في أواخر الخمسينيات اعتادت وزيرة الخارجية الإسرائيلية جولدا مائير بينما كانت في قاعات الأمم المتحدة، النظر حولها قائلة لنفسها ليست لنا عائلة هنا، لا يوجد من يشاركنا ديننا أو لغتنا أو ماضينا، وجيراننا الطبيعيون لا يريدون أي صلة بنا، ونحن لا ننتمي لأي مكان أو أحد سوى أنفسنا.
كانت مائير، التي أصبحت لاحقًا رئيسة للوزراء، تعي جيدًا أن بقية دول العالم تبدو كتلًا وتجمعات نشأت بسبب التاريخ والجغرافيا، واجتمعت في الأمم المتحدة لتخلق اهتمامات مشتركة بينها. وتعي كذلك أن بلادها، أول مولود للأمم المتحدة، تعامل كطفل غير مرغوب فيه (1).
لكن الأمور اليوم تبدو مختلفة. إذ تمكّنت تل أبيب من كسر العزلة المفروضة عليها من محيطها العربي، بتوقيع معاهدات سلام مع اثنتين من دول الطوق، في وقت تتمّدد دبلوماسيتها تجاه اختراق شبه الجزيرة العربية، وبات لخلفاء مائير عديد الصداقات في خواصر لطالما كانت خزانًا تاريخيًا للتضامن العربي، في أفريقيا تحديدًا.
عام 1955 استضافت مدينة باندونج في إندونيسيا القمة الأفروآسيوية وهي القمة المعروفة باسم قمة عدم الانحياز. أيد البيان الختامي للقمة الحق الفلسطيني في عقد تسوية على أساس قرارات الأمم المتحدة رغم المحاولات الإسرائيلية لتغييره. بعد 64 عامًا حضرت عشر دول أفريقية حفل نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، في خطوة سبقها رفض أو امتناع تسعة دول أفريقية عن التصويت علي قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بإدانة الخطوة الأميركية.
بين الحقبتين، عزلة إسرائيل الأفريقية ثم امتداد نفوذها في القارة السمراء، قصة طويلة ترويها الأسطر التالية عن منظومة استراتيجية هندستها تل أبيب طيلة نصف قرن، للتغلغل في القارة السمراء.
الماشاف: في البدء كانت التنمية
لم يمر الكثير من الوقت قبل أن يستوعب قادة إسرائيل عواقب مؤتمر باندونج الذي حضرته 29 دولة من بينهم 14 دولة عربية، ضمت في ثناياها ممثلين فلسطينيين.
في الجلسة الافتتاحية هاجم الرئيس المصري جمال عبد الناصر إسرائيل، التي لم تكن تمتلك إلا حليفًا واحدًا بين الحضور هي جمهورية بورما (ميانمار)، التي نجح السفير الإسرائيلي لديها ديفيد هاكوهين في تأمين تأييدها من خلال مساعدات تنموية وعسكرية ومنح دراسية لطلابها.
لكن بورما فشلت في تغيير البيان النهائي للمؤتمر، الذي اعتبره وزير الخارجية الإسرائيلي موشيه شاريت "هزيمة نكراء"، فأبرق إلى رئيس المؤتمر، مُعربًا عن أسفه الشديد على عدم دعوة بلاده، وعلى اتخاذ قرار سلبي على مستقبل علاقات إسرائيل بجوارها (2).
هزيمة باندونج أدّت إلى انتباه إسرائيل إلى أهمية الدول الأفريقية كخزان تصويتي في المحافل الدولية، وهو ما استلزم تغييرًا جوهريًا في العقيدة الاستراتيجية، عبّر عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول ديفيد بن جوريون في عبارات نقلها إيهود أبرئيل أحد كبار مخططي السياسة الإسرائيلية في القارة الأفريقية "يجب كسر الحصار المفروض علينا من الدول العربية المعادية وبناء الجسور إلى الشعوب المتحررة في القارة السوداء، يُمكننا أن نعرض على الأفارقة ما هو أكثر من الحماسة الدبلوماسية بكثير، فنحن نستطيع مساعدتهم في تنميتهم الاجتماعية والمادية".
كلمات بن جوريون ستُعرف لاحقًا بـ"سياسة شد الأطراف" والقاضية بتحييد واستقطاب الجوار العربي غير المرتبط بعداء مباشر مع إسرائيل في مثلث يمتد من أفريقيا جنوب الصحراء مرورًا بتركيا العلمانية وصولًا إلى إيران الشاهنشاهية، وستغدو تلك السياسة رابع أضلاع الاستراتيجية الإسرائيلية الكبرى القائمة على تطوير رادع نووي، إقامة علاقات مع قوة عظمى، والاستقطاب السريع لليهود في العالم (3).
توّلت وزيرة الخارجية جولدا مائير مهمة ترجمة سياسة شد الأطراف إلى إجراءات عملية خلال النصف الثاني من الخمسينات، ونسقّت جهودها في مسارين متوازيين، كان التقارب الدبلوماسي أولهما، إذ قامت بجولة شملت خمس دول أفريقية هي ليبيريا وغانا وغينيا وإثيوبيا وكينيا، ثم أرسلت مندوبين إلى الدول التي كانت ما تزال تحت الحكم الاستعماري، بغرض التعرف على الشخصيات الواعدة المفترض أن تكون على رأس الأنظمة الحاكمة في بلادها مستقبلًا.
أما المسار الثاني فتركّز على التعاون التقني، حيث تمكّنت مائير من إقناع بن جوريون بإنشاء وحدة في وزارة الخارجية تختص بدعم القارة في مجالات الزراعة وتطوير مصادر المياه وتنمية المناطق القاحلة وخدمة المجتمع. أطلق على تلك الوحدة اسم "ماشاف" وضمّت مؤسستين، الأولى هي مؤسسة المعهد الأفرو-آسيوي لدراسات العمال والتعاون والتي تولت تأهيل الدراسين من آسيا وأفريقيا في موضوعات الاقتصاد والتنمية، أما الثانية فكانت معهد الكرمل الذي اختص بتدريب النساء من الدول النامية بهدف إشراكهن في المجال العام.
