في نهائي النسخة الماضية من دوري أبطال أوروبا أحرز السنغالي ساديو ماني هدف التعادل لفريقه ليفربول في مرمى ريال مدريد، هدف لم يكن كافيًا لتجنيب الريدز خسارة ثقيلة ودرامية، بعد إصابة نجم الفريق الأول محمد صلاح في بداية المباراة، ثم الخطئين الساذجين اللذين ارتكبهما الحارس لوريس كاريوس وتسببا في هدفي جاريث بيل الثاني والثالث، واللذين حسما اللقب الثالث عشر للملكي.
عادة لا تأتي الفرصة مرتين تواليًا، ولكن الحظ ابتسم لماني مجددًا، بعد أن تأهل ليفربول مجددًا لنهائي دوري الأبطال في مواجهة غريمه في الدوري الإنجليزي توتنهام، وبات لديه الآن فرصة ثانية ليتوج مسيرته الكروية بذات الأذنين، خاصة مع تغير ظروف الفريق عن السنة الماضية بعد الصفقات الجديدة التي دعم بها الفريق صفوفه خاصة في حراسة المرمى وخط الوسط.
48 ساعة تفصل الفتى السنغالي عن لحظته الحاسمة عندما ينطلق نهائي دوري الأبطال في الواندا ميتروبوليتانو. فأسد التيرانجا بات على أعتاب كتابة اسمه إلى جانب أساطير القارة الأفريقية الذين حققوا دوري أبطال أوروبا، ليتوّج رحلة طويلة مع كرة القدم، بدأت باختبار تخطاه في دكار بحذاء بالٍ قديم لا يصلح لأي شيء، ثم استكملت فصولها فصولها ووقائعها بين النمسا وفرنسا قبل أن تصل إلى الدوري الإنجليزي الممتاز من بوابة ساوثهامبتون، لتحط بعد ذلك في الأنفيلد رود، حيث مرت بلحظات مجد تخللتها منعطفات حرجة.
لتبدأ الحكاية
قبل سنتين اتجه ساديو ماني إلى تدريبه في ليفربول مبتسمًا كعادته، في الطريق إلى التدريب يستعيد ذكريات موسمه الأول اللافت مع الريدز والأجواء الرائعة لقلعة الأنفيلد. كان موسمًا موفقًا إلى حد جعل منه أفضل لاعب في الفريق خلال موسمه الأول.
كانت الأخبار وقتها تتحدث عن اقتراب ليفربول من التعاقد مع الجناح المصري محمد صلاح لاعب روما الإيطالي، ومرت الأيام بهدوء، ومر عيد ميلاد ساديو ماني في العاشر من أبريل/ نيسان وأتم الشاب عامه الخامس والعشرين في أجواء رائعة، قبل أن يصل صلاح فعليًا إلى قلعة الريدز.
تمر أسابيع قليلة ويُعلن النادي الإنجليزي في نهاية يونيو عن التعاقد مع الجناح المصري بالفعل مقابل 34 مليون جنيه استرليني؛ ليصبح الأغلى في تاريخ النادي، متخطيًا ساديو ماني الذي جاء من ساوثهامبتون قبل سنة واحدة مقابل 30 مليون جنيه استرليني كأغلى لاعب في تاريخ النادي الإنجليزي وأغلى لاعب إفريقي وقتها!
من هنا بدأ التحدي. كان للتعاقد مع صلاح بهذا المبلغ مدلول هام كما طرح سؤالًا لا يمكن تأجيله؛ هل جاء صلاح لإزاحة ماني عن عرشه؟! وهل سيستطيع أن يفعلها؟
الأيام أجابت بنعم، لم يقم صلاح فقط بإزاحة ماني؛ بل أزاح أوروبا كلها باستثناء ليونيل ميسي. "شيء كبير يا عمري" كما يقول المُعلق التونسي الشهير رؤوف خليف.
سجّل صلاح 43 هدفًا في موسمه الأول في كل الألقاب الفردية، واقتنص جائزة أفضل لاعب في الدوري الإنجليزي إضافة إلى فوزه بلقب هداف البطولة بعد أن أحرز 32 هدفًا (رقم قياسي في تاريخ بطولات الدوري الإنجليزي التي شارك فيها 20 فريقًا)، وحل ثانيًا في سباق الحذاء الذهبي على مستوى أوروبا خلف ميسي. إفريقيًا فاز صلاح بجائزة أفضل لاعب أفريقي على حساب ماني.
