هناك أسئلة كثيرة تبحث عن إجابات منذ إعلان رحيل آرسين فينجر عن آرسنال الإنجليزي بعد 22 عامًا قضاها في منصب المدير الفني للفريق.
أحد تلك الأسئلة كان عن خليفة المدرب الفرنسي. من سيقود آرسنال بدءًا من الموسم المقبل؟ والإجابة جاءت بعد فترة قصيرة؛ يوناي إيمري هو المدير الفني الجديد للمدفعجية.
توالت بعد ذلك أسئلة أخرى عن طريقة لعب المدرب الإسباني وعن الصفقات الجديدة التي يحتاجها الفريق. اتخذ الحديث المسار التقليدي المعروف حين يرحل مدرب ويأتي آخر؛ وهنا خلل كبير.
ومصدر الخلل أننا كي نفهم التحديات التي تواجه أرسنال في مرحلة ما بعد فينجر يجب علينا أولًا أن ننحي جانبًا لفترة قصيرة كل الأسئلة العاجلة المرتبطة بالصفقات الجديدة والراحلين عن الفريق وغير ذلك من التفاصيل التي تفرضها اللحظة الراهنة. ونرجع إلى الوراء قليًلاً لنتوقف عند المبادئ الرئيسة التي بنى فينجر فلسفة آرسنال حولها ثم نتساءل: هل يجب الاستمرار عليها؟ أم أنها بحاجة إلى تغيير؟ وما حجم التغيير المطلوب، هل يكون جذريًا أم طفيفًا؟
منظومة فينجر
يصعب تقييم رحلة آرسين فينجر مع آرسنال وفقًا للمعيار التقليدي المتمثل في عدد البطولات والألقاب التي حققها الفريق تحت قيادته؛ ذلك لأن الفرنسي العجوز لم يكن مجرد مديرًا فنيًا لفريق ينافس في بطولة كبرى.
فبعدما أقنع فينجر إدارة آرسنال بفلسفته وأفكاره منحه مُلّاك النادي صلاحيات واسعة. ولم يعد عمله قاصرًا على تدريب اللاعبين وتطويرهم ووضع الخطط إلى غير ذلك من المهام التقليدية؛ لكنّه أصبح المسؤول الأول عن كل شيء يخص منظومة الكرة داخل أرسنال. باتت كل خيوط اللعبة بين يديه.
بدأ المدرب في إعادة بناء النادي حول مجموعة من الأفكار والقيم التي يؤمن بها إيمانًا شديدًا؛ بعضها فنيّ يتعلق بالخطط وطرق اللعب، وبعضها إداريّ يتعلق بسوق الانتقالات والرواتب وتسويق اللاعبين إلى غير ذلك.
كرويًا، لا تخفى بصمة فينجر على الدوري الإنجليزي عمومًا وليس على آرسنال فقط. ويعتبر البعض قدوم المدرب الفرنسي نقطة فارقة في تاريخ البريميرليج تفصل بين مرحلتين؛ الأولى كانت الفرق الإنجليزية تعتمد خلالها على الطريقة الكلاسيكية المعروفة حيث التمريرات الطويلة والركص خلف الكرة بطول الملعب طوال التسعين دقيقة. والثانية، بعد وصول فينجر، عرفت فيها الكرة الإنجليزية نكهة جديدة بأفكار وفلسفة تقوم على الاستحواذ والتمريرات القصيرة.
هذه الأفكار التي غرسها فينجر في تربة البريميرليج ساهمت في تطور المسابقة بشكل واضح خلال العقدين الأخيرين. وساهمت أيضًا في رسم شخصية كروية قوية ومستقلة لآرسنال؛ فهو فريق يقدم على الدوام كرة هجومية ممتعة. بعيدة تمامًا عن اللعب الدفاعي المتحفظ والتراجع إلى المرمى.
إضافة إلى ذلك، فالمدرب الفرنسي يملك نظرة ثاقبة تجلعه قادرًا على اقتناص العديد من المواهب في المراحل الأخيرة قُبيل انفجارها. لا يُفضل فينجر شراء نجوم الصف الأول من اللاعبين. هؤلاء الذين اكتملت نجوميتهم وباتت الأندية تتهافت عليهم. يحب التعاقد مع المواهب القابلة للتطور ثم يبدأ مهمته لصقلها وتلميعها.