جنت إسرائيل ثمار التغيير الاستراتيجي بوتيرة أسرع مما توقع زعماؤها. إذ ارتفع عدد بعثاتها الدبلوماسية في أفريقيا عام 1972 إلى 32 بعد أن كان الوجود الدبلوماسي مُقتصرًا عام 1957 على سفارة واحدة في غانا. كما افتتحت 12 دولة أفريقية سفارات في تل أبيب والقدس بدعم مالي من الحكومة الإسرائيلية في أسعار العقارات.
وفي نفس الحقبة الزمنية ارتفع عدد الطلاب الأفارقة الدارسين في إسرائيل من 60 طالب عام 1958 إلى 6797 طالبًا عام 1968، في حين سجّلت أعداد الخبراء الإسرائيليين الناشطين في القارة زيادة هائلة من 80 إلى 2763 خبيرًا.
وليس هناك أدّل على نجاعة سياسة اكتشاف الشخصيات الواعدة مما فعله آريه عوديد الذي أوفدته جولدا مائير إلى أوغندا تحت غطاء طالب في جامعة ماكريري، وهناك نسج علاقة وثيقة مع نفر من زملائه البارزين، كان من بينهم أوغنديًا يُدعي يوسف لولي، والذي سُيصبح رئيسًا للجمهورية لفترة وجيزة بعد سقوط عيدي أمين، ولن ينسي رد الجميل لصديقه السابق عندما كشف عن قبر الإسرائيلية الوحيدة التي لم تنج في عملية عنتيبي، دور بلوخ (4).
عقب حرب أكتوبر تعرّض البناء التراكمي الإسرائيلي إلى هزة هائلة بفعل هبوط التمثيل الدبلوماسي من 25 دولة عشية الحرب إلى خمس دول فقط في مطلع يناير 1974 هي جنوب أفريقيا ومالاوي وليسوتو وموريشيوس وبوتسوانا.
وبالمثل هبط عدد خبراء الماشاف إلى أدني مستوى في عام 1981 بعشرة خبراء فقط. لكن بعد انتهاء المقاطعة في منتصف الثمانينات عادت تل أبيب من بوابة المساعدات التقنية في مجال الزراعة بشكل مكثف، وبالأخص مشروعها الرئيس The African Market Garden والذي تنسقه مع منظمة الأمم المتحدة للاغذية والزراعة الفاو، وهيئة التعاون الفنلندية، بهدف مساعدة المزارع العائلية الصغيرة في المناطق القاحلة على استخدام وسائل الري ذات التكلفة المنخفضة ومن ثّم تقليل المخاطر وزيادة الإنتاجية، وتزامنًا مع ذلك نظّمت وحدة الماشاف ورشًا تدريبية خلال الفترة بين عامي 2002-2009 حضرها 9054 متدربًا يمثلون ثلاثين دولة أفريقية (5).
تبدو رسالة الماشاف خلال رحلة نصف قرن ذات أبعاد تنموية-إنسانية خالصة تتوائم، كما تقول الرواية الإسرائيلية، مع منظومة القيم اليهودية الساعية لإصلاح العالم، لكن تلك الرواية تُغفل عمدًا استخدام الذراع التنموي كظهير لنمو نفوذ شركات القطاع الخاص الإسرائيلية في ذات المجالات التي تنشط فيها الماشاف.
منذ البداية في ستينات القرن الماضي ارتبطت المساعدات الفنية الزراعية بحصول شركتي ألدا وأميران على حقوق تسويق الجرارات الزراعية الرومانية، وبناء مصانع الموالح في أوغندا والقطن في إثيوبيا وتنزانيا. تنمية موارد المياه لم تنفصل أيضًا عن عقود لمشاريع البنية التحتية تحصّلت عليها شركات تاهل وتسيم وسوليل بونيه وديزنجوف، والتي حقّقت أرباحًا بلغت قبل المقاطعة الأفريقية في السبعينات نحو 40 مليون دولار من صافي عمليات بلغت 300 مليون دولار.
واليوم لا تبدو العودة الإسرائيلية منفصلة عن ماضيها الربحي، حيث تسعى تل أبيب لدعم شركاتها الناشطة في مجالات الطب والزراعة والمياه والبنية التحتية، عبر قرار حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو توفير غطاء ائتماني خلال السنوات الأربع المقبلة بقيمة 700 مليون دولار تُقدمها شركة تأمين مخاطر التجارة الخارجية، بهدف مضاعفة الصادرات الإسرائيلية إلى أفريقيا، التي تقف اليوم عند حاجز 860 مليون دولار.
السلاح: الإخفاق وإعادة الإحياء
شكّل التعاون العسكري-الإستخباراتي ركيزة أساسية في المقاربة الإسرائيلية تجاه القارة الأفريقية خلال عقدي الخمسينات والستينات، لأن السلاح في العموم، على عكس أوجه التعاون الأخرى، يضمن تواصلًا مستمرًا مع كبار القادة بمن فيهم الرئيس ونائبه ووزير الدفاع، ولأن السلاح الإسرائيلي بالخصوص، سوف يقطع الطريق أمام التواصل العسكري بين أفريقيا ومصر.
في زائير دشّنت تل أبيب وجودها بالمساعدة في إنشاء مدرسة للمظلات يُشرف عليها 11 ضابطًا إسرائيليًا، وفي سيراليون أنشأت أكاديمية عسكرية لضباط المشاة، أما في غانا قد استجابت لطلب الرئيس الأول للبلاد بعد استقلالها كوامي نكروما بالمساعدة في إنشاء مدرستي البحرية والطيران، بينما اقتصرت أوجه التعاون الإسرائيلي-التنزاني على إنشاء تل أبيب مدرسة للمخابرات في دار السلام، مع تدريب ضباط الاستخبارات التنزانيين في تل أبيب، في حين اكتفت كل من تشاد وأفريقيا الوسطي بالخبرة الإسرائيلية في تأسيس وحدات حماية النظام. لكن أي من الدول السابقة لم تبلغ في تعاونها العسكري مع تل أبيب ما بلغته أوغندا (6).
