طرحت الاضطرابات العنيفة التي تشهدها إسرائيل منذ أسابيع بشأن مقترحات التعديلات القضائية لحكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة، أسئلة جوهرية بشأن مفاهيم الديمقراطية وحكم الأغلبية والفصل بين السلطات واستقلال القضاء، تتجاوز حدودها إسرائيل وتمتد إلى العالم بما فيه الولايات المتحدة، الحليف الأقرب للدولة العبرية.
ولا يمكن الدخول في الإجابات بشأن القضايا الشائكة التي تطرحها التظاهرات الحالية في إسرائيل من دون إعادة التأكيد أولًا على أن إسرائيل دولة احتلال عنصري، وأن الجدل بشأن ما تسميه حكومة نتنياهو بالإصلاحات القضائية أمر لا يعني سوى الإسرائيليين فقط ورؤيتهم لأنفسهم ونظامهم "الديمقراطي" الذي دائمًا ما يتفاخرون به باعتباره الاستثناء وسط صحراء السلطوية والديكتاتورية، في ازدواجية مذهلة للمعايير والتفرقة ضد الفلسطينيين على أساس عرقي وديني.
فمنذ أن فاز التحالف اليميني بالانتخابات الأخيرة في إسرائيل، تدفع حكومة نتنياهو بمجموعة من الإصلاحات، أثرها النهائي إضعاف المحكمة العليا الإسرائيلية التي يرون فيها عدوًا لقيمهم الدينية المحافظة وعائقًا في بعض الأحيان أمام الإنكار الكامل لأبسط الحقوق الآدمية للفلسطينيين القابعين تحت الاحتلال، خاصة فيما يتعلق بالتوسع القانوني والقتل خارج القانون.
ما تقترحه تعديلات حكومة نتنياهو ببساطة هو أن يكون للبرلمان، حيث يملك الأغلبية، الحق في تعيين قضاة المحكمة العليا، وكذلك رفض قراراتها اذا تعارضت مع خطط حكومته، بما في ذلك رفض أي قرار محتمل من المحكمة العليا بعزل رئيس الوزراء. ويزعم نتنياهو أن الغرض من تلك التعديلات هو "استعادة التوازن بين أعضاء البرلمان المنتخبين، والقضاة غير المنتخبين"، وهو ما يعني وفقا لتصريحاته "تقوية الديمقراطية وليس نهاية الديمقراطية".
بالنسبة لنتنياهو؛ فإن منح البرلمان حق رفض قرارات المحكمة العليا الإسرائيلية له بعد شخصي، باعتباره متهمًا في عدة قضايا فساد وتجري محاكمته حاليًا. كما أن المحكمة العليا سعت مبكرًا لإعاقة تشكيل حكومته ومنعته من تعيين زعيم حزب شاس، آريه درعي، وزيرًا لأنه أدين في قضية فساد، وهو ما يتعارض مع القانون الإسرائيلي. ورفضت المحكمة سعي نتنياهو التحايل على هذا القانون بتمرير تعديل يقصر حرمان المدانين ممن دخلوا السجن فعليًا من تولي المناصب العامة، إذ عوقب درعي بالسجن مع وقف التنفيذ.
تحولات سياسية وديموغرافية
ولكن محاولات نتنياهو للتحايل لم تقنع مئات ألوف الإسرائيليين الذين أعلنوا ما يشبه العصيان المدني الكامل وهددت العديد من القطاعات الحيوية بالإضراب، بما في ذلك جنود وضباط الاحتياط في الجيش والمطارات والموانئ والاتحاد العام للعمال (الهيستدروت)، ما أجبر نتنياهو ولو مؤقتًا على تجميد مقترحاته.
غالبًا لن يتحقق ذلك التوافق، لأن التعديلات التي يرغب فيها نتنياهو وحلفاؤه تعكس بشكل أكبر الانقسامات القائمة داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه.
فبالنسبة لليمين الإسرائيلي، المحكمة العليا جزء من "الدولة العميقة" التي يسيطر عليها من يمكن وصفهم بـ"الآباء الأوائل" لإسرائيل الذين أتى غالبيتهم من أوروبا بعقلية علمانية غربية (الأشكيناز)، ويسعون لترسيخ المفاهيم الليبرالية وعلى رأسها دعم حريات المثليين والإجهاض، ما يتناقض تمامًا مع أولويات اليهود المحافظين الذين تنحدر غالبيتهم من أصول عربية وشرقية (السفارديم).
فإسرائيل الآن ليست نفس إسرائيل التي نشأت قبل 75 عامًا، وتغيرت تركيبتها الديموغرافية مع موجات هجرة متتالية من مختلف أطراف العالم، إلى جانب أن معدلات الإنجاب بين المتدينين والمحافظين أعلى، مقارنة بالمنحدرين من أصول أوروبية ومعظمهم من أنصار التوجه الليبرالي والديمقراطي.
وبالتالي عندما جرت الانتخابات الأخيرة، فإنها عكست تلك التغيرات الديموغرافية ونمو نفوذ المتدينين والمحافظين، والذين يزدريهم العلمانيون باعتبارهم "عالة على الدولة" حيث يتفرغون للدراسة اللاهوتية ولا يلتحقون بالجيش على عكس باقي المواطنين.