وقتها خرج أسد التيرانجا خرج بدوره وقتها ليُهنئ صديقه بالجائزة بتصريحات موزونة. ولكن في مطلع العام الجاري خسر ماني الجائزة للمرة الثانية تواليًا، ولصالح صلاح أيضًا، قبل أن يعد الجميع بأن يعود العام القادم ليقتنصها من صديقه.
ماذا يدور في بالك يا ساديو؟
موسم واحد كان كفيلًا بأن يجعل من ماني أفضل لاعب محترف في صفوف ليفربول، رجل النادي المخلص واللاعب الأفضل، الرجل الذي حذّر كل المحللين صلاح من منافسته في الفريق مطلع صيف 2017. وموسم تالٍ عليه كان كفيلًا بحجبه عن الأضواء رغم إحرازه 20 هدفًا وصناعة 9 آخرين لزملاءه، لأن هناك من انفجر وأحرز 43 هدفًا.
ساديو الآن يجلس في منزله، يضع جسده القوي على مقعده الوثير، يضع وجه بين راحتيه، يُفكر، تتراجع ابتسامته المعهودة في التدريبات وأمام الكاميرات؛ ليحل محلها الوجوم. من أين جاء هذا الرجل؟!
هل تكره صلاح يا ساديو؟
بالتأكيد لا، لكنك تحب النجاح وتكره الفشل، تُحب كره القدم، تكافح من أجلها، قاتلت وتحمّلت كل الظروف من أجل أن تكون الأفضل، الأفضل دائمًا وعلى الإطلاق، الأفضل حتى وأنت تهدر ركلة الجزاء الحاسمة في بطولة كأس الأمم الإفريقية أمام الكاميرون لتسقط باكيًا، الأفضل بأخلاقك وأنت تنظف مراحيض أحد المساجد في إنجلترا مبتسمًا قانعًا بما قسم الله لك، وما كتب عليك، قانعًا بدورك وإنجازاتك وبخدمة بلادك وأحباءك، ورسالتك كمسلم يفعل الخير ويتواضع أمام الله والمؤمنين.
"فلاش باك"
يتذكر ساديو لحظات الطفولة في بامبالي حيث ولد. لا جديد سوى الفقر الشديد والمعاناة، والأحلام الكبيرة والواقع البائس الحزين، الأب المسلم المحافظ، الأم الطيبة، والأحلام البسيطة لهذا الطفل أن يكون مُعلمًا في القرية يجلب لهم مزيدًا من المحبة والاحترام، لكن ساديو كان ينظر إلى مُعلمٍ آخر؛ كان هذا المعلم هو الحاج ضيوف، يضعه أمام عينيه، هو المُعلّم الوحيد الذي يقنع به ساديو ويعرف أنه الدليل إلى أحلام كبيرة ستتحقق خارج القرية، بل خارج السنغال وأفريقيا بالكامل.
كان لكأس العالم 2002 شيئًا كبيرًا في نفسه، تقف القرية بالكامل أمام تلك اللحظات التي يشاهد فيها أسود السنغال تلتهم الديوك الفرنسية في افتتاح كأس العالم بكوريا واليابان، يشاهد هنري كامارا وخاليلو فاديجا والحاج ضيوف، تتداخل المشاهد، تختلط المشاعر، وتمتزج دموع الفرح بالواقع الصعب بالأحلام التي يعرف ساديو أنها ستتحقق، لكن متى وأين؟
ساديو يتذكر الاختبار الذي ذهب إليه في العاصمة برفقة عمه، وكيف أقنع والديه بالذهاب بعد معاناة شديدة، كيف ذهب إلى داكار، كيف تسارعت دقات قلبه، ومتى وصل إلى ملعب الاختبار !
باغته المدرب: كيف ستلعب بهذا الحذاء القديم وهذا السروال؟ أنت لا تملك زيّا مناسبًا للعب!
- جئت لأُقدّم أفضل ما لديّ، أريد اللعب فقط وإظهار شخصيتي في الميدان!
ساديو يتجاوز الاختبار ببراعة رغم حذاءه السيئ وسرواله القديم، لتبدأ الحياة بعد ذلك. توالت الاختبارات من الأكاديمية في داكار إلى ميتز في فرنسا في رحلة قصيرة وموفقة بدا خلالها ماني متأهبًا وجاهزًا لمناطحة الكبار، وهو الذي كان يركض كل يوم ثلاثة كيلومترات في القرية حتى يصل إلى ملعب التدريب.