في مطلع عام 1969 التقي جوزيف لاجو زعيم حركة أنيانيا المتمردة في جنوب السودان بالسفير الإسرائيلي في أوغندا، وسلّمه رسالة يطلب فيها دعمًا عسكريًا من تل أبيب، يسمح للحركة بتعزيز موقفها الميداني في مواجهة الجيش السوداني، وبالتالي استدراج الخرطوم إلى مواجهة داخلية تعوقها عن تقديم الدعم العسكري للقاهرة في مسعاها لاسترداد أراضيها المُحتلة بعد نكسة يونيو/حزيران 1967.
كان مُقررًا أن ينقل السفير الرسالة إلى رئيس الوزراء ليفي أشكول، بيد أن الأخير قضي نحبه قبل استلامها في فبراير/شباط 1969، وعندما خلفته جولدا مائير لم تتأخر كثيرًا في الإبراق إلى لاجو، الذي استجاب لدعوتها بزيارة القدس.
وبعد جولة شملت العديد من المواقع العسكرية، توصّل الطرفان إلى صفقة تتولّى بموجبها تل أبيب أمرين، الأول هو تدريب كوادر المتمردين وإرسال مستشارين عسكريين لمراقبة سير العمليات، والثاني تزويد المتمردين بالمدفعية والصواريخ المضادة للدبابات والأسلحة الثقيلة والخفيفة، شريطة الحفاظ على سرية التدخل، بألا تكون الأسلحة إسرائيلية أو أوروبية المنشأ، أما الوسيط الذي سيتولى نقل السلاح سرًا من تل أبيب إلى جوبا فلم يكن سوي الرئيس الأوغندي ميلتون أوبوتي (7).
منذ اللحظة الأولى لاستقلال بلاده عن الاستعمار البريطاني سعى أوبوتي للتقارب مع إسرائيل والأخيرة لم تفوت الفرصة. خلال عقد الستينات أمّدت إسرائيل أوغندا بست دبابات من طراز شيرمان وأربع طائرات تدريب من طراز بوخانا و12 طائرة نفاثة من طراز بوجا، وأنشأت مدرسة للمظلات في أوغندا، ودرّبت في مؤسساتها العسكرية 30 طيارًا أوغنديًا.
إسرائيل دعمت أوغندا ليس فقط لإيجاد موطئ قدم في أفريقيا، بل لتسهم أوغندا بدورها في الاستراتيجية الإسرائيلية كمعبر لتهريب السلاح إلى متمردي أنيانيا، وهو الأمر الذي تصّدى له الرئيس أوبوتي الذي أدان أيضًا العدوان الإسرائيلي على الدول العربية عام 1967، لكن قائد الجيش عيدي أمين لن يلتزم بسياسة الرئيس.
سيواصل أمين الذي تلقي تأهيله العسكري في سلاح المظلات في إسرائيل، تهريب السلاح إلى جنوب السودان، وسيدبر محاولة اغتيال للرئيس، وحين تفشل المحاولة وتتجه أصابع الإتهام إليه، سيتواصل مع صديقه الملحق العسكري الإسرائيلي في أوغندا، العقيد بارليف، والأخير لن يتوانى عن تقديم النصيحة والدعم بوحدة عسكرية مدربة تؤمن سلامة أمين (8).
الانقلاب على الرئيس لم يكن أكثر من مسألة وقت، حيث انتهز أمين زيارة أوبوتي إلى سنغافورة، وبسط سيطرته على السلطة. كان الاعتقاد السائد حينئذ أن المستعمر السابق، بريطانيا، يقف خلف الإطاحة بأوبوتي لتبنيه برنامجًا يساريًا، بيد أن المراسلات التي كُشف عنها النقاب لاحقًا بين المفوض البريطاني السامي في أوغندا ريتشادر سلاتر، وخارجيته في لندن، أظهرت حجم المفاجأة البريطانية، ليس بسبب محدودية علم لندن بتجهيزات الانقلاب، بل بسبب الدعم الإسرائيلي لأمين، إلى درجة امتلاك العقيد بارليف معلومات تفصيلية صبيحة الانقلاب عن أدواته في السيطرة على مفاصل السلطة وخططه للإجهاز على معارضيه.
إسرائيل التي ستؤمن للرئيس الأوغندي صفقات أسلحة بقيمة 7 ملايين دولار، ستعود لترفض إمداده بطائرات هجومية للإغارة على مواقع عسكرية في الجارة تنزانيا حيث ينشط أنصار الرئيس المخلوع أوبوتي. فما كان من أمين إلا أن بدأ بمهاجمة إسرائيل وأعلن قطع العلاقات الدبلوماسية معها، بعد أن طرد 500 من خبرائها، ومن ثم أدار بوصلته نحو العقيد القذافي للحصول على التمويل، ولمناصرة الحق العربي كغطاء سياسي جديد، واستمر التدهور في العلاقات الإسرائيلية-الأوغندية إلى حين بلغ فصلًا مروعًا، باختطاف طائرة الخطوط الجوية الفرنسية واحتجاز ركابها اليهود في عنتيبي الأوغندية على يد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في عملية سُتكلف جوناثان نتنياهو، شقيق رئيس الوزراء الحالي حياته، أثناء تدخل قوة خاصة إسرائيلية لتحرير الرهائن (9).
بقدر ما عكست أوغندا براعة التخطيط الاستراتيجي الإسرائيلي في اختراق أفريقيا جنوب الصحراء، بقدر ما شكّلت أيضًا ضربة قاصمة للسياسات العسكرية الإسرائيلية بعد استدارة عيدي أمين. إخفاق سيتضاعف بعد المقاطعة الأفريقية لإسرائيل أعقاب حرب أكتوبر.
لكن التراجع الإسرائيلي لن يستمر طويلًا. عام 1981 خاطب وزير الخارجية الليبيري الجمعية العامة للأمم المتحدة قائلًا "نحن نؤمن أن السبب الرئيس لقطع العلاقات مع إسرائيل هو التضامن مع مصر وسلامة أراضيها، أما الآن وقد تم تصحيح الأوضاع وتعايشت القاهرة مع تل أبيب، فإن الليبيرييين ليسوا أكثر مصرية من السادات".
