في فيلمه الوثائقي سيكو، يجري المخرج الأمريكي مايكل مور مقابلات مع أمريكيين لجأوا إلى شركات التأمين الصحي الخاصة لأنهم غير مستفيدين من منظومة التأمين الحكومية. توضح هذه المقابلات أن هذه الشركات أقرب ما تكون إلى عصابات المافيا.
لدى هذه الشركات محققين مهمتهم هي التفتيش في التاريخ الطبي للمريض حتى يقعوا على خطأ ما في تاريخه المرضي يسمح لهم برفض تغطية نفقات علاجه إذا ما احتاج أي خدمة صحية. عن طريق هذه السياسات تراكم هذه الشركات أرباحًا بالملايين.
ينتقل مور إلي بريطانيا حيث تختلف الصورة تمامًا. هناك، يخبره طبيب بريطاني أنه يتقاضي مكافأة إذا انخفض ضغط الدم أو إذا تحسنت حالة مريض مستوى الكوليسترول في دمه مرتفعة، ويخبره أيضا أن لديه شقة متميزة مريحة وسيارة حديثة ويسكن حيًا راقيًا ويضمن معاشًا كريمًا بعد التقاعد، لذلك فهو يفضل العمل للحكومة.
فتح الفيلم الذي ترشح لجائزة الأوسكار كأفضل فيلم وثائقي عام 2008، بابًا للنقاش حول سياسات الرعاية الصحية الأولية والتي تعرفها منظمة الصحة العالمية بأنها نهج خاص بالصحة والعافية يتعلق "بتوفير خدمات الرعاية الكلية للفرد لتلبية احتياجاته الصحية طيلة العمر ولا تقتصر على علاج مجموعة من الأمراض المحددة".
وترتبط الرعاية الصحية الأولية بمفهومها الذي توضحه المنظمة الأممية، ارتباطًا وثيقًا بالعوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية والثقافية والشخصية التي تحدد التباين أو الحالة الصحية للمجموعات السكانية. تتشكل هذه الظروف من خلال توزيع المال والسلطة والموارد على المستويات المختلفة.
في البحث عن النظام الأمثل
في كتابه في البحث عن النظام الصحي الأمثل، يقدم مارك بريتنل، وهو رئيس ممارسات الصحة العالمية في شركة KPMG، مدخلًا شيقًا لمفهوم الرعاية الصحية بتعقيداته، إذ يوضح أن الرعاية الصحية هي بناء اجتماعي وثقافي مثلما أن النظام الصحي لأي بلد يعكس تاريخه وثقافته وفكر النخبة الحاكمة به والكيفية التي ينظرون بها إلى شعوبهم، ومدى قوة المجتمع وقدرته على إلزام السياسيين بتحقيق التغطية الصحية الشاملة لكل المواطنين.
يدفع بريتنل بأن إصلاح النظام الصحي يرتبط بحركة تغيير اجتماعي وثقافي شامل في البلد، ويشكل واحدًا من التحديات الأساسية للنظام السياسي في الدولة.
كما يوضح أيضًا أنه في كل مرة حصل مواطنو أي دولة على رعاية صحية شاملة، كان الأمر مرتبطًا بقيادة سياسية راغبة في تحقيق ذلك مع ظروف اقتصادية واعدة، مع تواجد عناصر أخرى من شأنها أن تضمن التنفيذ بشكل جيد، إلا أن العملية السياسية هي وحدها القادرة على تحديد الطريقة التي يقرر بها البلد تحديد أولوياته.
يوضح الكتاب أن الكثير من المعلقين وصانعي السياسات يعتقدون أن الرعاية الصحية الشاملة فكرة حان وقتها. من البنك الدولي إلى الأمم المتحدة وصولاً إلى منظمة الصحة العالمية. يمكن للناس أن يشيروا بحق إلى الفوائد الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية لهذا المفهوم، والتي تعرفها منظمة الصحة العالمية على أنها "الوصول إلى التدخلات الصحية التعزيزية والوقائية والعلاجية والتأهيلية للجميع في بتكلفة معقولة، وبالتالي تحقيق الإنصاف في الوصول للخدمة الطبية، والعدالة في توزيعها ".
يقول المدير العام لمنظمة الصحة العالمية إن الرعاية الصحية الشاملة "هي المفهوم الأقوى والأكثر قوة الذي يجب أن تعمل على تقديمه منظمة الصحة العالمية"، بينما تشير التقديرات إلى أن ما يقرب من 40% من دول العالم لديها رعاية صحية شاملة وأن العامل الحاسم في توفير التغطية الصحية الشاملة في رأي المؤلف هو وجود الإرادة السياسية.
كمثال تطبيقي، أصبحت هذه القضية مطروحة في مصر عقب ثورة 25 يناير، مع انفتاح المجال السياسي وتصاعد مطالب الثورة (عيش حرية وعدالة اجتماعية) إلى الصدارة. وعندما اجتمع مجلس الشعب المصري بأغلبيته الإخوانية بعد الثورة ناقش مشروعًا لقانون التأمين الصحي الاجتماعي الشامل، ولكن هذا المشروع قوبل بانتقادات عديدة وقتها.
لاحقًا، وبعد الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي، نص دستور 2014 على الحق في الصحة في المادة 18، وهي المادة التي أجبرت الدولة على سن قانون للتأمين الصحي الشامل، وهو ما فعله مجلس النواب في 2017 .
