هنا يا ابني.
والمرة الثانية، كانت في أول يوم عمل رسمي بعد تخرجي من الجامعة. أصبحت مضطرًا للتعامل مع وجوه مختلفة، من طبقات مختلفة، كل منهم يحمل إرثه الشخصي، يدركون من النظرة الأولى أنني طرّي العود، لم يُقذف بي إلى الشارع مبكرًا.
قلت لنفسي بعد سنوات من العمل أن خروجات العيد تلك، على قسوتها، كانت بروفة أولى ناجحة للخروج من المجتمع الصغير الذي أحيا بداخله، إلى المجتمع الكبير الذي أجهله، ولولاها لكانت الصدمة قاسية. أعرف أصدقاء بالغ آباؤهم في التضييق عليهم خلال مراحل الطفولة والمراهقة، لم يعرفوا شيئُا عن المجتمع الكبير الواسع بطبقاته وأصنافه. هؤلاء، وبعضهم يعمل منذ 10 أعوام أو أكثر، ما زال عاجزًا عن التعامل مع المختلفين عنه، يشعر بالصدمة والحسرة طوال الوقت، ويشتكي من "الناس الغريبة" التي يراها كل يوم.
الابتعاد مسرعًا
في العيد الماضي، عيد الفطر، قررت أن أخرج لمقابلة صديقة. وأظن أنني لم أخرج للقاء أحد في العيد منذ نحو 10 أعوام. حاولت أن يكون الخروج مبكرًا نسبيًا قبل الغروب بفترة كافية. كنّا في اليوم الأول من العيد.
ظننتُ، وبعض الظن إثم، أن الزحام لن يكون شديدًا. وقلت لنفسي إنني أصبحت الآن، وبعد هذا العمر، قادرًا على التعامل مع غيري من أبناء الطبقات الأخرى، خاصة أن أغلبهم سيكون من المراهقين وأنا في نظرهم "عمو".
تقابلنا، وتوجهنا إلى الأوبرا، كان علينا أن نمر على كوبري قصر النيل. كان الزحام رهيبًا. آلاف على جسر صغير. أسير وإلى جواري صديقتي.
لا مجال الآن لتفحص الوجوه. ولا مجال أيضًا لمتابعة قصات الشعر الغريبة، الشيء الوحيد الذي لفت انتباهي هو عدد المصورين الذين يحملون كاميرات احترافية، ويعرضون على المارة تصويرهم بمقابل مادي.
كانت صديقتي تفهم الأزمة. نحن في وسط جمع بشري لا يشبهنا. نتفادى نظراتهم، ونحاول الابتعاد عنهم قدر استطاعتنا. سرنا مسرعين. قطعنا الكوبري في دقائق قليلة، نَصمَُ آذاننا عن أي كلمة ولو استطعتنا لأغلقنا أعيننا أيضًا. عبرنا الكوبري ذهابًا وإيابًا بنجاح لكنني فشلتُ.. فشلت أن أتخلص من تلك المشاعر القديمة؛ الخوف الذي يدفع للكراهية. وتضاعف داخلي الشعور بالغربة.. عن هؤلاء الذين احتلوا العاصمة، وعن أولئك الذين ينفقون الآلاف هربًا منها.