كانت معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية إذن محفزًا أوليًا لكسر الجمود في العلاقات الأفريقية-الإسرائيلية، وهو الأمر الذي سوف تبني عليه الولايات المتحدة، عندما تُبرم مع إسرائيل في نفس العام معاهدة التعاون الاستراتيجي، التي ينص بندها الثالث على قيام واشنطن بوضع الأرصدة تحت تصرف إسرائيل لتمويل البرامج العسكرية في أفريقيا، والذي يعني تطبيقه العملي منح الإدارة الأميركية لإسرائيل وكالة لتقديم الدعم العسكري للأنظمة الأفريقية ذات السجلات السيئة في حقوق الإنسان والمهمة في الوقت نفسه للمصالح الأميركية.
زائير كانت المنتج الأول لإتفاقية المصرية الإسرائيلية ومعاهدة التعاون الإستراتيجي الإسرائيلية الأمريكية. إذ توجّه وزير الدفاع الإسرائيلي إرييل شارون في زيارة إلى كينشاسا عام 1983وأبرم اتفاقًا سريًا للتعاون العسكري، تُقدم تل أبيب بموجبه لنظام موبوتو معدات سوفيتية من الأسلحة التي غنمتها بعد اجتياح لبنان 1982، فضلًا عن تدريب الحرس الجمهوري وإنشاء فرقة من 12 ألف مقاتل في قاعدة شابا.
ليبيريا كانت المحطة التالية، عندما أمّدت إسرائيل قواتها الجوية بثلاث طائرات من طراز "أرافا"، وهو نفس الطراز الذي سوف تحصل الكاميرون على أربع من طائراته، إضافة إلى 12 طائرة من طراز "كفير"، في صفقة قُدرت قيمتها بخمسين مليون دولار.
أما في المحطة الأنجولية الرابعة فقد حصدت شركة الصناعات العسكرية الحكومية الإسرائيلية "تاعس" عقودًا لتوريد أسلحة للجيش الأنجولي بقيمة 52 مليون دولار (10). نيجيريا بدورها أبرمت خلال العقد الاول من الألفية الثالثة عقودًا دفاعية مع إسرائيل تناهز قيمتها 500 مليون دولار.
وفي غينيا الإستوائية قادت سيدة الأعمال ياردينا عوفاديا وساطة بين شركة إسرائيل للصناعات العسكرية المحدودة والحكومة المحلية لإبرام صفقة صواريخ وقوارب مراقبة ومركبات عسكرية تبلغ قيمتها زهاء 100 مليون دولار. أما شركة Global CCST الإسرائيلية فنالت عقودًا بقيمة 10 مليون دولار لتدريب الحرس الرئاسي في غينيا كوناكري بعد انقلاب موسى داديس كامارا في 2008 (11).
صادرات السلاح الإسرائيلية إلى أفريقيا استمرت تُسجل ارتفاعًا سنويًا بلغ ذروته 70% في 2017 لتصل إلى 275 مليون دولار، لكن الأمر لا يتوقف هنا، حيث كشفت القناة الثالثة عشر الإسرائيلية عن قيام قوات الكوماندوز الإسرائيلية بتكليف مباشر من نتنياهو بتدريب 12 من جيوش الدول الأفريقية، وأن بعضًا من تلك الدول المُدربة تشارك في مهام حفظ السلام على الحدود الإسرائيلية مع سوريا ولبنان.
دماء وألماس: كل رجال إسرائيل
منذ النصف الثاني لعقد السبعينات تحوّلت أنجولا إلى مسرح لحرب باردة بالوكالة بين الحكومة الوطنية بقيادة دو سانتوس المدعوم من الإتحاد السوفيتي وكوبا من جانب، وجبهة يونيتا المتمردة المدعومة من الولايات المتحدة ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا من جانب آخر. وعندما وضعت الحرب الباردة أوزارها بانهيار الإتحاد السوفيتي وسقوط نظام الفصل الجنوب أفريقي، لم يجد الرئيس الأنجولي مفرًا من إعلان التخلي عن الماركسية اللينينية كمدخل للتقارب مع واشنطن، التي بدورها استشعرت أن هناك فرصة للتهدئة مع دو سانتوس إذا ما قبل إجراء إنتخابات رئاسية وبرلمانية تُشرف عليها الأمم المتحدة وتشارك فيها جبهة يونيتا.
وافق الرئيس وأجريت الانتخابات في عام 1992 بيد أنها حملت نتائج مغايرة لآمال الإدارة الأميركية، بفوز الحركة الشعبية لتحرير أنجولا بـ 54% من مقاعد المجلس النيابي، مقابل 34% فقط لحركة يونيتا، وفوز الرئيس دو سانتوس بالرئاسة بـ 49.6% مقابل 40.1% لجوناس سافميبي، وحينما كان العالم يتهيأ لوضع السلاح جانبًا، خصوصًا مع تأكيد الأمم المتحدة نزاهة العملية الإنتخابية، رفضت يونيتا النتائج وعادت للقتال.
على الفور نقلت الولايات المتحدة تحالفها من سافميبي إلى دو سانتوس، الذي أثبت ولاءه عام 1995 بالامتناع عن التصويت لصالح قرار يدين الحصار الأميركي لكوبا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بينما على أراضيه كان ينشط 50 ألف مقاتل كوبي لطالما دعموه في حربه الطويلة ضد حلفاء واشنطن.
كانت عواقب انهيار السلام الهش مروعة، إذ فقد زهاء 300 ألف مدني أرواحهم خلال الموجتين الثانية والثالثة من اندلاع الحرب الأهلية في الفترة بين عامي 1994-2002، وهو ما استدعى الأمم المتحدة لفرض حظر على توريد الأسلحة لكافة الأطراف المتصارعة، إلا أن المصادفة فتحت طريقًا جديدًا أمام الرئيس الأنجولي.
في توقيت مماثل للحظر كانت العاصمة الفرنسية باريس تستقبل وفدًا أنجوليًا، وبعد جولة قصيرة التقى الوفد رجلي أعمال هما الفرنسي بيير فالكون، والإسرائيلي ذو الأصول الروسية أركادي جايدماك، واللذان كانا يبحثان عن مشترٍ لسبع طائرات هيلكوبتر أمّناها لصالح شركة بترول فنزويلية لكنها عجزت عن الدفع. عرض الوفد الأنجولي شراء صفقة الهيلكوبتر، لكن مقابل شحنات من النفط الخام عوضًا عن الأموال، وهو العرض الذي قبله الشريكان، ومن بعده لم تعد الأمور كما كانت (11).