لعب مع ميتز خلال موسم 2011/2012، أحرز 12 هدفًا في 19 مباراة. أرقام كانت كافية ليرحل ماني ويتقدم نحو عالم جديد ومدينة أخرى. مقابل أربعة ملايين يورو انتقل إلى ريد بول سالزبورج النمساوي كأغلى لاعب في تاريخ النادي الفرنسي، وهو لا يزال يسير حاملاً ذكريات القرية والعائلة والأيام الصعبة التي كان مجرد الحلم فيها رفاهية أو حتى دربًا من دروب العبث.
في النمسا ساديو ماني فتى يافع، أسد يزأر بسرعته ومهارته الفائقة في القنص والتسجيل، لا يرحم ولا يتهاون مع المدافعين، وفي النمسا عرف طعم الألقاب الجماعية والبطولات حيث فاز بالدوري والكأس وأحرز الهاتريك ثلاث مرات مع الفريق. موسمان رائعان لساديو في النمسا.
وبعدها جاء الرحيل كالعادة، ساديو لم يفضّل أن يألف ويركن إلى ما حققه في النمسا، كان وقتًا مناسبًا له لكي يُغيّر وجهته للمرة الثالثة، كان عليه أن يجرب الخلطة الإنجليزية وأن يرى ويحملق بعينيه في بلاد الضباب، وبالفعل نجح ساوثهامبتون في الفوز بخدماته بما يقترب من 12 مليون جنيه إسترليني.
في إنجلترا ماني يثبت يومًا بعد يوم أنه خُلق ليلعب كرة القدم، يداعبها ويمنحها لمساته الفنية البديعة، في ساوثهامبتون يلفت الأنظار إليه؛ بإحرازه ثلاثة أهداف في مرمى أستون فيلا في مايو/ أيار 2015 خلال أقل من ثلاث دقائق كأسرع هاتريك في تاريخ الدوري الإنجليزي!
شارك ماني مع ساوثهامبتون في 67 لقاء أحرز خلالهم 21 هدفًا في الدوري الإنجليزي الممتاز، يُقدم مردودًا طيبًا ومسيرة لم تشوبها شائبة مع فريق القديسين، وبالتالي يعيد السؤال طرح نفسه مجددًا. هل سيبقى ساديو؟
الإجابة بالقطع لا، يورجن كلوب في ليفربول يريده، يعرف أنه سيصنع الفارق، والعلاقات مع القديسين رائعة، فهو الملاذ الآمن لليفربول في الانتدابات التي يريدها دائمًا، فقد سبقت ماني لائحة طويلة من اللاعبين، بيتر كراوتش وريكي لامبرت وآدم لالانا وديان لوفرين وكلاين، والدور الآن على فتى السنغال.
لقد حان الوقت لخطوة إلى الأمام، وساوثهامبتون يوافق على بيعه مقابل 34 مليون جنيه إسترليني كأغلى لاعب إفريقي وقتها!
لماذا لا نجلب الأسد؟
عندما حل يورجن كلوب على رأس الإدارة الفنية لليفربول كان النادي يمتلك مجموعة من اللاعبين متوسطي المستوى أو أقل. ففي الدفاع كولو توريه ولوفرين، وفي الوسط ميلنر وهندرسون وإمري تشان وفي الهجوم بنتيكي وبالوتيللي وبوريني وأوريجي.
ورغم المبالغ التي دفعها النادي في جلب هؤلاء كان المعدل التهديفي ضعيف وكذلك خط الدفاع؛ حالة الفريق عموما مبعثرة، فحاول جاهدًا تحسين الوضع قدر المستطاع، وبالفعل أنهى الموسم في المركز الخامس بالدوري، لكنه خسر نهائي الكأس ونهائي الدوري الأوروبي، لكن الأداء تحسن كثيرًا.
تعهد كلوب عندما تسلم قيادة الريدز ببذل كل الجهد لإعادة ليفربول إلى منصات التتويج بعد غياب طويل، وإعادة الفريق لمكانته، وأشار وقتها أنه يريد الظفر بلقب للفريق خلال أربع سنوات، وهو قريب من ذلك بالفعل يوم السبت المقبل أمام توتنهام في نهائي دوري الأبطال.
يعرف كلوب بأفكار تدريبية خاصة جدًا، تعتمد على الضغط العالي المستمر على المنافس مدعمًا في ذلك بلاعبين أصحاب لياقة بدنية وذهنية مرتفعة، وفي الهجوم يحب أصحاب السرعات العالية خاصة على الأطراف، وهو ما يفسر قناعته الكبيرة حاليا بالثلاثي صلاح وماني وفيرمينو، مع ظهيرين يجيدان المهام والواجبات الهجومية مثل ترينت ألكسندر أرنولد وآندي روبرتسون.
