"زمان كان كل كام كيلو ف البحر هتلاقي وعر (تجمع صخري فوق سطح البحر) مليان سمك وخير. وعر الخربان والجملين وبحر الانجليز ولسان كامب شيزار والبير الأزرق والمعمل والسفينة الغرقانة في سيدي جابر والطبلية؛ كل ده اتردم".
هكذا بدأ توفيق محمد، وهو صياد سكندري هاوٍ، حديثه عن الإضرار البيئي الذي تعرض له شاطئ الإسكندرية، قبل أن يضيف "زمان كنا بنوصل لوعرة الأسدين بالعوم مسافة طويلة، دلوقتي بترمي بالبوصة تطولها، وجزيرة ميامي نفس الكلام. كنا بنغطس نجمع الرتسا/ قنفذ البحر نملى منها شِوال؛ لكن دلوقتي إحمد ربنا لو طلعت بواحدة. أسماك اختفت وأسماك ما بقتش زي الأول. الأسمنت بوظ البحر بس كان بتاعنا؛ دلوقتي بعد ما باظ كمان مبقاش بتاعنا".
بدأ هذا الإضرار البيئي أولًا مع أعمال توسعة الكورنيش التي قام بها عبد السلام المحجوب محافظ الإسكندرية في الفترة من 1997 إلى 2006، لتوسعة حارات مرور السيارات. انحسر الشاطئ بسبب هذه الأعمال، ورُدِم على إثر ذلك الكثير من "الوعر"، واستبدل رمل الشاطيء بالكتل الأسمنتية (البلوكات).
على الرغم من ذلك يحمد أهالي الإسكندرية للمحجوب التزامه بضرورة إتاحة البحر للجميع، وعدم مخالفة القانون ببناء أية أسوار أو منشآت تحجب رؤية البحر، وحفاظه على البحر مفتوحًا ومجانيًا للمواطنين؛ على عكس كل من توالوا بعده على مقعد المحافظ.
خلف المحجوب العديد من المحافظين الذين لم يلتزموا بحق المواطن في "التمتع" بشاطئ الإسكندرية، وأصبح المجاني من شواطئ الإسكندرية سبعة فقط من أصل 24 شاطئ يقع أربعة منهم في شرق المدينة؛ وهي شواطئ جليم والمندرة والسرايا وميامي، أما على الجانب الغربي فهناك شواطئ شهر العسل والهانوفيل والمكس.
أغلب شواطئ الغرب لا يرتادها كثير من المصطافين بسبب بعدها عن مركز المدينة. أما شاطئ السرايا فهو غير مهيأ لاستقبال المصطافين لتراكم القمامة وانهيار حالة الشاطئ من ناحية المرافق والنظافة.
حسام غريب المحامي بالمحكمة الإدارية تقدم بدعوى لمجلس مفوضي الدولة بشهر سبتمبر/ أيلول الماضي ضد محافظ الإسكندرية بصفته، للطعن في قانونية عقود تأجير الشاطئ الموقعة بين المحافظة ومستثمرين، وطرح مرفق عام (البحر والشاطئ) للاستثمار بالمخالفة للمادة 45 من الدستور المصري، التي تنص على أن "تلتزم الدولة بحماية بحارها وشواطئها وبحيراتها وممراتها المائية ومحمياتها الطبيعية. ويحظر التعدي عليها أو تلويثها أو استخدامها فيما يتنافى مع طبيعتها، وحق كل مواطن في التمتع بها مكفول".
في أكتوبر/ تشرين ثان المنقضي، عُقدت أولى جلسات النظر في الدعوى، وصدر قرار بتأجيلها للنظر في 26 من ديسمبر/ كانون أول 2018، لانضمام بعض محامين ومواطني الإسكندرية كمتضامنين في الدعوى.
الحجب بالتدريج
بعد طرح الشاطيء ذاته للاستثمار، لم يسلم الممشى الرياضي من التعدي. فبدايةً من عام 2012 تم تضييق الممشى الرياضي الملاصق للشاطئ والممتد من سبورتنج للشاطبي بمقدار الثلثين، لصالح إنشاء 9 مقاهي سياحية تطل على البحر مباشرة – إضافة لكافيه واحد أنشئ بداية الألفينات- بطول 4 كيلو مترات من شارع المشير بحي سيدي جابر إلى مكتبة الإسكندرية بحي الشاطبي.
بحسب المادة 73 من قانون البيئة المصري يحظر إقامة أي منشآت في حرم الشاطئ "لمسافة مائتي متر إلي الداخل من خط الشاطىء" إلا بعد موافقة الجهة الإدارية المختصة وموافقة جهاز شؤون البيئة.