أصبح فالكون وجايدماك صديقين مقريبين للرئيس الأنجولي الذي استقبلهما في العاصمة لواندا في مسار سيقود سريعًا إلى تدشين خط سري لتهريب السلاح. أنشأ جايدماك شركة صورية في شرق أوروبا تتولى إمداد النظام الأنجولي بالسلاح، بينما أصبحت شركة برينكو المملوكة لفالكون واجهة للتحويلات المالية بين باريس ولواندا، وأبرمت الصفقة الأولى التي اشتملت على 30 دبابة من طراز T-62 و40 ناقلة جند، ثم الثانية بـ 400 دبابة و1190 شاحنة و12 هيليكوبتر.
طوال حقبة التسعينات سيزدهر ذلك السوق السري محققًا حجم مبيعات بلغ 790 مليون دولار من الأسلحة المهربة لأنجولا، ولن يتوقف إلا بعد انكشاف أمر أطرافها في فضيحة دولية مُدوية عُرفت باسم "أنجولا جيت".
لم تشمل الفضيحة قطبيها فالكون –جايدماك فحسب، بل انضم إليهما زمرة من نخبة المجتمع الفرنسي وعلي رأسهم جان كريستوف ميتران ابن الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، الذي ثبت تلقيه 14 مليون فرنك وُضعت في حسابه السويسري، ووزير الداخلية الفرنسي السابق شارل باسكوا الذي تلقى 328 ألف يورو من شركة برينكو المملوكة لفالكون مقابل تأمين حماية دبلوماسية للأخير، وجاك أتالي المستشار السابق لميتران الذي حصل على 200 ألف يورو، وطالت الرشى التي أمّنها فالكون-جايدماك كبار المسؤولين الأنجولين بمن فيهم الرئيس وتسعة من كبار المسؤولين العسكريين والسفراء والوزراء الذين تلقوا هدايا بقيمة 41 مليون يورو خلال سبع سنوات.
أما مكافأة فالكون-جايدماك فلم تقتصر على عشرات ملايين الدولارات من العمولات، بل امتدت إلى امتيازات أدبية بحصول فالكون على منصب سفير أنجولا في اليونسكو، في حين كانت هدية جايدماك مزدوجة من الطرفين، باريس التي منحته ثاني أرفع أوسمتها، وسام الاستحقاق الوطني، ولواندا التي أمّنت لشريكه قطب الأعمال الإسرائيلي ليف ليفايف عقدًا زهيدًا لشراء 18% من منجم كاتوكا الأنجولي للماس مقابل 20 مليون دولار.
وحينما بدأت التحقيقات الفرنسية تم احتجاز ميتران الابن وفالكون، ولم تعثر الشرطة على أثر لجايدماك، الذي استبق إلقاء القبض عليه بالهرب إلى إسرائيل، استقر في القدس المحتلة، ورشح نفسه لإنتخابات عموديتها واشتري ناديها بيطار القدس، وأعاد، بمنهوباته الأفريقية، صناعة صورته الذاتية كملياردير يرعى فقراء اليهود الأرثوذكس بتبرعاته ويطيبهم في مشافيه الخيرية (13).
أتون الكونجو الديمقراطية
الكونجو الديمقراطية بدأت حربها الأهلية في وقت متأخر نسبيًا عن أنجولا. كان ذلك في منتصف التسعينات حينما قاد لوران كابيلا تمردًا مسلحًا أسقط الديكتاتور موبوتو بعد ثلاثة عقود أمضاها في السلطة، استقرت الأوضاع لفترة وجيزة قبل أن تنجرف البلاد إلى أتون ما سُيعرف لاحقًا بالحرب الأفريقية العظمى التي اشتركت فيها قوات ست دول مجاورة وأسفرت عن سقوط خمسة ملايين قتيل.
كانت الأطراف المتصارعة في مسيس الحاجة إلى تمويل، ولم يكن هناك ثمة مفر من عرض حقوق تعدين ثروات الكونجو المعدنية غير المستغلة المُقدرة بـ 24 تريليون دولار للبيع بصورة غير شرعية تتجاوز الحظر الدولي المفروض على التنقيب. رجل الأعمال الإسرائيلي دان جريتلر كان أحد القلائل الذين تملّكتهم روح المخاطرة.
ذهب إلى كينشاسا حيث التقى كابيلا الأب، وعرض عليه شراء حقوق تعدين الماس في كامل الأراضي الواقعة تحت سيطرة الحكومة الكونجولية مقابل 20 مليون دولار، وتحصّلت شركة جريتلر المسجلّة في تل أبيب إضافة إلى ذلك على 70% من الأرباح، أما الباقي فذهب إلى كابيلا.
كان يُمكن للأمور أن تستمر على هذا النحو، لولا تصاعد أطماع جريتلر الذي تحالف مع عملاق تجارة السلع السويسرية "جلينكور" لشراء 74% من أسهم شركة كاتانجا الحكومية الكونجولية التي تحتوي مناجمها في حزام النحاس نحو 49% من احتياطي الكوبالت العالمي، و5% من احتياطي النحاس، مقابل 500 مليون دولار فقط في صورة قروض وحقوق قابلة للتحويل.
كانت فضيحة الفساد كبيرة بما يكفي لاستثارة غضب الإدارة الأميركية التي شملت دان جيرتلر في قائمة عقوبات ماجنتيسكي بعد أن تسّبب في ضياع 1.3 مليار دولار من ثروات الكونجو، ونهب ما قيمته 1.5 مليار دولار شكّلت صافي ثروته التي وضعته في قائمة أغنى أغنياء إسرائيل (14).