الولايات المتحدة تمتلك دستورًا راسخًا يتضمن العديد من الآليات التي تضمن الفصل بين السلطات، أما إسرائيل حديثة النشأة فلا تمتلك دستورًا حتى الآن
وبالتالي عندما احتشد أنصار التيارات العلمانية في مختلف المدن الإسرائيلية لرفض التعديلات القضائية، هدد أنصار اليمين بما لهم من قوة ونفوذ بتنظيم مظاهرات مضادة دفاعًا عما يرون أنه الأغلبية التي فازوا بها في الانتخابات الأخيرة، وهو ما يعني عمليًا دفع إسرائيل نحو الحرب الأهلية.
ويبقى السؤال الجوهري في إسرائيل أو في أي دولة أخرى تدعي تبني نظام ديمقراطي، هو مفهوم وحدود استقلال القضاء، وإذا ما كانت الأغلبية المنتخبة لها الحق في التدخل لتغيير قواعد الفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية التي عادة ما تنص عليها الدساتير.
بالنسبة لليمين الإسرائيلي، هم من فازوا في الانتخابات، وبالتالي يحق لهم إدخال ما يريدون من تغييرات، وطبعًا هذه هي الوصفة السحرية لحالة الفوضى القانونية لأنه من غير المعقول أن تقوم كل حكومة فائزة بالأغلبية بتعديل الدستور والقوانين.
الحلم الأمريكي
وفي محاولة لمواجهة الانتقادات الأمريكية الحادة وغير المسبوقة لإسرائيل بسبب مقترحات التعديلات القضائية التي يرغب فيها نتنياهو وحلفاؤه، والتي بلغت حد مطالبة الرئيس الأمريكي جو بايدن لرئيس الوزراء الإسرائيلي علنًا بالتخلي عنها في تدخل غير مسبوق فيما يفترض أنه شأن داخلي لحليف مقرب، يرد أنصار الحكومة الإسرائيلية أن ما يرغبون فيه هو نقل النموذج الأمريكي إلى إسرائيل، حيث القضاة هناك منتخبون، بما في ذلك قضاة المحكمة العليا، الذين يقترح الرئيس أسماءهم ثم يعتمدهم مجلس الشيوخ بأغلبية ثلثيه.
وعلى هذا الأساس، فإن الغالبية الحالية في المحكمة الأمريكية هي للمحافظين بأغلبية 6 مقابل ثلاثة وذلك بعد أن عيّن ترامب ثلاثة قضاة محافظين دفعة واحدة في فترته الرئاسية الوحيدة. وبالتالي كان من أوائل القرارات التي اتخذتها المحكمة العليا بتشكيلها المحافظ، إلغاء قانون يعتبر الإجهاض حقًا دستوريًا.
ولكن المقارنة هنا غير جائزة مطلقًا. فالولايات المتحدة تمتلك دستورًا راسخًا يتضمن العديد من الآليات التي تضمن الفصل بين السلطات، أما إسرائيل حديثة النشأة فلا تمتلك دستورًا حتى الآن وتعتمد محكمتها العليا على مجموعة من القوانين الأساسية التي اعتمدها الكنيست عام 1948. كما أن النظام القائم في الولايات المتحدة فيدرالي يمنح الكثير من الاستقلالية للولايات في اعتماد القوانين التي يقرها سكانها، إلى جانب وجود عدة مؤسسات تمر من خلالها القوانين لضمان عدم طغيان الأغلبية أو تمرير قوانين قد تمثل اعتداءً على الحقوق الأساسية للأقلية الخاسرة.
أما إسرائيل، فلا يوجد لديها سوى هيئة تشريعية واحدة فقط هي الكنيست، وبالتالي فإن منح الحق للحكومة الفائزة بتعيين القضاة ورفض قرارات المحاكم سيؤدي عمليًا إلى حالة من الفوضى التشريعية ويهدد حقوق الأقليات.
ولكن يبقى التشابه قائمًا بين الولايات المتحدة وإسرائيل من ناحية تسييس استقلال المحاكم والقضاة، حيث يتهم أنصار كل تيار سياسي الآخر باستخدام السلطة القضائية لخدمة مصالحه السياسية، مثل ترامب الذي يواجه المحاكمة الآن ويلقي باتهاماته في وجه من يحاكموه.
وفي ولاية تكساس المحافظة، أصدر قاضٍ معروف بتدينه، وعينه ترامب كذلك، قرارًا الأسبوع الماضي يحظر استخدام حبوب الإجهاض في الولاية بينما يتم النظر في قضية رفعتها عدة منظمات مناهضة للإجهاض. كذلك أصدر قاضٍ آخر في واشنطن حكمًا يمنع السلطات الفيدرالية من حظر بيع حبوب الإجهاض التي يتم تناولها في الأسابيع العشرة الأولى من الحمل. أما في ولاية ويسكنسون فاحتفل الديمقراطيون بانتخاب قاضية ليبرالية للمحكمة العليا للولاية فيما وصفوه انتصارًا تاريخيًا في الولاية المتأرجحة.