تصوير لانا هارون - بإذن خاص للمنصة
من مظاهرات السودان

في نقد الأيقونات الثورية: هل "كنداكة" رمز حقيقي لانتفاضة السودانيين؟

منشور الثلاثاء 28 مايو 2019

بعد أن شقت الانتفاضة السودانية طريقها منذ منتصف ديسمبر/ كانون الأول الماضي إلى أن تمكنت بعد أشهر من الإطاحة برأس النظام ورئيسه عمر البشير، بعيدًا عن عدسات وسائل الإعلام العالمية.  وبتجاهل متعمد من وسائل الإعلام العربية، حيث ما زال الخوف من انتقال العدوى الثورية قائمًا.

لهذه المخاوف ما يببرها، ليس فقط أن التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجه أنظمة الشرق الأوسط هي أسوأ مما كانت عليه بين عامي 2010 - 2011، بل بسبب الحسابات الجيوسياسية المعقدة مع نظام البشير المخلوع.

لكن هذا التجاهل الإعلامي لم يصمد طويلًا على وقع الإطاحة برأس النظام، ليصبح الوضع الداخلي السوداني ملفًا شهيًا بالنسبة لوسائل الإعلام التي أبدت به اهتمامًا واسعًا، ولكنه أيضًا منتقى بعناية. ركزت وسائل الإعلام الغربية والعربية على لقطات بعينها دون غيرها من أجل صناعة "أيقونات" ثورية عن السودان، "أيقونات" مُنمقة واستشراقية بالضرورة لتقديمها للجمهور حول العالم عمومًا وللغرب خصوصًا.

في أروقة وكالات الإعلام الكبرى (عربية وغربية) ومراكز التفكير والتحليل المهتمة بشؤون الشرق الأوسط، هناك سردية جديدة عن "الثورة السودانية" على صعيدين؛ الأول هو خلق "أيقونات ثورية" عبر نظرة إستشراقية تعمل على إجترار التاريخ وحبس الحاضر الثوري وأي إمكانية للمستقبل في رمزية الماضي، إلى جانب صناعة نخب ثورية تكرس لاغتراب الثوري وابتعاده عن الجماهير المتفاعلة معه لصالح شاشات الميديا، ولقاءات الصحف الغربية، ما يهدد بتفتيت المد الجمعي لأبناء الشعب السوداني. 

الصعيد الثاني هو تحييد راديكالية الثورة ضد التدخل العربي، وتحديدًا الخليجي، الذي عمل استنزاف ثروات السودان وخصوصًا المحاصيل الزراعية. وهذا عبر إخراج الهامش الفقير من الصورة تمامًا وتجاهل أي سياق للصراع الطبقي للثورة السودانية.

"كنداكة" الثورة السودانية

أولًا وقبل طرح مناقشة حول آلاء صالح أيقونة الثورة السودانية كما قرر الإعلام (عربي وغربي) أن يطرحها على شاشته، يجب أن نشير إلى أن الرواية الاستشراقية للأحداث الثورية في المنطقة تبدو حتمية للشعوب العربية خصوصًا ذات الجذور الأفريقية حيث تم وضعنا دائمًا في أيقونة ماضٍ رجعية "ملك، فرعون، كنداكة... إلخ"، ليصل المحلل المستشرق أو الغربي أو وسيلة الإعلام عربية كانت أو غربية إلى ما يُعرف بـ "الاستثنائية/ الخصوصية العربية" وهي التي تجعل من العرب مُتخلفين ورجعيين ولا يمكن أن يكونوا ديمقراطيين لأسباب اجتماعية وثقافية محضة بل قد يصل أمر تدهور أحوال بلادنا السياسية والاقتصادية بجيناتنا الوراثية. ونتحدث هنا بصيغة الجمع لأن هذا التحليل الاستشراقي لا يقتصر على السودان وحده بل يتعلق بغالبية دول ما بعد الاستعمار في المنطقة.