القمع الغيني
ربما لم تختبر غينيا حربًا أهلية طاحنة كجارتيها، لكنها اختبرت تحت حكم أحمد سيكوتوري صنوفًا من القمع، تُخلدها أطلال معتقل "بويرو" الذي شُيّد على بعد ميلين من وسط العاصمة كوناكري. هناك قُتل أزيد من 10 آلاف معتقل من التعذيب، وهناك أعدم ديالو تيلّلي أمين عام منظمة الوحدة الأفريقية ووزير خارجية سيكوتوري فقط للاشتباه في خيانة مزعومة، وهناك أيضًا انعقدت آمال كبيرة ببداية عهد جديد على يد قائد الجيش لانسانا كونتي الذي وعد بإنهاء عصر المعتقلات وتسليم السلطة إلى رئيس مدني منتخب.
غادر كونتي الحكم ، لكن بعد أن أمضى 24 عامًا ختمها في 2008 بفضيحة اقتصادية مدوية. قبل وفاته بأسابيع ثلاثة استقبل كونتي رجل الأعمال الإسرائيلي بيني شتاينتمس الذي تعود أصوله إلى مدينة نتانيا الساحلية. أكمل شتاينمتس خدمته العسكرية في الجيش الإسرائيلي ثم قرّر السفر إلى أنتويرب البلجيكية أين أسس أولى شركاته المتخصصة في تجارة الماس، وعندما أصبح على مشارف العقد الرابع من عمره، قرّر توسيع نشاطه ليشمل الحديد، ولأجل ذلك الغرض سافر إلى غينيا أين التقي الرئيس كونتي على فراش مرضه.
مقابل رشوة بقيمة 35 مليون دولار لأسرة الرئيس ووعد بضخ استثمارات بقيمة 165 مليون دولار، تحصّلت شركة شتاينمتس الجديدة BSGR على رخصة في أحد مناجم حقل سيموندي الذي تُقدر احتياطاته من خام الحديد ب2.2 مليار طن بقيمة 140 مليار دولار. وبعد وفاة كونتي باع شتاينمتس 51% من حصته إلى عملاق التعدين البرازيلي فالي بقيمة 2.5 مليار دولار.
نهب سيموندي لم يُدفن مع جثمان كونتي كما تصوّر شتاينمتس، إذ فتحت واشنطن تحقيقًا بعد تقفي أثر تحويلات مالية حولّها مسؤول في شركة BSGR يُدعي فريدريك كلينز إلى حساب مدامي توريه زوجة الديكتاتور الغيني، وهي التي ستتعاون لاحقًا مع الشرطة الأميركية للإيقاع بكلينز بعد أن طلب منها تدمير أوراق تثبت حصول مسؤولين غينيين على رشى مقابل تسهيل استحواذ شتاينمتس على أصول منجم سيموندي.
سرعان ما اتسع نطاق التحقيقات من الولايات المتحدة إلى فرنسا التي يحمل شتاينمتس جنسيتها إلى جوار الإسرائيلية، وحينما جاء وقت المحاكمة، كان شتايمنتس في نفس المكان الذي فّر إليه رفاقه في نهب معادن أفريقيا جايدماك وجريتلر. في إسرائيل، أين وقف مخاطبًا محكمته الباريسية عبر الفيديو قائلًا "نحن الإسرائيليون نعرف جيدًا كيف نقاتل" (15).
شرق أفريقيا: الطموح التاريخي لإسرائيل
يمتد البحر الأحمر ما بين السويس متصلًا بخليجي العقبة والسويس شمالًا، وباب المندب متصلًا بخليج عدن المفتوح على المحيط الهندي جنوبًا، حاملًا على ضفتيه الأسيوية والأفريقية ست دول عربية تسيطر على 82% من السواحل المطلة عليه، بما يُعطيها ميّزة جيوبوليتكية هائلة بالتحكم في نقاط الحصار والخنق في باب المندب جنوبًا ومضيقي تيران وجوبال شمالًا، وبالتالي السيطرة على حركة الملاحة المدنية والعسكرية في أهم شريان ينقل البترول من شبه الجزيرة العربية إلى أوروبا والولايات المتحدة.
بهذا المفهوم وهبت الجغرافيا لمصر إبان المواجهة مع إسرائيل أفضلية استراتيجية، فهي لا تسيطر فحسب على 898 ميلًا تضم 26 جزيرة على طول البحر الأحمر، بل تمتلك أيضًا عمقًا استراتيجيًا يُمكن توظيفه وقت الأزمات على طول السواحل السودانية والسعودية واليمنية.
ولمواجهة هذا التحدي كان يتعيّن على تل أبيب البحث عن حلفاء، ولم يكن هناك خيار أنسب من إثيوبيا التي ظلّت دولة برية، حبيسة ومغلقة في الهضبة الحبشية، إلى أن بسطت هيمنتها على إريتريا في إطار فيدرالي عام 1952 ثم أدمجتها في الإمبراطورية عام 1962 لتحصل بذلك على 425 ميلًا و126 جزيرة منحتها منفذًا بحريًا على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر (16).
انطلاقة العلاقات الإثيوبية-الإسرائيلية كانت متواضعة على الصعيد الإقتصادي واقتصرت على المساعدات التنموية، حيث أوفدت تل أبيب عشرين خبيرًا للعمل في مجالات الزراعة والطب، وثلاثة جيولوجيين كمستشارين في وزارة التعدين، في حين حاز القطاع الخاص الإسرائيلي على عقود لرصف الطرق عبر شركة سوليل بونيه، وإنتاج الأدوية من خلال شركة آسيا والدا، وبنهاية الستينات لم تكن حصيلة تلك العلاقات التجارية تتجاوز الأربعة ملايين دولار.
لكن على النقيض تمامًا كانت العلاقات العسكرية، حيث قام الإسرائيليون بإنشاء وحدات الكوماندوز الإثيوبية وتدريب 3200 من عناصرها، كما أسّسوا وحدات حرس الحدود وزودوها بالأسلحة، وحين تعرّض الإمبراطور هيلا سيلاسي لانقلاب عسكري أثناء زيارته للبرازيل عام 1960، لم يجد أفضل من السفارة الإسرائيلية في العاصمة الليبيرية منروفيا للاستعلام عن الوضع الميداني، وإيصال رسالة لأتباعه، وتمكّن بفضل تلك المساعدة من العودة وإحباط الإنقلاب.
