يا لها من لحظات قاسية. عندما أطلع على نتيجة مزرعة صديدية، من جرح بمريض، وأجد أن البكتيريا قادرة على مقاومة ما يزيد عن 90% من أنواع المضادات الحيوية المختلفة، واﻷكثر قسوة عندما تكون أنواع المضادات الحيوية القادرة على قتل البكتيريا ذات تكلفة باهظة، في بلد يعيش الغالبية من سكانه تحت وطأة الفقر. في تلك اللحظات نقف عاجزين أمام البكتيريا.
لا أخفي عليكم كيف يكون الأمر صعبًا عندما أجد العلامات الحمراء تملأ صحيفة نتائج مزرعة الصديد ، كل علامة حمراء تدل على أن البكتيريا قادرة على مقاومة نوع من المضاد الحيوي، وكلما زادت العلامات الحمراء كلما ارتجف قلبي خوفًا من أن يكون المضاد الحيوي باهظ الكلفة أو غير متوفر في الصيدليات المختلفة، أو يستدعي الوجود في المستشفى، فضلًا عن المصيبة الكبرى، وهي القدرة الشرسة المتزايدة للبكتيريا على مقاومة المضادات الحيوية بشكل متسارع يدعو للحذر.
مشهد يومي
أذكر الأسبوع الماضي عندما رأيت إحدى مزارع الجروح وقد امتلأت الصحيفة بالعلامات الحمراء في غالبها، في حين أن المضاد الحيوي الفعّال تبلغ كلفته ما يزيد عن 600 جنيه يوميًا، فضلا عن كلفة متابعة الجرح بمتطلباته اليومية، من المطهّرات والمراهم وغيرها، والتي قد تصل يوميًا إلى ما يقارب الألف جنيه، لن أنسى لحظة وقوف ولد المريض أمامي حائرًا في كيفية تدبير هذه الأموال لعلاج جرح لوالده.
الطامة الكبرى أن ذلك المشهد يتكرر يوميًا. إنها مصيبة تطل برأسها علينا ويجب على الجميع أن ينتبه لها، حتى لا تأكل الأخضر واليابس، أكثر شيء يخيفني أن يأتي اليوم الذي لا نستطيع فيه كتابة المضادات الحيوية للجروح العادية.
البكتيريا تزداد شراسة
العام الماضي أجريت دراسة في المستشفى الذي أعمل به، تحت اشراف قسم الصيدلية الإكلينيكية، على مرضى جروح القدم السكري. ووجدت الدراسة أن واحدًا من أشهر المضادات الحيوية، وصلت فعاليته إلى ما لا يزيد عن 5% ، والمخيف أن هذه الأرقام تنخفض يومًا بعد يوم.
مجموعة البرد
واﻷسباب التي تزيد من قدرة البكتيريا على مقاومة المضادات الحيوية هي عدم إكمال الجرعات الموصوفة عند الشعور بالتحسّن، ﻷن التحسن يدل على إنهاك البكتيريا وليس القضاء عليها، وتناول المضادات الحيوية دون وصفة طبية.
وكذلك الاستمرار في تناول المضادات الحيوية لفترة أطول من الفترة المقررة، وإفراغ المضادات الحيوية من الكبسولات ووضعها على الجروح، وأخيرًا ما يسمى مجموعة البرد التي تباع في الصيدليات، وتحتوي على مضادات حيوية هي عبارة عن قنابل موقوتة، نذوق ويلاتها في الأيام الحالية.
مسؤولية اﻷطباء
من الظلم أن يتحمل المريض وحده أعباء هذه المأساة، فنحن الأطباء أيضا نتحمل جزءًا كبيرًا، بوصفنا المضادات الحيوية بكثرة للحصول على نتائج سريعة، أو عدم تحري الدقة في الوصف أو في الجرعات، بل يمتد التقصير في المسؤولية إلى عدم تنبيه المرضى أو مرافقيهم، بأهمية إكمال جرعات المضادات الحيوية، لضيق الوقت، أو لعدم الاكتراث، أو استمرارًا لمسلسل الإهمال في أغلب شؤون الحياة في مصر.
إلحاح المرضى
أيضًا هناك بعض المنغصات في تعامل الطبيب المصري مع المريض، وهي آفة إلحاح المرضى على الأطباء لكتابة المضادات الحيوية، ويصل الأمر في بعض الأحيان إلى الابتزاز، ولسوء الحظ يرضخ بعض الأطباء للمرضى استسهالًا وتجنبًا لنقاشات عديدة، في وقت قد نكون مضطرين فيه لتوقيع الكشف الطبي على عشرات المرضى في ساعات قليلة جدًا.
على الرغم من أن المرض من أكثر الأشياء التي تصيب الإنسان بالإحباط، وتعطِل حياته اليومية، وتعوقه عن الاستمتاع باﻷمور الطبيعية، إلا ان رغبته السريعة في الشفاء قد تودي بنا الى بعض المآسي، مثل هذه قدرة البكتيريا على مقاومة المضادات الحيوية، وهذا الذي يحدث في هذه الآونة.
حتى لا تقتلك المضادات
حتى لا تتحول المضادات الحيوية إلى عقار قاتل، ننصح بعدم تناولها في حالات ارتفاع درجة حرارة الجسم، بل نبدأ أولًا بخوافض الحرارة مثل باراسيتامول، وفي حالة عدم التحسن أو تفاقم الأعرا،ض ليس عليك إلا أن تتوجه الى الطبيب للنصيحة الطبية.
كذلك المضاد الحيوي هو قاتل للبكتيريا، وإذا لم تكمل الجرعة فإن البكتيريا تستطيع أن تفهم كيف يعمل المضاد الحيوي، وتكوِّن أساليبًا مناسبة لصد هجوم المضاد الحيوي، ويصبح تأثير المضاد الحيوي سلبيًا، لأن أي دواء بالطبع له بعض الأضرار على أجهزة الجسم المختلفة.
ومن المهم أن تعرف أنه لا توجد اختبارات معينة، لمعرفة ما إذا كان جسدك قادرًا على مقاومة البكتيريا أم لا، طالما أنت صحيح فجهازك المناعي يعمل بكامل طاقته.
وفي حال تكرار الإصابة بخُرّاج أو وجود جرح مزمن، لابد من عمل مزرعة صديدية تحت إشراف الطبيب المعالج، لوصف المضاد الحيوي المناسب.
وداعي للإلحاح على الطبيب لوصف المضاد الحيوي، فلو كان هناك حاجة لوصفه لفعل ذلك، وبالطبع لا تشتري المضاد الحيوي بنفسك بدون وصفة طبية، أو بناء على نصيحة أي شخص إلا الطبيب.
غياب الدولة
وأخيرًا تتحمل الدولة مسؤولية كبرى في غياب التثقيف الطبي في هذه المسألة، فهناك عدد من الطرق التي يمكن للدولة أن تتخذها لتوعية المواطنين بهذه الأزمة منها إعلانات في الشوارع العامة والمستشفيات الحكومية، بتعليق ملصقات في الأماكن التي يتردد عليها المرضى بشكل كبير، وعمل إعلانات في التليفزيون الحكومي وغيرها من الوسائل، التي تجنبنا المزيد من الخسارات المتوالية.