فنجد النظرة لدول ما بعد الاستعمار مبنية على عدة أسس نختصرها في الآتي:

  1. "صنع الآخر" – أي أنهم (عرب، أفارقة، مسلمون... إلخ) يختلفون عن" نحن " (الغرب ، الأوربيين خصوصًا).
  2. قراءة الأحداث في منطقتنا عبر اللجوء إلى المنطق الصوري ونزعنا من أي صيرورة أو حركة للتاريخ وحصرنا في الماضي ويتم قياسنا معياريًا كـ "آخر" يُقارن ب "نحن" الغربية.
  3. الأسطورة والغرائبية - فالشرقي ما هو إلا مجموعة من الأساطير الغامضة والأحاجي التاريخية التي يجب تقديمها للغربي ليحاول فك طلاسمها، فالشرقي أقرب إلى حجر رشيد من كونه إنسانًا له حقوق يُطالب بها.

ما سبق من أسس لا تقتصر على الغرب وتصوراته للشرق الأوسط بشكل فردي بل صار منهجًا وعلمًا للتعبير عن الشرق وأحداثه الكبرى حتى من قبل النُخب الثقافية "المحلية" والإعلام الناطق بالعربية.

ولنبدأ بإسقاط الأفكار السابقة على حالة "أيقونة – آلاء صالح" حيث انطلقت الصحف العربية والغربية لتتحدث عنها بصفة "الآخر" الذي خرج فجأة ليبهر "العالم"، فهي أولًا "امرأة" وهذا الجزء من العالم معروف أن الرجال فيه همجيون وغير ديمقراطيين، فماذا عن هذه المرأة المسحوقة وهي تنادي بالديمقراطية، يا لها من حالة غرائبية تستدعي لتدخل الرجل الغربي والنخب العربية لتتبارى في تقديم رؤيتها عن المشهد وتحليلها وحجز هذه المرأة في "إطار أسطوري"، لنرى فيضانًا من الرسوم أحدها مثلًا قرر أن يضع "آلاء" أيقونة "السودان" فوق تمثال أبي الهول في "مصر"! ورسم آخر يصورها "أميرة" نوبية على الرغم من أن آلاء تنادي بـ "الديمقراطية" وليس بالملكية أو الأميرية! وما أكثر علامات الإستفهام حول الصورة التي تم رسمها لفتاة عربية-أفريقية تنادي بالحرية.

 

ولتكون الأيقونة الثورية "آلاء صالح" جاهزة ليتم "قياسها معياريًا" بالغرب. تم بناء صورة لها مع إبراز عدة تفاصيل أولها حضور كثيف للشباب حولها -هذه حقيقة-، لكن تم إبراز شاشات الهواتف الذكية، والتأكيد على التفاعل الكثيف لهذا الشباب على شبكات التواصل الاجتماعي، فهم يحاربون الديكتاتور عبر أفكار مراكزنا الفكرية المُتطرفة عن اللاعنف وأنهم يقامون الرصاص بالرقص والغناء، بل إن بعضهم من المتعلمين! يا إلهي! هم ليسوا "همجًا"! هذه الفئة تحمل نفس قيم "النحن" (الغرب الأوروبي الراقي) لهذا يجب أن يتم الاحتفاء بآلاء وبهذه الصورة وربط كل مجريات الثورة السودانية بها.

 

بالتأكيد المُتابع لمجريات الثورة السودانية سيعرف أن هذا اجتزاء مخل خارج عن إرادة آلاء صالح والتي صرحت أكثر من مرة أن أهل السودان هم الأيقونة، لكن الخلل ليس في آلاء أو غيرها، الخلل والخطر يمكن في الفكر الذي يعمل دائمًا على أن يكون هناك أيقونة.

تهميش الهامش

الخطر في فكر صناعة "أيقونة" لأي ثورة وليس الثورة السودانية فقط هو أنه يلزم لصانع الأيقونة من إعلام ومحللين وسياسيين أن يقوموا بفعل "التهميش" وهذا ليس "تهميش قلة" بل "تهميش أغلبية".

فمنذ ربيع براج والبُعد الكرنفالي للثورات هو المُحبب للإعلام، وقد ظهر هذا بوضوح في تظاهرات الربيع العربي 2010-2011، حيث مثلًا لنتذكر ميدان التحرير والتركيز على الأعلام الملونة والهتاف السلمي دون النظر لأي سياق عنيف سبق هذه اللقطة وهذا ما يتم الآن بلورته لكي يتم عرض الثورة السودانية على العالم.

