تصميم: يوسف أيمن- المنصة

لماذا ننسى الكارثة: عن مفارقة تباطؤ الزمن وفقدان الذاكرة أثناء الحوادث

منشور الخميس 8 يوليو 2021

في سن الخامسة، كُنت ألعب مع أصدقائي عند سلم البيت؛ أطفال لا نهتم بشيء سوى اللعب والضحك والاستمتاع، حتى دفعني أحد الأصدقاء المشاغبين فوقعت من الطابق الثاني إلى الأول. من حسن الحظ، لم يحدث لي شيئًا، وقعت على مقربة من حافة السلم، لكن فاجأتني أصوات صاخبة من حولي؛ هرع الجميع للاطمئنان عليّ،  غير أني كنت أتلفت حولي، أبحث عن شيء مفقود لم يره غيري.

بينما كنت أسقط من الأعلى إلى الأسفل، رأيت حبلًا أبيض اللون يسقط بعدي، ظننت، بخيالي الطفل أو ربما بسبب غياب عقلي عن الوعي، أنّ أصدقائي ألقوه حتى ينجدني، تشبثت به بقوة، وربما فرحت به كثيرًا؛ مرّ عليَّ الزمن بطيئًا، وكان المشهد يتبدل من حولي، لم ترَ عيناي السلم، وإنما  الضباب أو بزوغ الفجر الجميل قبل شروق الشمس، كنت أشعر أنني أطير في السماء بين السحاب، شعرت وكأنني في حلم، وبعدما سقطت وعدت للوعي وازدحم الناس حولي، اختفى الحبل فجأة. حكيت لأمي قصته مرارًا، ولكنها كانت تردد "إنها تهيؤات الحادث".

ربما لم أدرك معنى كلمة حادث وقتها، لكني فكرت في ذلك المشهد الممتع كثيرًا.

ظل الأمر يتردد على بالي طوال عمري، بالرغم من مرور زمن طويل، حتى كبرت وبدأت أبحث عن تفسيرات ما جري معي. يثير ما حدث تساؤلات عدة؟ كيف تباطأ الزمن وتبدل المشهد من حولي وسقط حبل لم يره غيري؟ تلك كلها أسئلة تحمل تفسيرًا علميًا.

كيف تشوه الزمن؟ 

في الظروف الطبيعية لا يشعر الإنسان بفارق بين الزمن الواقعي والداخلي، لكن الأمر يختلف في حالات الحوادث. تقترح دراسة بعنوان تباطؤ الزمن أثناء الحوادث نُشرت عام 2012 في مجلة Frontiers، بأنّ تجارب تباطؤ الزمن مرتبطة بارتفاع معدل سرعة الأفكار التي يولدها الدماغ لإنقاذ الموقف المهدد للحياة، ويذهب عالم الجيولوجيا ألبرت فون إلى أنّ 95% من متسلقي جبال الألب الذين تعرضوا للسقوط، أكدوا ازدياد نشاط عقولهم بسرعة كبيرة وتكاثرت أفكارهم واحتد تركيزهم وأعادوا توجيه أذهانهم نحو التصرفات اللازمة لإنقاذ حياتهم، كما أشاروا إلى تمدد الزمن بصورة كبيرة وملحوظة عن المعتاد؛ ذلك حقًا ما جرى لي أثناء السقوط، شعرت بتباطؤ غير طبيعي في الزمن؛ توضح الدراسة أن ثمة حالة من عدم التناسق بين الزمن الفعلي في الخارج والزمن الداخلي تصيب الإنسان، فتنتج حالة أشبه بتشوه للزمن.

 كيف تعثرت؟

يتمتع البشر بغريزة البقاء، تمامًا مثل الكائنات الحية الأخرى، ومن الطبيعي أن يتخذ الجسم موقفًا عندما يتعرض لحادث يهدد حياته. نقلًا عن موقع ساينتفيك أمريكان، يشير تقرير إلى آلية تلك الاستراتيجية في الجسم، حيث يُطلق هرمون الأدرينالين من الغدة الكظرية إلى مجرى الدم، الذي يوجهه إلى العضلات القوية في اليدين والقدمين، باعتبارهم أقوى الأسلحة التي تحفز الجسم على الهروب والنجاة من ذلك الموقف. من ناحية أخرى، يساعد الأدرينالين في تحفيز العصب المبهم (يسمى أيضًا بالعصب الحائر، وهو يمتد من الدماغ إلى العمود الفقري) على تعزيز إنتاج النورادرينالين في الدماغ.

أثناء سقوطي من الأعلى، كان تركيز دماغي على النجاة، وربما سقطت بجوار السلم وليس فوقه مباشرة نتيجة إجراء اتخذه ذهني بسرعة عبر إشارات أرسلها إلى جسدي، ويوضح الأستاذ المتخصص في الأمراض النفسية والعصبية بكلية الطب جامعة طنطا، الدكتور جمال شمة، أنّ "هذا رد فعل انعكاسي، تمامًا مثلما يفعل الإنسان عندما تقترب يده من شمعة مشتعلة، تلقائيًا يسحب يده بسرعة دون تفكير".

