هكذا رأت فيرجينيا وولف في الفصل الأول من روايتها غرفة تخص المرء وحده، وقد دأبت الناشطات في مجالات حقوق المرأة مرارًا على تفسير العبارة باعتبارها إشارة إلى حاجة النساء إلى ما يوفر لهن الأمان والاستقلالية أولًا، ليبدعن كما شاء لهن وحي الكتابة.
وفي تفسير آخر، لطالما آمنت به شخصيًا، أظن الأمر يتعلق في أحد أبعاده بالحالة الإبداعية للكتابة، والحساسية تجاه الظروف المحيطة التي تفرض نفسها على الكاتب أو الكاتبة، فيسقط أحداثًا حقيقية ومآسٍ واهتمامات شخصية على أبطال الرواية إما برغبته أو رغما عنه.
وبتفهّم وضع النساء وتداعيات كونهن تابعات بالأساس، وخوفًا من عواقب تصريحات شخصية أو إسقاطات تضعها المرأة في روايتها، صرّحت بجملتها الأشهر وآمنت بدعم الاستقلالية أولا خوفًا من غضب الآخرين من شكواها أو من كونها ربما أفشت أسرارًا وحقائق "أكثر مما يجب".
مثل هذه صعوبات لم تكن بالطبع لتواجه الرجال في ذاك العصر؛ كونهم مستقلين ولا يعانون من النظرة القاسية للمجتمع.
الأم تراقبكِ
في تصدير لإحدى طبعات رواية سيلفيا بلاث الوحيدة الناقوس الزجاجي، تقول فرانسيز ميكالا المحررة الأمريكية الشهيرة، والتي حررت كتاب يوميات سيلفيا بلاث، إنه " في الوقت الذي صدرت فيه الناقوس الزجاجي في لندن، كانت بلاث تعاني بسبب انهيار حياتها من جميع الجوانب؛ كان زواجها من الشاعر تيد هيوز انتهى، وكانت في حالة ذعر من حالتها المادية المتردية، انتقلت لتوها إلى شقة خالية الوفاض في لندن مع طفليها الصغيرين في أبرد شتاء حلّ على بريطانيا خلال مائة عام. وكان الثلاثة مصابين بالأنفلونزا، ولم يكن هناك هاتف، ولم تتلق من أي كان مساعدة في رعاية الأطفال".
ظروف مثالية للقلق حول الإبداع بحسب نظرية السيدة وولف فيما يبدو.
وتؤكد فرانسيز ميكالا في تصديرها لكتاب سيلفيا المذكور نفس المبدأ، وذلك بمناسبة حوار مع ناقدة نسائية بارزة ـ لم تذكر ميكالا اسمها ـ تساءلت في أسى عن احتمال بلاث لصنوف الهوان، بينما كان يمكنها أن تهرب من جحيم هيوز في أي وقت.
استنكرت ميكالا بداهة الإجابة "كما لو كان ذلك خيارًا متاحًا لبلاث في ذلك الوقت! شابة أمريكية تعيش وأطفالها في الريف الأمريكي من دون مساعدة أو مصدر ثابت للرزق!!".
تشابهت ظروف بطلة الناقوس الزجاجي وكاتبتها، وتوحدت أحلامهما وتماثلت مخاوفهما تقريبا؛ "شاهدتُ حياتي تتفرع أمامي مثل شجرة تينِ تلك الحكاية، ومن طرف كل غصن، مثل تينة أرجوانية ممتلئة، كان مستقبل رائع يومئ لي ويغمز لي بطرف عينيه. كانت إحدى التينات زوجًا ومنزلا سعيدًا وأطفالا، وأخرى شاعرة مشهورة، وثالثة أستاذة جامعية متميزة، ورابعة إي جي المحررة المدهشة، وخامسة أوروبا وأفريقيا وجنوب أمريكا، وسادسة قسطنطين وسقراط وأتيلا وحفنة عشاقٍ آخرين بأسماء غريبة ومهن غير عادية، وسابعة بطلة الفريق الأولمبي للسيدات، وكانت فوق كل تلك الثمرة ثمارٌ أخرى لم أستطع تمييزها.