فكما تم تجاهل حرق الهامش الفقير في مصر يوم 28 يناير/ كانون الثاني 2011 لمقار الحزب الوطني الحاكم ومقار الشرطة كتعبير عن العنف الذي وجه ضدهم على مدار عقود يتم الآن تجاهل فعل سودانيي الهامش خصوصًا أن انطلاق الثورة جاء من مدينة عَطْبَرَة الواقعة في ولاية نهر النيل بالسودان، والتي تبعد عن العاصمة الخرطوم حوالي 310 كيلومترات، وتم حرق عدة مقار لحزب المؤتمر الوطني الحاكم في عطبرة والدامر وبربر، وكل هذه الصور واللقطات كان يمكن لها أن تصير أيقونة يُحتفى بها وتقدم كنهاية حتمية لأنظمة الظلم والاستبداد.

لكن المطلوب ليس صنع عِبرة أو تسجيل تاريخي أنما المطلوب هو تنقية كل المشهد الثوري من أي دلالات للعنف الطبقي والهيكلي التي مارسته سلطة ما بعد الاستعمار التي مثلها البشير بدعم كبير من دول الخليج ومصر حتى آخر لحظة وقد يكون إلى الآن، وفصل الجسد السياسي عن الجسد الفعلي أي التعتيم المتُعمد على التعذيب والقتل والاضطهاد الذي تم على مدى عقود لأسباب سياسية والذي تم تحديدًا في الأيام الأولى للثورة.

بالتالي تعمل النخب العربية والغربية والمحلية –دون أن يعلنوا صراحة أنهم ثورة مضادة بل يكفي أن يكونوا إصلاحيين- على محو أي أثر للطبقات المنسحقة خلال فرض سياسات نظام البشير وداعميه، وهذا لا يقتصر على جانب العنف فقط بل كان هناك عدة صور لمتظاهرين يمسكون الحجارة ويرفعون علامة النصر مواجهين الرصاص في أول أيام الحراك الثوري، أو لشاب أعزل يجري بأقصى سرعة وتطارده سيارة شرطة ورجال مدججين بالسلاح، أو شاب ينحني ليرفع "امرأة" سودانية على كتفه أو صورة طفل صغير يسير متحديًا وسط الجموع يهتف لأجل الحرية، وغيرها مما لا حصر له لكن هذا كله لا يحمل دلالة الغرائبية والأسطورة ولا هواتف ذكية ولا غناء ورقص كوسائل لاعنف المُحببة لدى الرواية الإستشراقية من النخب المحلية والغربية والتي توفرت كلها في مشهد "آلاء صالح".

 

وعلى هذا الأساس ومع مرور الوقت وتكاثر الأيقونات الثورية يتم نزع راديكالية الثورة وقتل أي حراك خلال مسيرة الثورة يطرح قضية "الصراع الطبقي" على جدول أعماله، وتُنزع فئة مٌختارة يُطلق عليها "شباب الثورة" أو "أيقونات الثورة" وتتماهى أو تختفي خلف هذا الأسم كل المطالب الثورية لعديد من الطبقات التي عانت وخرجت بالأساس من أجل تحصيل حقوقها.

النهاية

هذا ليس نقدًا لآلاء صالح التي لن تكون إلا ضحية للشائعات وأيقونة ثورية سرعان ما ستسقط (أي الأيقونة)، بل هو نقد لفكر الأيقونات ذاته، نقد لكل من يَسلب منا الفعل ويصنع لنا المسارات لننزلق فيها.

نحن شعوب مسؤولة عن أفعالها، تنادي بالحرية دون أن تعرف طريق مراكز الديمقراطية الأمريكية والغربية، تتعلم الممارسة الثورية دون تنظيرات كتيبات اللاعنف، لا تؤمن بنظرية المؤامرة ولكن تتعلم من تجاربها، تضع احتمالات للمستقبل المفتوح عبر التفكير والكتابة في القضايا العاجلة والراهنة عبر توزان دقيق بين الحُكم الشخصي والمنظور الواقعي.