من زاوية أخرى، يساعد هرمون النورادرينالين في تنشيط اللوزة الدماغية المسؤولة عن تكوين الذكريات. علمًا بأنه عندما يُفرز النورادرينالين بكمية مناسبة، فهو يعزز الذاكرة. أما في حالة إنتاجه بكميات كبيرة، تضعف الذاكرة أو قد يصاب الشخص بالنسيان. ومن هنا تأتي المفارقة.

.. وآخرون

كانت منار نبيل، وهي طبيبة أسنان سورية، تعبر الشارع عندما رأت سيارة مسرعة باتجاهها، لتجد نفسها فجأة في منطقة تبعد بخطوات عن موقع الحادث فيما ينزف جسدها، دون أن تعرف أو تتذكر كيف حدث لها ذلك.

لكن أحمد حمدي، أخصائي تحاليل طبية وباحث، أدرك أن حادثًا وقع له، لم ينتبه للطريق أيضًا، لكن الوقت على عكس منار، مر سريعًا، وفقد الإدراك للحظات، حتى إنه لم يفهم في أي اتجاه تسير سيارته، وإن كانت قُلبت أم وقفت أم ما زالت مستمرة في السير.

أما المحامية غادة محمد، فمثلي، رأت الضباب ولم تبصر شيئًا سواه، ومر الوقت عليها بطيئًا، رغم رجائها أن يمر بسرعة، تقول "تمنيت أن يخبرني أحدهم بأنّ ذلك حلم وليس حقيقة. كان الناس يتحدثون ولا أسمع شيئًا من فرط الخوف. شعرت بشلل وعجز، ولم أستطع مساعدة ابني".

وفي حالة محمد علاء، وهو مهندس مصري، يقول "لم أشعر بشيء، ولم أركز فيما أرى. مر الوقت ببطء، وكانت المشاهد تمر أمامي كمقاطعِ الأفلام بالضبط. وشعرت بأنّ تفكيري قد توقف، وكنت أنتظر سقوط السيارة والموت." تمامًا كما حدث معي ومع غادة. 

في كل تلك الشهادات السابقة الذين تحدثت المنصة لأصحابها، تظهر مفارقة الشعور بالزمن بطلًا رئيسًا لحكاياتهم، فمنهم من نسي تمامًا لحظة الحادث ومنهم من مرّ وقته بطيئًا ومنهم من لم يدرك الزمن من سرعته، بالرغم من أنهم جميعًا شهدوا حوادث سير، فماذا حدث لهم بالضبط؟

يرى دكتور جمال شمة أن الشخص "قد يشاهد ضبابًا أو ألوانًا غريبة، نتيجة اضطراب في الدورة الدموية المخية، ما يؤثر على مراكز الإبصار في الفص الخلفي للمخ، فيرى الضحية ألوانًا غير واقعية وهلوسات، تسمى بالهلاوس البصرية"، حسبما يقول للمنصة.

أما عن مفارقة تباطؤ الزمن أو النسيان المحيرة، فتشير دراسة أجراها فريق بحثي من جامعة جنوب كاليفورنيا، ونشرتها Behavioral and Brain Science في يوليو/تموز عام 2015،  إلى آلية عمل الدماغ في مثل هذه اللحظات، حيث ينطلق الجلوتامين (ناقل عصبي، يُطلق عند التركيز على شيء ما) ويتفاعل مع النورادرينالين ما يحفز إطلاق المزيد من هذه المواد، وتكون النتيجة تعزيز معلومات الذاكرة ذات الأولوية، وتجاهل الذكريات الأخرى غير المهمة، وذلك بالضبط ما حدث مع منار التي قالت إنها لا تتذكر أي شيء من حادثها.

 

الموضع الأزرق داخل المخ

ويشرح أستاذ  الأمراض النفسية والعصبية أن الجلوتامين والنورادرينالين يساعدان على  تحسين اليقظة والانتباه، ويلعب ذلك دورًا في مفارقة النسيان وتباطؤ الزمن،  بينما يشير إلى عَرَضٍ ثانٍ قد يفسر أحيانًا العواطف التي تصيب الإنسان أثناء الحوادث، قائلًا للمنصة "أثناء الحادث، قد يتسبب الفص الصدغي بالدماغ في إثارة العواطف واسترجاع الذكريات".