لذا كانت أبواب آرسنال مفتوحة دائمًا أمام المواهب من شتى أنحاء العالم. يسافر فينجر أو أفراد الكشافة إلى بلاد بعيدة وأندية مجهولة في محاولة لاقتناص صيدٍ ثمين قبل أن يصل إليه منافس آخر.
هذه القناعة والرغبة في اكتشاف المواهب جعلت الفريق الإنجليزي يقدم أسماءً بارزة لم يكن أحد يعرف شيئًا عنها قبل قدومها للمدفعجية. وخلافًا أيضًا لأغلب مدربي البريميرليج كان فينجر يؤمن بقدرات اللاعبين صغار السن. الطريق نحو الفريق الأول في آرسنال سهل وميسور وممهد لأي ناشيء مميّز.
انعكست تلك الأفكار على تحركات آرسنال في سوق الانتقالات. أصبح النادي غير مُطالب بإنفاق مبالغ ضخمة لاستقدام اللاعبين الكبار لأن فينجر سيقوم بمهامه المعتادة؛ اكتشاف المواهب وتطويرها وصبغها بأفكاره الكروية. كما أن النادي أيضًا لن يبدد أمواله على رواتب اللاعبين التي تتضاعف كل عام لأن فينجر سيضع حدًا أقصى للرواتب لن يسمح لأحد بتخطيه.
وفّرت قناعات وأفكار المدرب أموالًا كثيرة للنادي الإنجليزي. ساعدته على بناء ملعبه الجديد (استاد الإمارات) وعلى تحقيق أرباح ضخمة في وقت تتراكم الديون على منافسيه؛ لكنّها في المقابل لم تضمن له الاستمرار في المنافسة على الألقاب في ظل إنفاق أندية الدوري الإنجليزي مبالغ ضخمة لضم نجوم الصف الأول، كما أنّ المواهب التي اكتشفها فينجر وعمل على تطويرها بدأت تبحث عن خطوة أخرى في مسيرتها تضمن لها تحقيق الألقاب وحصد المزيد من الأموال.
حاول فينجر التمسك قدر استطاعته بفلسفته وأفكاره الكروية رغم تعثّر النتائج وابتعاد الفريق عن المنافسة. حتى حين اضطر لاقتحام سوق الانتقالات والتعاقد مع بعض اللاعبين بأسعار مرتفعة كان الأمر يتم وفقًا لحسابات خاصة؛ فمثلاً يستغل خلافًا بين لاعب كبير وإدارة ناديه ويتدخل لشراء اللاعب بمقابل مادي أقل من المنتظر مثل صفقة بيير إيمريك أوبامينيج.
وأحيانًا يستغل المدرب رغبة الفرق الكبرى في التخلص من أحد لاعبيها بسبب كثرة ووفرة النجوم في مركزه وينقض عليه ويحصل على خدماته بمقابل مادي غير مرتفع. حدث ذلك في صفقة ميسوت أوزيل من ريال مدريد وأليكسس سانشيز من برشلونة.
وجه جديد وأفكار قديمة
حين أعلن أرسنال رحيل فينجر وأشارت الصحف إلى أن المدرب الفرنسي كان ينوي الاستمرار في منصبه عامًا آخر على الأقل، كانت الاسئلة الأهم هي: هل يسعى آرسنال حقًا إلى التخلص من هذا الإرث والتحرر من الأفكار الفينجرية على الصعيدين الفني والإداري؟ أم أن الأمر مجرد محاولة لتغيير الوجوه، بحيث يستقدم النادي مدربًا جديدًا لإرضاء الجماهير التي انصرفت عن حضور كثير من مباريات الموسم الماضي مع استمرار المنظومة الحالية على ما هي عليه؟ وإذا كانت الإدارة تنوي بداية حقبة جديدة بأفكار مختلفة فهل هل على استعداد للرضوخ لحسابات السوق فيما يخص الانتقالات والرواتب؟
التعاقد مع يوناي إيمري، رغم أنه لم يكن في صدارة المرشحين لمنصب المدير الفني، يعزّز من الاحتمال الثاني وهو أن النادي يبحث عن شخص يسهل دمجه وصهره في منظومة فينجر. وذلك لأن إيمري، وإن اختلف عن المدرب الفرنسي في الخطوط العامة لفلسفته التدريبية حيث يميل إلى الضغط العالي واللعب المباشر بديلاً عن الاستحواذ وتناقل الكرة بطول الملعب وعرضه، إلا أنه من المدربين القلائل الذين يجيدون العمل في أجواء مشابهة لما يمر به آرسنال حاليًا لأسباب مختلفة:
أولاً: هو أحد أفضل مدربي فرق الوسط في أوروبا. حقق نتائجه الأبرز في مسيرته التدريبية مع فالنسيا وإشبيلية بمجموعة من لاعبي الصف الثاني. عمل على تطويرهم بدنيًا وفنيًا. وآرسنال حاليًا، وإن تواجد به بعض النجوم، إلا أن غالبية لاعبيه تنتمي لهذا الصنف؛ نجوم الصف الثاني. والفريق بات أقرب إلى فرق وسط الجدول من فرق الصدارة على مستوى الاداء والنتائج أيضًا.
