شكاوى من حوادث تحرش في مكان عام أو داخل مقر عمل، تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي بين مئات وربما أكثر، خاصة لو كان المتّهم شخصية عامة، تثار ضجة حول الواقعة وتُطرح أسئلة وتُكوّن مواقف تتناقض بين دعم الضحية والتشكيك في روايتها للأحداث.
تمر الواقعة دون أن تُحدث تغييرًا ويبقى الحال على ما هو عليه حتى تُثار حادثة أخرى بوقائع جديدة؛ خلق تكرار تلك الحوادث في الآونة الأخيرة نقاشات حول ما يجب اتخاذه من إجراءات لضمانة بيئة عمل آمنة للنساء عبر سياسات مؤسسية تكفل لهن الحماية، أيًا كانت المؤسسة وطبيعة النشاط الذي ينخرطن فيه.
إشكالية التعريف
يُثير النقاش حول ضمانات العمل الآمن للنساء جدلًا آخرًا حول ماهية التحرش وتعريفه باعتباره "شىء مُبهم"، كما وصفه مؤخرًا بيان صادر عن مؤسسة سينما زاوية التي كانت مسرحًا لواقعة انتهت للاتهام بـ"التحرش الجنسي".
بعد اعتذار زاوية في بيان لها على فيسبوك وإعلانها تحمل المسؤولية كمؤسسة في اختياراتها شرحت المؤسسة أن "الواقعة في البداية لم تكن واضحة إذا كانت تحرش أم لا بسبب التعريفات المبهمة للكلمة في السياق القانوني لمؤسسات كثيرة"، نص البيان على "إحنا مش فاهمين الاستخدام المؤسسي للكلمة ومكناش عايزين نظلم حد" وأضاف البيان "كان موقف غلط جدًا من ناحيتنا وفعلًا أسفين لأن بعد تفكير ومراجعة إحنا بنقول أن الواقعة تصنف كتحرش لأن الفعل لم يتم بموافقة الطرفين".
لم ترضى هذه الجمل جمهور السينما الذي هاجم في تعليقاته بيان المؤسسة حول إدعائها بغموض تعريف كلمة التحرش.
ترفض عزة كامل، كاتبة ورئيس مجلس أمناء مؤسسة وسائل الاتصال من أجل التنمية "أكت" ما يقال عن غموض تعريف التحرش، قائلة "فيه تعريف واضح وصريح، وبالتالي الجدل بلا معنى، وغالبًا بيكون محاولة للتعتيم على الواقعة وإيجاد مخرج".
تتفق معها إلهام عيداروس، وكيل مؤسسي حزب العيش والحُرية، الذي يجري العمل داخله حاليًا على وضع لائحة سياسات ضد التحرش، وتقول "التعريف واضح في القانون منذ 2014، حتى ولو كنّا ضد بعض جوانبه، لكن لا يوجد ما هو غامض أو مبهم كما يدّعي البعض. وببساطة، الفيصل هو قبول الطرفين. لكننا اعتدنا في أغلب النقاشات الدائرة حول القبول أن نواجه برد فعل يدفع في اتجاه السخرية وتمييع القضية".
وعن أوجه اعتراضاتها على التعريف القانوني، ذكرت عيداروس للمنصّة أن "المشكلة في عبارة (بغرض الحصول على منفعة)، فغرض الجاني هنا لا يعنيني في شيء، والفعل لابد وأن يُجرّم أيًا كان هدفه سواء كان متعة أو إذلال أو ابتزاز".
كان هذا نفس منطق بيان سينما زاوية الذي أردف "من باب الشفافية للأسف لا يوجد في زاوية سياسات تحرش، سنعمل على سياسة داخلية للمكان وبعدها كل العاملين في المؤسسة هيمضوا على اقرار إنهم ملتزمين بسياسات زاوية بخصوص التحرش وقواعد التعامل عموما في المكان".
ودعى بيان المؤسسة "الجهات المعنية بالقضايا النسوية وقضايا التحرش أن يعملوا على توضيح آليات التحقيق بشكل مكتوب لأنه هيساعدنا كلنا على الالتزام بمعايير متفق عليها من غير ما يكون لازم نعتمد على آراء من أطراف مختلفة كلهم عندهم خبرة لكن في نفس الوقت بيقولوا حاجات عكس بعض".
ترى ندى نشأت، منسقة الدفاع بمؤسسة قضايا المرأة، أنه صار ضروريًا، في ظل الحوادث الأخيرة والاختلافات في الرأي حولها، فتح النقاش بين النسويين والنسويات على اختلاف مدارسهم من أجل وضع تعريفات وقواعد وآليات للتحقيق والمحاسبة سواء لمن يُدان بالتحرش أو يدّعي كذبًا تعرّضه للتحرش على حد سواء".
وأضافت نشأت للمنصّة أن "بعض السلوكيات تندرج تحت عدم اللباقة وتستلزم اعتذارًا رسميًا، لكنها ليست تحرش"، مُستدركة "لكن في غالبية الوقت يتم الإسراع إلى اعتبار اﻷمر تحرشًا".
وحذّرت الناشطة النسوية من أن الإفراط في توجيه اتهام التحرش في غير محلّه "قد يؤدي مع الوقت للتشكيك في مصداقية الشكاوى وربما خسارة التعاطف المجتمعي، والتقليل من احتمالية إفصاح الضحايا عما يتعرضون له خوفًا من التكذيب".