كان ينبغي أن يبدأ تطبيق القانون في يوليو 2018، غير أن أزمات مثل عدم جاهزية المستشفيات ونقص عدد الأطباء، دفعت للتساؤل حول جدية النظام السياسي في تطبيق هذا القانون، أو على الأقل قدرته على تطبيقه.
ماذا فعل الآخرون؟
يضع بريتنل في الكتاب خلاصة مسيرة مهنية امتدت لأكثر من 20 سنة في دول كثيرة حول العالم. يذكر في الكتاب أنه غالبًا ما كان يتساءل عن الدولة التي لديها أفضل نظام صحي وأفضل رعاية، قبل أن يخلص إلى أنه لا يمكن الحديث عن نظام صحي مثالي، إذ تملك كل بلد نقاط قوة في نظامها الصحي.
يذكر مثلًا أنه مدين للنظام الصحي البريطاني الذي أنقذ حياته وحياة والدته. وفي حديثه عن النظام الصحي الأسترالي يشيد بتعامل المؤسسات الصحية هناك مع الأمراض النفسية والعقلية. وفي الولايات المتحدة يشير إلى قوة أقسام البحث والتطوير هناك ونجاح نظام ربط الابحاث في الجامعات والمراكز العلمية بالتصنيع.
أما في الهند فيثني على شركات الدواء التي تمتلك "سرعة وابتكار في التعامل مع ملف الأدوية الجنيسة بطريقة متميزة وفريدة"، وما لفت انتباهه في سنغافورة نظام المعلومات والتكنولجيا الطبية وكفاءة وتطور نظام المعلومات الطبية وتوافر نظام الكتروني طبي دوائي محكم ومتطور بشدة يسهل على المسؤولين هناك اتخاذ القرارات و رؤية النظام الصحي بطريقة اشمل واعم اعتمادا على البيانات والتكنولجيا. وفي فرنسا اشار لمدى عناية النظام الصحي هناك بحرية الاختيار للمريض، فالمريض هناك لديه الحق في اختيار طبيبه ومكان علاجه. وفي اليابان اشار لتفرد التجربة اليابانية في رعاية كبار السن.
ولكن الكتاب تناول أيضًا تجربتين ملهمتين في دولتين ناميتين، هما البرازيل وكوبا.
التجربة البرازيلية
يتكون النظام الصحي في البرازيل من شبكة معقدة من موفري الخدمات ومشتريها في تعاون وتنافس متزامنين، يشكلان في نهاية الأمر مزيجًا مذهلًا من الخدمات الخاصة والحكومية تمولها مصادر حكومية. يقر القانون البرازيلي على الحقوق الاجتماعية الشاملة للمواطن بما فيها أحقية الرعاية الصحية التي تلتزم الدولة بتوفيرها فعلًا.
يعد النظام الصحي الموحد في البرازيل (SUS) ، الذي تم تأسيسه بموجب دستور عام 1988، أحد أكبر أنظمة الصحة العامة في العالم. ويهدف إلى توفير رعاية صحية شاملة تستند إلى مبدأ الصحة كحق للمواطن وواجب ملقى على عاتق الدولة. الخدمات الصحية تمولها عوائد الضرائب العامة.
الرعاية الأولية هي العمود الفقري للنظام الصحي. يعمل برنامج صحة الأسرة (PSF) من خلال فرق طب الأسرة التي تتألف عادة من طبيب وممرضة ومساعد وستة من العاملين في مجال الصحة المجتمعية. يتم تخصيصهم لعائلات محددة (حوالي 1000 عائلة لكل فريق)، وتركز بشكل خاص على دعم المجتمعات الفقيرة في الأحياء الفقيرة على أطراف المدن وفي الريف.
تحظى جودة وتأثير بعض البرامج الصحية الوطنية في البرازيل بإعجاب دولي ، مثل برامج التحصين ومكافحة التبغ والإيدز ، مع إمكانية الوصول المجاني إلى الأدوية المضادة للفيروسات. تتمتع البرازيل بأحد أعلى معدلات التطعيم في العالم ، والتي كانت مفتاح الانخفاض الكبير في وفيات الرضع والأطفال. أدى التوسع السريع في الرعاية الأولية إلى انخفاض عدد الأشخاص الذين يبلغون عن صعوبات في الحصول على الرعاية .
أطباء كوبييون
يحكي بريتنل في كتابه كيف تعاملت السلطات الكوبية سريعًا مع مشكلة نقص الأطباء، وهي مشكلة، بحسب الكتاب، تواجه أنظمة صحية عديدة.
تعاملت هافانا مع المشكلة من خلال نظام سمّته المزيد من الأطباء (Mais Médicos)، واستند على توظيف أطباء محليين وأجانب للعمل في المناطق الفقيرة والنائية. بحلول نهاية عام 2014 ، كان هناك حوالي 15000 طبيب جديد، ربعهم تقريبًا من غير الكوبيين. في يناير/ كانون الثاني 2015 أعلنت الحكومة عن موجة جديدة من توظيف الأطباء من الخارج. مرة أخرى يستهدف التعيين ملء فراغ المناطق النائية .
كما أعلنت الحكومة عن كليات طبية جديدة لتدريب الآلاف من الأطباء الإضافيين. قد تؤدي هذه الزيادة في أعداد كليات الطب إلى إضافة 36000 طالب عامل إلى النظام بحلول عام 2021.