رأيتني جالسة في منشعب أغصان شجرة التين تلك أتضور جوعًا حد الهلاك، ذاك أنني لم أقرر أي الثمار أختار. كنت راغبة في كل واحدة منها، غير أن اختيار واحدة يعني التخلي عن الأخريات. جلست هناك عاجزة عن اتخاذ القرار المناسب، فراحت الثمار تذبل وتسود؛ ثم سقطت واحدة واحدة بين قدميَّ". رواية الناقوس الزجاجي، ترجمة: توفيق سخان. من إصدار دار كلمة، أبو ظبي للثقافة والتراث.
خشت سيلفيا أن تستقي أمها مواطن التشابه بين ابنتها وبطلة روايتها، وذلك لاعترافات بلاث في الرواية بضيقها من أمها الذي وصل مع اضطراباتها النفسية حد الكره أحيانًا "كانت أمي هي الأسوأ، لم تنهرني أبدًا، لكنها لم تكف عن التوسل إليّ، بوجه حزين، لأخبرها عن الخطأ الذي اقترفَته، قالت إنها متيقنة ان الاطباء يظنون أنها اقترفت شيئا خطأ، وكنت قد حظيت بتربية مثالية، ولم أكن مصدر إزعاج لها أبدًا".
جاءت رواية بلاث الحاملة لشذرات من حياتها بما هو أكثر من أغراض التحرر من الماضي، فبدت كاعترافات يائسة لمريض اكتئاب، أو صرخة مستغيثة "قررت قضاء الصيف في كتابة رواية، سيكون ذلك بمثابة انتقام من أشخاص كثيرين".
تغييب الوعي بالإدمان ثم استدعاؤه بالكتابة
عاشت آنا بيرنز الحاصلة على البوكر مان لعام 2018 في آيرلندا الشمالية عندما وقعت "الاضرابات"، ونقصد هنا النزاع الطائفي بين القوميين الأيرلنديين من الكاثوليك، والاتحاديين الموالين للتاج البريطاني من البروتستانت. عانت الشوارع التي نشأت فيها بيرنز من مظاهر العنف والصراعات الدموية، وكانت الوسيلة الوحيدة للهروب من هذا الجحيم هو الإنكار وبالتالي لجأت إلى الشراب في عمر صغيرة حتى انتهى بها الأمر إلى الإدمان.
بعد فترة من التحاقها بالجامعة في لندن لتعلّم اللغة الروسية قررت ترك الدراسة لتقلع عن إدمانها، تقول بيرنز في حوار لجريدة بيلفست تيليجراف "عندما أقلعت عن الشراب، شعرت بحزم مروع. كيف يمكنني أن أمارس حياتي الاجتماعية مرة أخرى والخروج ليلًا بينما تتمحور كافة النشاطات الليلية حول الشراب؟".
وجدت آنا ضالتها في الكتابة، وقررت الهروب من جحيم الماضي بالكتابة، بالتطهر من كل مشاعرها المروعة بفعل العنف من خلال الكتابة. في روايتها الأخيرة بائع الحليب، صوّرت آنا بيرنز آيرلندا الشمالية وقت "الاضطرابات"، ورسمت حوادث العنف والصراعات المتبادلة في الشوارع والمدارس ووضعت بعضًا من ذاتها في الرواية.
رسمت بيرنز بطلتها فتاة تعاني من اضطهاد المجتمع من حولها، واستخدام المقربين سلطتهم في فرض وجهات نظرهم وتفسيرهم للأمور، حيث بائع الحليب الذي ظل يطاردها فارضًا نفسه واهتمامه، وقلة حيلتها إزاء إصراره، بينما ينظر الآخرون لمحاولاته باعتبارها مسؤوليتها الشخصية، ويلومونها عليها ويبدأون بالفعل في إطلاق الأحكام.
وبقدر ما كانت ذكريات آنا مؤلمة، بقدر ما أرادت تسليط الضوء عليها، فرضًا من تغلغل الذكرى بداخلها، أو آملا في أن يظهر على الورق حلًا لآلامها لم يتفتق عنه ذهنها.