الزمن الخادع

عندما سألت دكتور جمال عن شعوري بطول الزمن في حادثتي، قال إنَّ "ذلك إحساس كاذب بطول الوقت" وأضاف أنّ الشخص يشعر بمرور وقت طويل، وذلك ليس حقيقيًا، نتيجة إطلاق بعض الوصلات العصبية مثل الإندورفين Endophine، وهو ناقل عصبي يفرز في عدة حالات مثل الجلوس في الهواء النقي وممارسة الرياضة والقراءة، موضحًا أن "الإندورفين مثل الأفيون الداخلي للمخ، حيث يشعر الشخص بأنّ الوقت الذي مر طويلًا، وهذا ليس إلا تشويش أو عدم إدراك للزمن"، كما أشار إلى شعور الشخص المتعرض للحادث باختلاف الزمن الوهمي الذي يشعر به عن الزمن الواقعي، وقد يعادل التوقيت الفعلي ثلث الوقت الوهمي.

هناك تجربة محاكاة للمواقف الخطرة أجرتها عالمة الأعصاب فيرجيني فان واسنهوف والباحث في علم النفس مارك ويتمان، بأن أجلسا المشاركين أمام شاشة كمبيوتر وطلبا منهم مراقبة الدوائر وتحديد الفترة الزمنية التي ظهرت فيها من خلال زرين أطول وأقصر. في البداية ظهرت ثلاث دوائر متماثلة ثابتة ثم ظهرت الدائرة الرابعة وكانت تبدو أكبر في الحجم وكأنها تقترب من المشاركين، ثم طلبا منهم تحديد الفترة الزمنية التي ظهرت فيها الدائرة الرابعة، وكانت النتيجة أنهم اختاروا زر "أطول" على الرغم من أنّ هذه الدائرة متساوية في زمن الظهور مع الدوائر الثلاثة من قبلها، ما يعني أنهم شعروا بتهديدٍ ، ولو كان طفيفًا بعض الشيء، ما جعلهم يعيشون تجربة تباطؤ الزمن.

بعد ذلك، أراد الباحثان معرفة مناطق الدماغ التي تنشط أثناء هذه التجربة، فاستخدما ماسح الرنين المغناطيسي الوظيفي FMRI، حيث تزداد كمية الأكسجين في مناطق الدماغ التي تشارك في أداء وظيفة ما، فيستطيع الماسح المغناطيسي التقاطها. مثلًا، عندما يركز الإنسان على سماع شيء ما، تزداد كمية الأكسجين في المناطق التي تشارك في هذه المهمة، كذلك في حالات الشعور بالتهديد أو الخطر، تنشط مناطق محددة في الدماغ، وأثناء التجربة، استطاع الباحثان تحديدها كما في الصورة التالية.

 

صورة توضح أثر التجربة على المخ

المناطق (1،2): ارتفع نشاطها عندما اقتربت الدائرة على الشاشة، بينما انخفض نشاط المناطق (3،4،5). والمنطقة (1) هي القشرة الحزامية، بينما المنطقة (2) هي القشرة الأمامية العليا. وفقًا لما كتبه الباحثان في التقرير، فقد أشارت العديد من الدراسات إلى أنّ القشرة الحزامية تنشط عندما يكون للمحفزات (اقتراب الدائرة مثلًا) تأثير ما على الشخص، تمامًا مثل حالة اقتراب الدائرة من المشارك، فهو يشعر بأنها مصدر تهديد له، لذلك تنشط هذه المنطقة، ويشعر بتوسع الزمن.

لماذا ننسى؟

يشرح الدكتور شمة المسألة بتفصيل أكبر، ويقول للمنصة إن "هناك منطقة في المخ، تُسمى قرن آمون أو الحُصين Hippocampus، وهي مسؤولة عن الذاكرة، وتتأثر في الحوادث، إذ يقل حجمها، وما أن يعود الشخص لحالته الطبيعية، تنشط هذه المنطقة من جديد وترجع إلى حجمها الطبيعي، وتُسمى هذه الحالة بلدونة المخ"، مشيرًا إلى أنّ الدماغ يتبع هذه الاستراتيجيات لتخفيف وطأة الحدث، وهذه كلها وسائل دفاعية.

 

قرن آمون

بينما شعرت أنا بتباطؤ في الزمن، كشف لي بعض الذين تعرضوا لحوادث أنهم عانوا النسيان التام،  وهو ما يوضحه شمة، أنّ ذلك يعود للاختلافات بين البشر، فغالبًا ما يكون نتيجة الاستعداد القَبلي،  قائلًا "لا يتفاعل جميع الناس بالطريقة نفسها، هناك من يظهر تفاعله في صورة نسيان، وهناك من يشعر بتمدد الوقت".

ولكن ماذا سيحدث إذا لم يتخذ الدماغ هذه الإجراءات أثناء الحادث؟

يشير طبيب الأعصاب أن"الشخص سيُصاب بالنسيان والتبلد العاطفي، وستَضعف حركته. وتستمر هذه الآثار بعد الحادثة لفترة زمنية".


  • أُنتج هذا التقرير في إطار مشروع "الصحافة والعلوم"، وهو مشروع لمعهد جوته، بدعم من وزارة الخارجية الألمانية.