ثانيًا: لا يملك المدرب الإسباني تلك الشخصية القويّة الصارمة التي قد ينتج عنها أي صدام مع الإدارة خاصة حول سوق الانتقالات واللاعبين. وربما هذا كان من أسباب تفضيله عن غيره من المرشحين الذين طلبوا مبالغ ضخمة للتعاقد مع لاعبين جدد. يعمل إيمري وفقًا لما يتاح له. ولا يطلب الكثير.
ثالثًا: سيحافظ المدرب الإسباني على هوية الفريق ولن يُحدث بها تغييرًا كبيرًا. بمعنى أننا لن نرى آرسنال يتراجع إلى الخلف ويبالغ في محاولة تأمين مرماه من الأهداف. إيمري ليس من أصحاب النزعات الدفاعية.
وحتى الانتقاد الذي يوجه إليه بخصوص عدم قدرته على السيطرة على نجوم الصف الأول بسبب الأزمة الشهيرة بين إدينسون كافاني ونيمار في باريس سان جيرمان لن يسبب له أزمة كبيرة مع المدفعجية لأن الفريق لا يضم الكثير من النجوم.
إذًا، تمكنت إدارة آرسنال من اقتناص مدرب يسهل دمجه في المنظومة الحالية للنادي، وهذا يعني دون شك أن الملاك لا نية لديهم في تغيير سياساتهم في سوق الانتقالات.
كل التقارير الصحفية تشير إلى أن النادي لن ينفق الكثير هذا الصيف. المبلغ المحدد لدعم الفريق بصفقات جديدة هو 50 مليون جنيه إسترليني فقط. وقد يزيد وفق بعض التقارير ليصل إلى 70 مليون جنيه إسترليني.
هذا الرقم، الذي لا يضمن شراء لاعبًا واحدًا من نجوم الصف الأول في أوروبا، من المفترض أن ينفقه أرسنال لضم على الأقل ثلاثة لاعبين لترميم وسط ودفاع الفريق اللندني، وهذا يمنحنا فكرة عن نوعية اللاعبين التي سوف يستقدمها النادي إلى صفوفه.
الشواهد حتى الآن، تقول إننا أمام محاولة لتغيير الوجوه مع الإبقاء على نفس السياسات، كتلك التي تقوم بها الحكومات حين يحتج مواطنوها على مسؤول بعينه بسبب سياساته وقراراته الخاطئة فيتم عزله من منصبه ثم يُعيّن مسؤول جديد يتبنى السياسات نفسها!
أو لنقل إنها محاولة للالتفاف على الجمهور وامتصاص غضبه والحد من ثورته باستقدام وجه جديد شاب لكنّه يسير على نفس المبادئ التي غرسها العجوز الفرنسي فينجر في تربة النادي قبل سنوات طويلة.
وخطورة تلك المحاولات أنها لن تجعل الفريق بعيدًا فحسب عن المنافسة لكنّها في الأغلب قد تدفع آرسنال وبقوة إلى الخلف لتصبح مهمة العودة للقمة والبحث عن الألقاب أكثر صعوبة وتعقيدًا بمرور الوقت.
يحتاج أرسنال إن أراد العودة إلى المنافسة محليًا وأوروبيًا أن يدرك أن منظومة فينجر لم تعد قادرة على مجابهة الأموال التي تنفقها الأندية المنافسة، وأن محاولات ترميم تلك المنظومة أو إعادة إنتاجها بوجوه جديدة لن تجنى منها سوى المزيد من التعثّر والهزائم.
وأنّ زمن فينجر قد انتهى وانتهت معه أفكاره ومبادؤه لأن أحدًا لن يصل بهذه الفلسفة والقناعات إلى ما وصل إليه المدرب الفرنسي في سنواته الأولى مع المدفعجية.