في اتصال هاتفي بأحد المسؤولين في مقهى "ماليبو سبورتنج"، أوضح أن العقود الخاصة بهم تم توقيعها مع الإدارة المركزية للمصايف (دون الهيئات التي ينص قانون البيئة على اختصاصها) وأنهم ملتزمون بالشروط الموجودة بالعقد –لم نطلع على العقد أو الشروط المبينة به- وأضاف "مبنى المنطقة الشمالية بيعد عننا خطوتين، لو في تعديات الجيش هيشوف شغله".
لكن أغلب هذه المقاهي بدأ بمبنى صغير ثم توسع، ما أغرى مستثمرين آخرين بضخ أموالهم في مشروعات تقتطع المزيد من مساحة الشاطئ؛ فبجوار مقهى ماليبو سيدي جابر مباشرة، تجري أعمال الإنشاءات في مقهى آخر، كما تنقسم أغلب هذه المقاهي لأكثر من جزء بُنيت على التوالي وعلى مراحل زمنية متباعدة، ما يطرح تساؤلاً حول مدى التزام أصحاب المقاهي بالمساحة المخصصة لهم في العقد.
على صفحة أحد هذه المقاهي على فيسبوك نُشر مقطع تسويقي يُظهر ضخامة الكافيه بالنسبة لما تبقى من مساحة الممشى. للمفارقة فإن كامل مساحة الكافيه سابق الذكر أصغر من مساحة الجراج التابع لكازينو الشاطبي، والذي يكاد يحتل كامل الشاطئ.
https://www.facebook.com/plugins/post.php?href=https%3A%2F%2Fwww.facebook.com%2Fmohammad.mansy1980%2Fposts%2F10217595942589962&width=500أما مشروع المجمع السياحي الترفيهي "توليب 2" بمنطقة سيدي جابر، والذي تتولى إنشاءه الهيئة الهندسية التابعة للقوات المسلحة، فقد أوضح النائب البرلماني هيثم الحريري في تصريح خاص أنه تلقى دعوة من اللواء رضا فرحات محافظ الإسكندرية أثناء الإعداد لبدء العمل في المجمع، كي يحضر اجتماعًا عقد في نوفمبر/ تشرين ثاني من عام 2016 لعرض تفاصيل المشروع، والمشاركة في "حوار مجتمعي" بشأنه. بحسب الحريري حضر الاجتماع لواءات ممثلين عن الهيئة الهندسية وعن المنطقة الشمالية، ونواب وأساتذة بكلية الهندسة جامعة الإسكندرية.
تعهد محافظ الإسكندرية وقتها بتشكيل لجنة من الاستشاريين المتخصصين لعمل دراسة لتقييم الأثر البيئي للمشروع "لطمأنة الشارع السكندري" والتأكد من عدم وجود ضرر بيئي من تنفيذ المشروع، على أن تُعرض نتائج الدراسة في اجتماعٍ آخر. وهو ما لم يحدث بحسب ما أكده الحريري ويضيف "أنا لا أعرف إن كان هناك دراسة نفذت من الأساس أم لا؟"، يكمل الحريري أن "الجميع بمن فيهم اللواء رضا فرحات فوجئ بالبدء في تنفيذ المشروع" وكانت البداية مع إنشاء كوبري سيدي جابر الذي يعلق الحريري عليه بأنه "جريمة في حق الإسكندرية حيث أنه لا ضرورة له ولم يُضف أي مشهد جمالي" إضافة لعدم الضرورة وهناك أزمات مرورية بسببه".
تبلغ مساحة المشروع 20 ألف متر مربع يقع في البر منها ألفين متر مربع فقط والباقي بحرم البحر وذلك بحسب دعوة صادرة عن مجموعة توليب للفنادق تدعو فيها المستثمرين للشراكة في المشروع، تدوال نشطاء ومواطنون الصور الخاصة بالمشروع والتي تظهر تضييق طريق السيارات بالإضافة لحجب رؤية البحر. يذكر أنه تم اعتقال طالبتين من كلية الآداب والخدمة الاجتماعية، قامتا بعمل بحث ميداني لمعرفة رأي المواطنين بخصوص المشروع لصالح مشروع تخرجهما.
تقدم هيثم الحريري مع بدء أعمال الإنشاءات بمشروع توليب2 بطلب إحاطة للجنة الإدارة المحلية بالبرلمان، لاستجواب المسؤولين عن تنفيذ المشروع، متمنيًا أن يكون أوفر حظًا من زميلته النائبة هبة المنشاوي، التي تقدمت قبله بطلب إحاطة، لكن تلك المرة كانت بخصوص التعديات على شاطيء جليم، التي نتجت عن ترميم وإعادة تشغيل كازينو جليم بالإضافة لإنشاء مَحال تجارية أخرى بجوار الكازينو تسببت في حجب رؤية البحر.