تتفق معها كامل، وتقول "أحيانا يتعرض رجال للظلم، ما يعني حتمية التأكد، لاسيما في ظل ما يحدث على السوشيال ميديا من تهويل في بعض الأحيان".
قواعد مؤسسية
بيان زاوية الذي اعتبرت تعريف التحرش "مُبهم"، هو نفسه الذي كشفت فيه المؤسسة عن أنها تعمل على وضع لائحة سياسات ضد التحرش، ﻷنها لا تمتلك واحدة.
يرى فتحي فريد، مُنسّق مبادرة "أمان" لمناهضة العُنف الجنسي، أن الآليات التي تحمي النساء من التحرش في أماكن العمل "غائبة عن مصر، باستثناء أماكن محدودة جدًا، أغلبها دولي".
لكن، هناك مؤسسات مصرية بدأت بالفعل في اتباع إجراءات وقائية ضد التحرش.
أحد هذه المؤسسات هو حزب العيش والحرية، الذي كشفت وكيل مؤسسيه، للمنصّة، أن بعض المسودات الأولية للائحة بدأت في الصدور منذ أكتوبر الماضي، وأن العمل جارٍ حاليًا لإنجازها في صورتها النهائية.
بينما يعمل "العيش والحُريّة على وضع لائحته، كان لـ"أكت" لائحة معمول بها بالفعل منذ عام ونصف تقريبًا، حسبما كشفت عزة كامل للمنصّة.
واعتبرت كامل سن اللائحة "أمرًا يسيرًا، ويُفترض وجوده داخل المؤسسات"، في ظل "التقدّم على المستوى العالمي في مكافحة التحرش، وتوافر المرجعيات التي لن تجعل من وضع السياسات أمر صعب".
في 21 يونيو/ حزيران الماضي، اعتمدت منظمة العمل الدولية اتفاقية القضاء على العنف والتحرش في أماكن العمل 190 لسنة 2019، بهدف خلق بيئة عمل آمنة للنساء والرجال.
في منظمة قضايا المرأة، حيث تعمل ندى نشأت، كان لسياسات مناهضة التحرش وجود، بل أن المؤسسة قررت التوسّع في التعامل مع المفاهيم المختلفة للتحرش "لائحتنا لا تقصر التحرش على الجنسي فقط، بل والمهني بأي مضايقات بين زملاء العمل أو حتى العنصري".
عن مثل هذه اللوائح وما يجب أن يتوافر بها، يقول فريد "لابد وأن تكون تشاركية وإن كانت الغلبة فيها للسيدات. لكن اﻷهم، هو أن يكون لدى المؤسسة نيّة وسعي حقيقيين لتطبيقها على كل العاملين دون أي اعتبارات للمناصب، وأن تضمن الاستعانة بأجهزة المراقبة والتتبع منعًا للبلبلة أو اللغط".
إجراءات أخرى
ترى ندى نشأت ضرورة تطبيق للوائح في أماكن العمل تضمن تعريفًا للتحرش وإجراءات للتثبت من وقوع الفعل في حالة الشكوى وتشكيل لجنة التحقيق ومساراته والعقوبات سواء ضد المُدان بالتحرش أو بالادّعاء الكاذب، وضمانات لحماية الشاكية. واﻷهم، بدء حملات توعية".
تؤكد عزة كامل أنه بجانب أهمية أن تُشجع الدولة المؤسسات سواء حكومية أو خاصة لوضع سياسات ضد التحرش، لابد أيضًا أن تطلق بالتوازي حملات توعية في المدارس والجامعات ومختلف المؤسسات، مع تفعيل قانون مناهضة التحرش.
في المقابل، يرى فتحي فريد أن العبرة ليست باللوائح المؤسسية والقوانين فقط "المهم وجود إرادة حقيقية، فاﻷمر ليس وضع قواعد وقوانين، فنحن لدينا بنية تشريعية تُجرم هذا الفعل، وسبق أن خصصت وزارة الداخلية وحدة لمناهضة جرائم العنف ضد المرأة. لكن في النهاية، هل لدى النساء الاستعداد لخوض معركة من أجل نيل حقهم ومعاقبة المتحرش؟ وهل لدينا الإرادة كمؤسسات وأفراد للالتزام بتطبيق اللوائح والقوانين؟".
أما إلهام عيداروس، فلفتت إلى ضرورة حل مشكلات مجتمعية، خاصة المتعلقة بمفهوم القبول "لابد من التخلص من موروثات ثقافية مثل (يتمنعن وهن راغبات) التي تولّد إلحاح وضغط من الرجال على النساء، و(السكوت علامة الرضا) ﻷنه قد يكون علامة خوف من سلطة للمتحرش عليها، فهناك سياقات ومواقف لا تتيح للضحية الرفض".
واختتمت عيداروس بقولها "ونحتاج أيضًا إعادة تعريف للفعل وحدوده، فالموافقة لابد وأن تكون مرتبطة بالفعل واللحظة فقط ولا يجب اعتبارها مطلقة وتسمح بتكرار الفعل، كما أنها لا تعني الموافقة على الفعل بالكامل، كما يجب التخلّص من أسئلة السياقات كالمتعلقة بالضحية ومظهرها، إذ أنها أسئلة تفترض بالضرورة وجود سيدات موافقات بالضرورة وطيلة الوقت على الفعل الجنسي".