لكن لدى قدومه هل كان ليفربول يمتلك التشكيلة الأمثل والخيارات الأفضل لتطبيق تلك الأفكار؟!
بالقطع لا، ولكنه وقتها كان قد أتم أولى تعاقداته مع الصربي ماركو جروجيتش مقابل سبعة ملايين يورو، قبل أن يكمل المسيرة في فترة الانتقالات الصيفية بلاعبين هم الأقرب لإحكام قبضته وتنفيذ أفكاره؛ وقتها كان كلوب يضع عينيه على ساديو ماني كأولوية قصوى، الجناح الذي طالما أراد أن يطير به أثناء قيادته لبروسيا دورتموند لكنه لم يتم التعاقد معه وقتها؛ لذلك لم يفوت الفرصة حين واتته الفرصة، حتى أنه خرج مطلع العام 2019 ليعلن ندمه صراحة على عدم التعاقد معه في ذلك الوقت.
وإلى جانب ماني، جلب كلوب فينالدوم من نيوكاسل، والحارسين لويس كاريوس وأليكس ماننينجر والمدافعين راجنر كلافان وجويل ماتيب.
ماني من نوعية اللاعبين التي يحبها يورجن كلوب، يملك المهارة والسرعة، يسدد بقوة ويستطيع مراوغة المدافعين كما أنه متميز في ضربات الرأس، وقت أن كان ليفربول لا يمتلك في الصف الأمامي لاعب بهذه القدرات، ساديو لبِنَة لإعادة فريق ليفربول لمكانته الطبيعية بجانب روبيرتو فيرمينو الذي تحسن أداءه كثيرًا مع كلوب، ثم وصول محمد صلاح بعد ماني بموسم واحد.
لم يخيب ساديو التوقعات، وساهم بقوة في موسمه الأول في رفع كفاءة الخط الأمامي، أحرز خلالها 13 هدفًا وصنع ثمانية، وتوج بلقب لاعب الموسم في الفريق، وساهم بعدها على مدار ثلاث سنوات في إعادة ليفربول إلى مكانته الصحيحة والمنافسة على لقب الدوري والتأهل لموسمين على التوالي إلى نهائي دوري الأبطال بعد غياب عن هذه المباراة منذ عام 2007.
يعود ساديو الآن للحاضر، يكفكف جراحه، ينهض من مكانه، يعاهد نفسه ألا يتخاذل وأن يواصل، أن يبتسم في وجه الجميع، أن يؤدي صلاته بخشوع، أن يأكل طعامه بمحبة، أن يؤدي تدريباته بقوة ويراعي جسده حتى لا يسقط في بئر الإجهاد والإصابات، وأن يصبر لكي ينول.
نهاية سعيدة ربما
بعد موسم شاق، وفي اللحظة الأخيرة، كان ماني على موعد مع السعادة، المباراة الختامية لليفربول في الدوري أمام ولفرهامبتون، أحلام الفوز باللقب تتبدد لصالح مانشستر سيتي، ولكن الصراع على هداف البطولة ما زال في المتناول.
صلاح يتصدر بـ 22 هدفًا وماني أحرز 20 هدفًا. يسجل ماني الهدف الأول لليفربول، يضيق الفارق إلى هدف واحد، يرفع أرنولد العرضية، تمر من فوق صلاح وتحط على رأس ماني الذي يضعها برأسه ليحرز هدفه الثاني في المباراة والثاني والعشرين له ليحرز لقب الهداف رفقة صلاح وأوبميانج لاعب أرسنال.
قدم ساديو بالفعل موسمًا استثنائيًا، نافس فيه صلاح بكل قوة، ونجح الثنائي رغم المنافسة المخيفة في أن يكونا على رأس الهدافين، رغم أن المقابل كان فادحًا.
انتصر ماني وانتصر صلاح وخسر ليفربول كالمعتاد، قبل أن تمنحهم الحياة الأمل مجددًا في لقاء السبت أمام توتنهام في نهائي دوري أبطال أوروبا، مباراة للتاريخ وبلا قيود وبلا تنافس على لقب الهداف، فهل يفعلها الثنائي سويًا للمرة الأولى ويحصدان أول الألقاب؛ أم يكمل الثنائي مسيرة الإهدار في رحلة البحث عن لقب فردي؟