في المقابل حوّلت إسرائيل إثيوبيا إلى مركز للتجسس على العرب وأفريقيا، عبر شركة "أنكودا" المتخصصة في تصدير اللحوم الإثيوبية والتي كانت غطاءً للموساد، يضم بعثة أمنية كبيرة، تتولّي التنسيق مع العملاء في الدول العربية. أحبطت إسرائيل ثلاث محاولات إنقلابية ضد الإمبراطور سيلاسي، لكنها فشلت في الرابعة عندما أطاح الجيش به في سبتمبر/ أيلول 1974، فاتحًا المجال أمام ظهور الحاكم الجديد، الجنرال منجستو هيلا ميريام (17).
تزامن سقوط الإمبراطور مع اشتعال النشاط العسكري للحركة الوطنية الإريترية، التي انقسمت في مساعيها التحررية إلى جبهتين، الأولي "حركة تحرير إريتريا" التي أكّدت في برنامجها التأسيسي على الإنتماء العروبي والسعي لتنسيق النضال المشترك مع الأمة العربية في مواجهة الصهيونية، والثانية هي "الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا" التي هيمن على قرارها تيار مسيحي-أفريقاني يرى ضرورة الاحتفاظ بمسافة بعيدة عن العرب.
هنا ظهرت المخاوف الإسرائيلية من أن تنتصر الحركة ذات البعد العروبي-الإسلامي في صراعها مع أثيوبيا، فينتهي الأمر إلى تحويل البحر الأحمر إلى بحيرة عربية داخلية خالصة، بما يحمله ذلك من مخاطر إغلاق مضيق باب المندب، وشل حركة ميناء إيلات وتعطيل التجارة البحرية مع جنوب شرق آسيا وساحل شرق أفريقيا، وهو الأمر الذي استدعى توفير دعم غير مسبوق للنظام الماركسي الجديد، إذ أمدّت تل أبيب قائد الانقلاب بطواقم لطائرات F-5 أميركية الصنع، ودبابات روسية من طراز T54 و T55 من غنائم حرب أكتوبر، وحتى بعد انقطاع الاتصالات العسكرية بين الطرفين على خلفية غضب منجستو من كشف وزير الخارجية موشيه ديان للتعاون السري، أصرّت إسرائيل على استكمال التعاون وتحديث جهاز الاستخبارات المركزي، لكن الدعم العسكري لم يمر دون ثمن (18).
حتى نهاية السبعينات كانت الطغمة العسكرية الإثبوبية ترفض السماح بهجرة يهود الفلاشا إلى إسرائيل، فاضطُرت الأخيرة إلى تهريبهم سرًا عبر رحلات تابعة لطائرات الشحن الأميركية، وهو المسعى الذي لم ينجح في تهريب سوى 1400 فلاشي. إثر ذلك طلب بيجن من السادات التوسط لدى الرئيس السوداني جعفر النميري لتحويل الخرطوم إلى ترانزيت لهجرة الفلاشا إلى كينيا ومنها إلى إسرائيل.
وافق النميري وعندما انكشفت العملية لجأ الموساد إلى استخدام شركة سياحية كواجهة لنقل الفلاشا، وخصّص النميري أيضًا قطعة أرض على البحر الأحمر استخدمها الكوماندوز الإسرائيلي لتهريب ألفين من الفلاشا. لكن تلك الوسائل البدائية لم تكن ناجعة في التعامل مع أعداد الفلاشا المتزايدة في السودان، فطلبت الحكومة الإسرائيلية فتح خطوط طيران مباشرة بين الخرطوم وتل أبيب، ووافق النميري مقابل وضع 60 مليون دولار في حساباته المصرفية في جنيف ولندن، في عملية عُرفت بالاسم الكودي "موشيه" (19).
وحينما تأزم الموقف العسكري لحكومة منجستو خصوصًا مع انحسار الدعم السوفيتي، وجدت إسرائيل الفرصة مناسبة لإجبار إثيوبيا على هجرة الفلاشا برحلات جوية مباشرة بدلًا من مسارات التهريب الملتوية، وهو الأمر الذي تحقق في صفقة ثلاثية بين تل أبيب وأديس أبابا وواشنطن، تقضي بسماح منجستو للجيش الإسرائيلي بنقل الفلاشا مباشرة من إثيوبيا، مقابل إمداد نظامه بالمزيد من الأسلحة، ولكن اشترطت واشنطن ألا تكون أسلحة فتاكة، وهو الطلب الذي تجاهلته إسرائيل بتزويد منجستو، الذي بلغ عدد ضحاياه نصف مليون، بمئات القنابل العنقودية (20).
وتُوّجت جهود نقل الفلاشا في الأخير بعملية سليمان التي استمرت ثلاثين ساعة ونُقل خلالها 14 ألف فلاشي من أديس أبابا إلى تل أبيب على متن طائرات العال، بإشراف مباشر من رئيس الأركان الإسرائيلي أمنون شاحاك.
كان انهيار النظام الإثيوبي حتميًا بفعل فقدان وظيفته الاستراتيجية كظهير سوفيتي في شرق أفريقيا، واتساع رقعة الاحتراب الأهلي مصحوبًا بشيوع المجاعة منذ منتصف الثمانينات، وفي الأثناء كانت الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا تنتزع بقوة السلاح نفوذًا ميدانيًا وكذا شرعية سياسية كممثل أوحد للشعب بعدما حسمت صراعها الداخلي المسلح ضد جبهة تحرير إريتريا ذات الإنتماء العروبي-الإسلامي.
التقطت واشنطن تلك التغييرات وسرعان ما نسجت حبال الصداقة مع الصاعد الجديد للسلطة في إريتريا، أسياس أفورقي، الذي دُعي إلى مأدبة عشاء والتقى هيرمان كوهين مساعد وزير الخارجية للشؤون الإفريقية. لعب كوهين دور وساطة مزدوج، الأول بين أديس أبابا وأسمرة لتسريع عملية استفتاء تُفضي نتيجتها الحتمية إلى استقلال إريتريا، والثاني بين أسمرة وتل أبيب أفضى إلى قبول أوراق منشاي تسيبوراي كأول سفير إسرائيلي في إريتريا، قبل حتى إعلان الإستقلال.
