"غدًا سنلعب لأول مرة مباراة كرة قدم حقيقية داخل الملعب، طيلة هذه السنة خارج الملعب وهو يفوز بكل معركة يخوضها، حسنًا؛ سأدعه يفوز بدوري الأبطال للمؤتمرات الصحفية".
بيب جوارديولا متحدثًا عن جوزيه مورينيو.
أهلًا بك، من يريد المتعة لن يذهب إلى السيرك مجددًا، بل سيذهب للجحيم هذه المرة، الضغط على الخصوم يبدأ عادةً من المؤتمرات الصحفية، وأكاليل الغار يرتديها أولو العزم والقتال، وليس الفلاسفة. هانيبال لم يكن يعترف إلا بسيوف الرجال وقبضاتهم، كما أن الشعراء لا يفوزون بداهةً في كرة القدم، وتلك هي أقصى الحالات رومانسية.
في العام 2004 كانت العيون مصوبةً نحو المملكة المتحدة وتحديدًا منافسات البريميرليج، بعد خبر تعيين جوزيه مورينيو مديرًا فنيًا لتشيلسي.
جوزيه مورينيو في مؤتمر صحفي في ستانفورد بريدج- يوليو 2004
عوامل كثيرة ساعدت جوزيه على أن يصبح جدلية تاريخية، التجارب الناجحة في ملعب الدراجاو التاريخي لنادي بورتو؛ الانتصار في ليلة الـ"فيلتينس أرينا"، ودموع ريكاردو كارفاليو التي أصبحت حبيسة الذكريات، وصرخة باولو فيريرا في وجه القدر قبل طمس اسمه، جعلتْ للقصة زخمًا خاصًا وخلافًا جنونيًا.
هذا النمط من الرجال شاهدناه كثيرًا؛ تحدث عنه الفيلسوف الصيني سون تزو في كتابه فن الحرب، واستند جوزيف جوبلز على أطروحاته حول تأثير البروباجندا، وقد يكون هذا مفهومًا، لأن تأثير كرة القدم على قطاعات الشعب خاصةً بعد ظهور السوشيال ميديا، والمجتمع الطوبوي التي تحلق آماله بعيدًا، وتنصهر فيه الآراء المتطرفة والذاتية في تناغم عجيب، أبقى السؤال حائرًا: من بين تلك الأحداث والأحاديث؛ أين تقع شخصية مورينيو الحقيقية؟
ألاعيب متكررة
عام 2016، انتقد بول سكولز، لاعب الوسط التاريخي، أداء بول بوجبا لاعب مانشستر يونايتد، بعد تعادل الفريق أمام ساوثهامبتون في الدوري، متهمًا إياه بالتقصير في القيام بواجباته الدفاعية. حادثة عادية ولها سياق واضح، لكن جوزيه لم يرض بإهانة الرجل أمام الكاميرات، ليظهر بعدها مباشرةً في صورة المدافع الشرس عن لاعبيه وبأسلحة مغايرة هذه المرة.
أعلن وبمنتهى الشفافية أن السبب وراء شعور سكولز بالغيرة من الفرنسيّ، هو أن "بوجبا جنى أموالًا أكثر، ولديه قصة شعر أفضل من سكولز". تلك التصريحات كانت حقيقية بالمناسبة، لكنّها ليست أغرب ما في الأمر. فقط دعنا نستعيد بعض الذكريات أولًا لفهم الحدث بشكل أوسع.
قبل مباراة مانشستر يونايتد وساوثهامبتون في الدوري عام 2016، والتي انتهت بفوز الشياطين بثنائية دون رد، سأله أحد الصحفيين عن ماهية التعليمات الدفاعية التي أعطاها لبوجبا، فجاء جوابه بأن هذا النوع من اللاعبين يجب أن يتمتّع بالحرية الكافية ولا أكثر من ذلك.