تقول بيرنز في حوار للجارديان "يسألني الناس هل ما زلتِ تكتبين عن أيرلندا؟ عليك أن تتحرري من الذكرى، عليك أن تكملي حياتك. كيف أتحرك؟ إن هذه الاضطرابات هي حدث مريع وهائل الأثر في حياتي، وحياة الآخرين، وهو ما يدفعنا دفعًا للحكي عنه. لماذا يجب أن أعتذر عن ذلك؟ إن المجتمع في هذه الفترة كان من الثراء والتعقيد الذي يحفّز على وضعه وصبّه في رواية".
القارئ العربي الرقيب
أما عن الكتابة النسائية في مجتمعنا العربي، فالأمر معقد حتى؛ القارئ العربي يمارس سلطته الأبوية عند قراءة السير الذاتية، فهو وإن سمح للبطلة أن تحب وتجرّب وتخون، فهو لا يسمح للكاتبة بذات الأمر، كونها شخص حي من لحم ودم لا يصح أن يفعل كذا وكذا ولا أن يفكر في كذا وكذا..
ومن ذلك ما نعرفه مثلا عن ردود الأفعال الساخطة تجاه مذكرات نوال السعداوي "مذكرات طبيبة"، بينما احتفى نفس المجتمع بسير ذاتية خالصة كتبها الرجال ولم تخل من اعترافات صريحة وجريئة كذلك مثل الشطار والخبز الحافي لمحمد شكري والفاجومي لأحمد فؤاد نجم.
ولمثل هذه أسباب ربما قررت الكاتبات العربيات تضفير تفاصيل معدودة من حياتهن أو أفكار لطالما أردن ترويجها داخل الرواية، مثل نورا ناجي.
في مجتمع لا يحترم الضغوط النفسية، ويرفض اعتبارها مرضًا عُضالًا بل يراها مجرد ترف، قررت نورا ناجي المرشحة لنيل جائزة ساويرس الثقافية عن روايتها بنات الباشا، أن تتخذ من الورق صديقًا تحكيه وتبثّه آلامها، تتحرر فيه من مخاوفها الشخصية خالطة الحقيقة بالخيال القصصي.
في روايتها الثانية؛ الجدار، تتلبس "حياة"؛ بطلة الرواية, بعض لمحات من شخصية نورا الحقيقية وعلى حد تصريحها حين سألتها عن مواطن التشابه بينهما، قالت "بالطبع هناك تشابه، هواجس حياة من الحياة هي نفس هواجسي!، الكاتب يستحضر متن الحكاية من تجربته الشخصية، ومنها يستطيع الوصول للحقيقة، اكتشاف العالم أو حتى اكتشاف نفسه، لهذا وضعت قليلًا من نفسي في كل شخصية ابتدعتها".
تقول "حياة" في رواية الجدار أثناء حديث مع طبيبها النفسي "كان على حق، كل ما يحدث الآن بدأ منذ فترة طويلة، أريد أن أخبره بكل شيء، التخلص من هذا العبء الذي لم أقصه كاملًا على بشر"، وهذا ما يبدو أن نورا فعلته في اللمحات التي أضافتها لشخصية حياة من شخصيتها.
نعود إلى "حياة" الخائفة أبدًا من الخذلان في مجتمع يصنّف البشر وخاصة النساء، تقول "أنا أفهم، تقول، في مصر ينشأ الجميع علي كراهية المختلفين، كنت أعاني في طفولتي بسبب حبي للقراءة، وبأنني أرتدي نظارة طبية، أطلقوا علي لقب سقراط، كنت في الواقع مزحة الفصل، لكني لم أبالي".
يبدو لي أن "حياة" كانت تبالي عكس ما ظنّت، كانت تبالي بالجحيم، بالآخرين، كانت تبالي وتضمر الحزن خفية حتى استحال اكتئابًا.
أعتقد أن أكثر ما دافعت عنه نورا عبر الصفحات هو أن انهيار الفرد بدافع الحب ربما ليس أمرًا مخجلًا كما يعتقد الجميع، وأن لكل فرد نقطة انهياره، وفي وسط العالم الملآن بقضايا القتل والجوع والاغتراب، يمكننا أن نشعر بالغضب أو الخذلان حتى لو كان الدافع مجرد قصة حب أخرى فشلت.