في غضون خمس سنوات حصلت إسرائيل من النظام الإريتري على حق استعمال جزيرة دهلك الواقعة قبالة مرفأ مصوع لتصبح قاعدة جوية وبحرية لمختلف الغواصات، إحداها غواصة دولفين الألمانية النووية، أما الغواصات المخصصة للمهام الروتينية في الطرف الجنوبي من مضيق باب المندب، فتستخدم جزرًا إريترية قريبة كمحطات مراقبة وقواعد للإمداد، وبالمثل شيّد سلاح الجو الإسرائيلي قواعد في منطقتي أومال وجبال محار أغار بالقرب من حدود السودان.
وفي المجالات المدنية بدأت السفن الإسرائيلية تجوب مياه البحر الأحمر لأغراض بحثية مثل البعثة العلمية لدراسة المرجان وبعثة البحر الأحمر الأولى بقيادة تسيفي دوبنسكي، كما وُقع اتفاق بين حكومتي البلدين في يونيو 1995 تمكّنت بموجبه السفن الإسرائيلية من الصيد في المياه الإقليمية الإريترية (21).
عام 1948 طالب بن جوريون موشي ديان بالحصول على منفذ على البحر الأحمر. دُفع الثمن وكانت النتيجة أكبر مما تصور أي متفائل في تل أبيب يومًا؛ إريتريا التي تمتلك 1300 كيلومترًا على سواحل البحر الأحمر.
غابت مصر وحضرت إسرائيل
طيلة نصف قرن أسست إسرائيل بخطوات محكمة لنفوذها الأفريقي على أكتاف ثلاثية المال/ السلاح/ الماس، وجنت في المقابل مكسبها الإستراتيجي الأثمن بإيجاد موطئ قدم قرب القرن الأفريقي، ولا يبدو أن محطات التوغل الإسرائيلي في القارة السمراء تعرف سقفًا للطموح.
قبل سنتين أطلق نتنياهو شعار "إسرائيل تعود إلى أفريقيا، وأفريقيا تعود إلى إسرائيل"، ثم أتبعه بزيارة تاريخية إلى أربع دول أفريقية، توّجها بخطاب مفعم بالوعود التنموية أمام البرلمان الإثيوبي، ثم بزيارة نوعية إلى دولة إسلامية كتشاد، وأخرى قبل أيام افتتح خلالها السفارة الإسرائيلية في رواندا بعد أربعة عقود من القطيعة.
وإذا كان التفكير الإستراتيجي لأسلاف نتنياهو الأوائل يهدف إلى استخدام أفريقيا كمخلب قط في مواجهة المد المصري، فإن الأمور الآن قد تغيّرت، انكفأت القاهرة على شؤونها الداخلية وانحسر نفوذها في محيطها الأفريقي وتوثّقت صلاتها الأمنية والعسكرية مع إسرائيل، وأصبحت أفريقيا ميدانًا لحرب صامتة بين قوتين لا مكان لمصر بينهما، إسرائيل وإيران.
المراجع
1-كتاب "حياتي"، جولدا مائير، الفصل الحادي عشر "صداقات أفريقية وغيرها"، ص: 241-242.
2-كتاب "إسرائيل وأفريقيا: العلاقات الإسرائيلية الأفريقية"، آري عوديد، الفصل الأول "شهر العسل: أهداف إسرائيل في أفريقيا"، ص.24
3-ورقة بحثية "ثمار شد الأطراف: سياسة إسرائيل تجاه أفريقيا"، محمود عاشور، مركز الحضارة للدراسات والبحوث.
4-آريه عوديد، مرجع سبق ذكره، ص: 39-42.
5-كتاب "الاختراق الإسرائيلي لإفريقيا"، حمدي عبد الرحمن حسن، الفصل السادس "أدوات الاختراق والهيمنة الإسرائيلية لأفريقيا"، ص: 90-93
6-آري عوديد، مرجع سبق ذكره، ص: 78-83
7-كتاب مُحرر "انفصال جنوب السودان: المخاطر والفرص"، الفصل السادس "التدخل الإسرائيلي في السودان"، محمود محارب، ص: 215-217.
8-Idi Amin’s Israeli Connection, Helen Epstein, The Newyorker, June 27, 2016
9-المرجع السابق.
10-ورقة بحثية "عودة إسرائيل إلى أفريقيا 1980-1990"، كمال إبراهيم، مجلة الدراسات الفلسطينية، المجلد 1، العدد 2، ص: 14-15.
11-Israeli Arms Transfers to Sub-Saharan Africa, Siemon T. Wezeman, Sipri, Oct, 2011.
12-كتاب "التكالب على نفط إفريقيا"، جون جازفينان، الفصل الثالث "بلد في أفريقيا"، ص: 177-179.
13-The Sordid Tale of 'Angolagate,Stefan Simons, Spiegel International, Oct 17, 2008.
14- Special report: The biggest company you never heard of,Eric Onstad, Reuters, Feb 25, 2011.
15- The corruption deal of the century: How Guinea lost billions of pounds in Simandou mining licensing, Nick Kochan, The Independent, 17 June, 2013.
16- كتاب "صراع القوى العظمى حول القرن الأفريقي"، صلاح الدين حافظ، الفصل الثاني "محاور الصراع الاستراتيجي من البحر الأحمر إلى القرن الإفريقي" ص: 55-62.
17-ورقة بحثية "إسرائيل والقرن الإفريقي: العلاقات والتدخلات"، محمود محارب، دورية سياسات عربية، العدد 3، يوليو، 2013.
18-آريه عوديد، مرجع سبق ذكره، ص: 286-287.
19- انفصال جنوب السودان: المخاطر والفرص، مرجع سبق ذكره، ص: 221-222.
20- Did Israel Help Create Africa’s Secret Aleppo?, Gabriel Pogrund, Haaretz, Sep 22, 2016.
21- ورقة بحثية "إريتريا في عهد أفورقي: انتصار استراتيجي لإسرائيل"، مي شمعة، مجلة الدراسات الفلسطينية، المجلد 16، العدد 64، ص: 8-11.