بعد سنتين سأله أحد الصحفيين أيضًا عن سبب استبعاده بوجبا من قائمة مباراة هدرسفيلد، فجاء جوابه بأن هذا النوع من اللاعبين يقتل طموح الفريق، لماذا؟ لأنه يهتم بأمواله وتسريحة شعره أكثر من كرة القدم. لقد صدرت تلك التصريحات من الشخص نفسه ودون فارق زمني ضخم، فما الأمر إذن؟
حرب العصابات
لقد أظهر الرجل استعدادًا مباشرًا لشنّ الحرب منذ البداية، مع انتقاده لجدول مباريات الدوري الذي يخدم نادي أرسنال دون البقية، واتهاماته المستمرة لآرسين فينجر بالتخصص في الفشل وعدم القدرة على العطاء مجددًا، ووصولًا إلى مرحلة الاشتباك البدني بين الرجلين في إحدى مباريات الديربي.
الغريب أنه لم يكن نزاعًا شخصيًا بقدر ما كان متعلقًا بأسلوب العمل، لذلك لن تستطيع أن تجد سببًا واضحًا لا لهذا النزاع، ولا لغيره من النزاعات الواقعة تحت هذا التصنيف، لأنها استمرت بالفعل بعد اعتزال فينجر مباشرةً، وبالأسلوب نفسه.
فينجر يدفع مورينيو
والدليل هو مهاجمته الدائمة لأنطونيو كونتي، ومهاجمته ليوهان كرويف، قبل ساعات قليلة من الكلاسيكو، والخلافات الدائمة مع بيب جوارديولا رغم الصداقة القديمة، والعداوة الصريحة لنادي روما بعد توليه القيادة الفنية لإنتر ميلانو، قبل أن يصبح هو بذاته مديرًا فنيًا لروما، وتوجه السخرية مرةً أخرى نحو بيب جوارديولا، أو نحو أموال مانشستر سيتي هذه المرة على وجه التحديد.
حسنًا، تخيل أن فوز أرسنال بدوري اللا هزيمة، وحصول بيب على السداسية التاريخية قبل أشهر قليلة من تواجد مورينيو، كانتا بمثابة قصف نووي يهدد تواجده منذ البداية، لتتمكن من تعريف المؤتمرات الصحفية وممارسة الضغوط والحيّل على أنها السبيل الوحيد لمواجهة هذا القصف.
فكلما اشتدّ القصف أصبحت العودة إلى البدائية والتقاليد القديمة واجب تحتّمه المرحلة. وهذا ما جنح إليه فيديل كاسترو في أطروحاته؛ أن الردّ على قنبلة نووية لن ينجح إلا باستخدام أقدم سلاح عرفته البشرية "حرب العصابات"، والتي تعتمد، للمصادفة، على تكتيكات مورينيو قاطبةً.
الأمير مورينيو
"لا أذهب إلى الحرب إلا مع من أثق بهم" - جوزيه مورينيو.
تلك هي الفلسفة التي أقرّها الفيلسوف الإيطالي مكيافيلي في أطروحاته، وحصر من خلالها أدوار القيادة في حماية الدولة من التهديدات الخارجية والداخلية المحتملة، ولأنه الواجب الوحيد، ستصبح الأساليب الملتوية حقًا أصيلًا للقائد إن آتتْ أكلها. وانطلاقًا من تلك البراجماتية، ستبدأ مكيافيلية مورينيو في الظهور بشكل أوضح.
انظر إلى الفوضى التي تسيطر عليها نتائج الفريق في النهاية، وإلى السنوات التسع التي لم يخسر فيها مرةً واحدةً على أرضه، لتجده منتصرًا بالفعل داخل هذا المقياس، لكن في سياق مختلف؛ ستصبح تلك النزعة سببًا مباشرًا في إخفاء جوانب أخرى من شخصيّته لا تنطلق من الفلسفة نفسها، وليست تلك مشكلتها الوحيدة، لأنها ستضرّ بتلك الفلسفة أيضًا وفي مواضع عدة.