قشرة المثقف الزائفة تعرّيها الكتابة
ترفض الروائية دريّة الكرداني في معظم حواراتها وضع روايتها رمال ناعمة الصادرة عن دار الثقافة الجديدة، تحت تصنيف السيرة الذاتية، ذلك حيث تروي بطلة الرواية قصة حبها وزواجها من فنان تشكيلي عانت فيه من تسلّطه تحت شعار "الرجل يعرف أكثر".
كانت درية الكرداني في الواقع زوجة سابقة للفنان التشكيلي حسن سليمان والذي انفصلت عنه فيما بعد، الأمر الذي عزز الانطباع بأن الرواية وإن لم تكن سردًا تقريريًا خالصا للحقيقة، فقد استندت على الأقل على حقائق ووقائع هامة بنيت عليها، حتى مع رفض درية نفسها للتخمينات القائلة بأنها هي البطلة بكل عذاباتها وضعفها وتهاونها.
وفي ذلك يقول الناقد الكبير صلاح فضل في كتابه أحفاد محفوظ الصادر عن الدار المصرية اللبنانية "هذا نوع خاص من الأعمال الروائية تكتبه صاحبته وهي في منتصف العمر دون سابق تجربة، تدخل به متأخرة في حلبة الإبداع، وهي ترويها بضمير المتكلمة، فتجتهد لكي تنفي وهمًا يتبادر إلى ذهن القراء باعتبارها سيرة ذاتية".
تبدأ الرواية بعد تعرّف البطلة على الفنان، بانبهار عظيم تقرر الزواج منه، تأتيها نصائح الآخرين حين اتخذت قرار الزواج "فلتدخل التجربة، ولكن فلتظل واعية لنفسها، فالأكبر في السن لديهم مهارة أكبر بكثير من الأصغر. لم يهمني كل ما قالوا، كنت آمل أن أكون معه، دائما، في علاقة نصبح فيها متحدين، لا مندمجين، يثق كلانا في الآخر، نحمي بعضنا. لا نخون، ولا نكذب. نساند بعضنا البعض في لحظات الضعف على تقويم الاتجاه إن مال".
مالت عواطفها و تراخى عقلها فمالت ومال بختها، كما تقول العجائز الحكيمات.
غادة السمان... النموذج النقيض
نشأت غادة السمان في جو من احترام الثقافة وحب الأدب، وصنّفت كإحدى المدافعات عن حق المرآة في الحياة والعمل. امتلكت غادة حرية وجرأة في التصريح بآرائها في الحب غير عابئة بما يظن الآخرون وبالحدود التي يجب مراعاتها بين المحبين، فلم يمنعها زواجها مثلًا من تبادل رسائل تنضح عشقًا مع الأديب غسّان الكنفاني والذي كان متزوجًا أيضا في ذلك الوقت.
على الرغم من امتلاك غادة للموهبة الأدبية بالفعل والتي استثمرتها في دواوينها وروايتها كوابيس بيروت، خان التوفيق غادة حين أصرّت أن يتذكرها الأدب بالسيدة التي فضحت العاشقين، وقد ظهرت بين سطور تصريحاتها عن الرسائل نبرة فخورة بحب الآخرين أكثر مما بدت نبرة أديبة عاشقة.
لم تحسن غادة السمان استغلال الفرصة التي أتاحتها لها الظروف وسمحت لها بالتعبير عن آرائها في الحب وقضايا المرأة، فهمّشت دورها الذي لطالما تغنت بأهميته وافتخرت وتباهت بكونها المرأة التي يعشقها فلان وفلان.
وبينما تظهر غادة المتباهية بعشاقها، تختفي غادة الأخرى صاحبة أعلنت عليك الحب وكوابيس بيروت.
"ربما كنت دوما سجينة دون أن ألحظ ذلك، تماما كمخلوقات دكان بائع الحيوانات الأليفة..وربما كنت أعي سجني دوما واحاول كسر قبضتي، وما شوقي الدائم إلي الأفق و السماء إلا من بعض شوقي الي الحرية الداخليه.. الحرية الحقيقية لا حرية التنقل فقط في سجن كبير جدرانه هي حدوده و اسمه الوطن!" ― غادة السمان ـ كوابيس بيروت