العجوز يودع البحر
تلك المحال المنشأة على شاطئ جليم يقابلها من ناحية البحر "وعر" الجَمَلين. رُدم الجزء الأكبر من الوعر وما تبقى منه يُمنع عنه الصيادون الهواة والمحترفون، وذلك بحسب حسام الدين صاحب مركب صيد بشاطيء جليم "مرات بأقف على وعرة الجملين فيحاول الحراس يمشوني وأنا بكون من على مركبي داخل البحر! بشتمهم ومش بتحرك. الصيد أكل عيشي"
يقول حسام إن التضييق على زوار وصيادي شاطئ جليم بدأ قبل ذلك. ففي عام 2015، تم تأجير لسان جليم لصالح مستثمر. فوجئ الصيادون بقوات من حرس الحدود والمنطقة الشمالية العسكرية يهاجمونهم ويخلون الشاطئ بدعوى إقامة برج مراقبة تابع لقوات حرس الحدود.
رفض الصيادون الإخلاء وتمسكوا بحصتهم في الشاطئ المقدرة بنحو خمسين مترًا من المساحة الإجمالية للشاطئ، والباقي مخصص للجمهور بشكل مجاني. تمكن الصيادون المتسلحون بالقانون والقرارات الرسمية من الحفاظعلى مساحتهم، لكن في المقابل؛ تقلصت مساحة الجمهور المجانية لصالح مستأجرين. وقُسِّم الشاطيء لجانب مجاني وآخر غير مجاني، وتم فتح اللسان مرة أخرى.
وفي شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، فُوجئ مرتادو شاطيء جليم بغلق اللسان مرة أخرى، لكن هذه المرة بوضع سور وبوابة يحرسها مجندين اثنين من القوات المسلحة. وبسؤالهما عن السبب؛ قالا إن اللسان تم تأجيره لصالح مستثمر.
لم يقف الأمر عند هذا الحد فبعد غلق اللسان. تحدث ضابطين من القوات المسلحة مع الصيادين لإقناعهم بترك مساحة 30 متر لعمل جراج لخدمة المشروع الترفيهي الذي سيقام على اللسان؛ وهو بالطبع ما رفضه الصيادون؛ ولم يقتطع منهم أي جزء حتى الآن لكن التخوف قائم من أخذ الشاطيء بالكامل بحسب الصيادين.
للغرب أكثر وعند قلعة قايتباي لم يسلم حرم القلعة من التعدي وتم ردم 30 متر عرض من البحر على امتداد 130 متر من مساحة الشاطئ، للتخصيص لصالح مستثمرين. في البداية اعترضت وزراة السياحة على طرح جزء من حرم القلعة للمزايدة العلنية بحسب ما نشر على موقع اليوم السابع في يوليو/ تموز المنقضي.
وبالفعل توقفت إجراءات طرح جزء من حرم القلعة للمزايدة العلنية؛ لينشر الموقع نفسه بعد ذلك في شهر أكتوبر/ تشرين أول الماضي ذات الموقع، تصريح لأسامة الصياد مدير قلعة قايتباي يذكر فيه أن وزارة الآثار مرحبة بأعمال الردم التي تتم. يوضح الصياد أن هذا الردم والسور الحديدي الذي يحجب رؤية البحر ليسا بغرض طرح المكان للاستثمار؛ ولكنه ضمن مشروع أوسع لحماية القلعة من الغرق! وذلك بحسب دراسات لم يتم ذكر تفاصيلها أو إرفاقها مع الخبر المنشور.
بحر المجاري
نوع آخر من الإهمال ببحر الإسكندرية يشهده شاطيء الدخيلة. هذه المرة ليست بالتعدي على حرم البحر أو ردمه إنما بصرف مياه الصحي داخل البحر مباشرةً وبحسب وائل العوضي –من أبناء الدخيلة- لم تتم معالجة الصرف قبل إلقائه، ويستند وائل في زعمه على لون ورائحة المياه وأثرها السلبي على تواجد الأسماك وتعكيرها لمياه البحر. في المقابل يؤكد اللواء محمود نافع رئيس شركة الصرف الصحي بالأسكندرية أن المياه معالجة وغير ضارة بالبيئة.
لم يبق بحر الإسكندرية كما كان ملجأً لأغلب المصريين. أجزاء من البحر محجوبة عن الرؤية ستستمتع بالبحر في هذه الأجزاء فقط إذا كان معك ما يكفي من المال. إذا كنت محبًا للصيد، فالكثير من الوعرات التي كانت غنية بالأسماك رُدمت. كما مُنع الصيد في الكثير من الأماكن. عماد بحرية -صياد محترف وتاجر أدوات صيد- يبدي تخوفه من استمرار التعديات بهذه الوتيرة "لو الوضع استمر كده الصيد هيبقى هواية الملوك حرفيًا. للي معاه فلوس وواسطة بس".