فمثلًا؛ تنطلق الشخصية المكيافيلية من نقص حاد في العاطفة، وانعدام في الرغبة بتوطيد العلاقات مع المرؤوسين حتى تصبح النزعة النرجسيّة أكثر اكتمالًا، وهو ما لا يحدث هنا عادةً.
إلى المكيافيلية وما بعدها
قبل لحظات من رحيل "سبيشيال وان" عن مدينة ميلانو، التقطت الكاميرات المدافع الهرقل ماركو ماتيراتزي مستندًا إلى الحائط، ويبكي بشكل لا يمكن السيطرة عليه في أحضان قائده، الذي انهمر بالبكاء هو الآخر في لحظة وداع شاعرية.
للمفارقة، تزامنت تلك اللقطة مع تصريح زلاتان إبراهيموفيتش بأنه على استعداد للموت من أجل البرتغالي، وقبل سنوات من تقبيل ديبالا ليده أمام الجماهير؛ لتصبح أعمدة الأوليمبيكو شاهدةً على العلاقة القوية بين المدرب ولاعبيه.
عناق ماتيراتزي ومورينيو
هل هناك شبهة واحدة لتوتر العلاقة بين المدرب ولاعبيه بناءً على تلك اللقطات؟، هذا ما سيحملنا إلى الفكرة الأخيرة. هل سمعت عن أسطورة الموسم الثالث الذي يفشل فيه مورينيو عادةً؟، تلك الأسطورة تكمن حقيقتها في تآكل منطق الرجل مع الوقت لأسباب عدّة أهمّها تهوّره الشديد، واستخدامه لتكتيك عسكري آخر يدعى "عقلية الحصار".
شعور أن هناك مؤامرة تحاك ضد النادي ويجب صدّها، فاتحاد الكرة يوجه قرعة المباريات نحو نادٍ بعينه، وأموال الخليج تعمل على تقويض اللعبة الحقيقية التي نمثلها، أما الإعلام فيوجه حملةً شرسةً تحت قيادة مستنيرة لـجيمي ريدناب بهدف إسقاط الفريق، والعمل على عزل دييجو كوستا من منصبه كأفضل لاعب في تاريخ المجرات.
رغم أن ما حدث فعلًا هو أن كوستا اشتبك مع لاعبي ليفربول مرتين دون الكرة، وبأسلوب قاسٍ للغاية في نهائي الكأس عام 2015، ليخرج ريدناب بعدها معربًا عن رفضه لتلك السلوكيات، ومطالبًا الاتحاد الإنجليزي بتوقيع عقوبات قاسية لعدم تكرار الحادثة مرةً أخرى.
معارضة بسيطة لسلوك فردي، تحولت في طرفة عين إلى مؤامرة إعلامية متشعبة تهدف لهدم الفريق، لماذا؟، لأن هذا هو الأسلوب الذي يتبعه جوزيه عادةً لفرض السيطرة وضمان الولاء، لكن ما لم يدركه جيدًا أن استمرار حالة الذعر تلك لفترات طويلة ستجعل من الفريق هشًا لا محالة.
في تقرير منشور عام 2018، يرى الكاتب سايمون كوبر أن مورينيو كشف عن كامل أفكاره في السنوات الأولى مع بورتو وتشيلسي، ولأنه لم يعد قادرًا على استخراج الجديد أصبحت تبريراته أكثر درامية من ذي قبل. فما علاقة الهزيمة الأخيرة في نهائي الدوري الأوروبي براتب بيب في مانشستر سيتي؟
الأصابع الثلاثة التي رفعها في وجه الجماهير في استدعاء مهلهل لأمجاد الماضي، تدلل على عدم استناده إلى فلسفة بعينها لأنه أصبح خاويًا. والخواء هنا يعني أن الأمير فقد تاجه بالفعل، وفقد معه القدرة على صنع الحدث وجذب الاهتمام، بل محاولات تصدير نفسه كابن بار لمكيافيلي أيضًا.