عندما نستعيد قاهرة ما قبل الألفية، تبدو في أذهاننا بما تحتويه من شخوص وأحداث وتحولات، كأنها مسرح لأبطال ذوي صفات واحدة مضخَّمة، أنماط مريحة جاهزة. كرُفّ مطبخ، كل شيء فيه معلب تحت تصنيف.
مبارك رئيس لا يخطئ، وزوجته أم وبطلة أعياد الطفولة والمرأة. الصحيفة هي الأهرام، النجم الأوحد هو عادل إمام، الشيخ هو محمد متولي الشعراوي، المعارض الأشرس هو زكريا عزمي، والأشرار هم الإخوان. أما السيناريست؛ فكان وحيد حامد، وصنوه الذي لا يقل تأثيرًا وشهرة ولكن عبر الدراما التليفزيونية؛ أسامة أنور عكاشة.
ربما بتلك الطريقة، رأى وحيد حامد القاهرة؛ مدينة معبأة بشخصيات ذات بعد واحد، مفاتيحها في أيدي أشخاص بأعينهم.
الآن، أخلط بين شيئين، هل كانت القاهرة كارتونية الطابع بالفعل؟ أم أنه أثر السيناريست، الذي صكت أعماله عشرات العبارات "الحريفة" عن المدينة مثل "البلد دي اللي يشوفها من فوق غير اللي يشوفها من تحت"، و"إحنا صغيرين أوي يا سيد" وهما عبارتان تعيدان تقسيم المدينة إلى قسمين: هواء للسادة، وعطن للعبيد، أقزام في مواجهة عماليق؟ أما خط المعارضة فلا يعلو عن وزير.
التيمة الأكثر إلحاحًا في أفلام وحيد حامد، وربما على السينما المصرية في تلك الفترة، هي الصراع بين عالمين تولدا من الشقاق الذي فرضه انفتاح السادات المباغت، ليسمح بصعود غيلان و سادة على أطلال من الخراب، دافعهم الأساسي هو الطمع والانتهازية، أشرار بشكل مطلق وكاريكاتيري، حتى أن فيلم اللعب مع الكبار، إخراج شريف عرفة، يكتفي بتصويرهم كأشباح، لا نراهم إلا عبر مكالمة هاتفية.
وفي مقابل عالم السادة؛ هناك عالم آخر، تنسب إليه صفات جمعية، كالجدعنة والشهامة والترابط. أحيانا يتخذ أصحابه صورة "الفارس المثالي" الذي يخوض حربا دون كيشوتية كفرجاني هدهود في آخر الرجال المحترمين، أو انتهازي كفتحي نوفل في طيور الظلام، أو إصلاحي، أو حتى في صورة واحد من العُيَّاق والشطار واللصوص الصغار اللذين يسرقون اللص الأكبر، كبطلي أحلام الفتى الطائر، والمنسي. كل هذه الصفات توحي بالتنوع، لكنه تنوع لا يصدر إلا عن "هوية قياسية"، انشغل بها خيال الكاتب في تلك الفترة، هوية أسماها "المواطن المصري".
ربما لهذا نجح التعاون بين وحيد حامد وشريف عرفة "توأمه الفعلي في نظري"، فكلاهما يتألق عبر رسم النمط الكاريكتيري.
دون كيشوت
في فيلم"آخر الرجال المحترمين"، من تأليف وحيد حامد وإخراج سمير سيف، تُختَطَف طفلة من رحلة مدرسية قادمة من الصعيد، وبعد أن يتبع مشرف الرحلة "فرجاني هدود"، المثقف وحامل الملامح الدون الكيشوتية، السُبُل الرسمية بإبلاغ وزير الداخلية نفسه إيمانا منه أن مهمة "البحث عن روح مفقودة" هي مهمة يجب أن يتصدى لها جميع أفراد الشعب، بدءًا من أعلى السلطات إلى أدناها. يفشل، فيقرر أن يخوض رحلة البحث بنفسه، لتنكشف له المنطقة المظلمة المدينة، والتي لم يعرفها من قبل سواء لخشيته من غموضها؛ أو لأنه مسجون داخل سجن من العزلة والمُثُل.
لكن الجزء الكابوسي من المدينة، يكشف له عن وجه حميمي، يملك أصحابه القدرة على المساعدة، بل والأهم "المفاتيح الحقيقية للمدينة"، كالمعلم برغوث، اللص والزعيم، الذي يحكم بين أفراد جماعته بالعدل، ويملك حسًا إنسانيا فريدًا بشأن متطلباتهم، فلا يظلمهم. كما يضع حدودا للمسموح بسرقته وغير المسموح، كمنع سرقة القضاة أو الموظفين.
ينجح فرجاني في نهاية رحلته وعبر معاونة "برغوث" في تحقيق هدفه الدون كيشوتي، أن يجعل من مهمة استعادة "نسمة" مهمة شعب. فنجد الضابط الصالح وأبناء القرية الصعيدية ورفقاء رحلته الجحيمية في العاصمة، جميعهم أعلى برج القاهرة، حيث الهواء غير الفاسد، مجال ما زال صالحا لإمكانية الحياة، كلهم يقفون في مواجهة "ابنة الذوات" -بتعبير الفيلم- التي ترى أن "نسمة" الطفلة المخطوفة هي حقها، وتهددهم بقذفها من أعلى البرج، إن اقتربوا منهما.
ينجح المثقف في النهاية، في استعادة "نسمة"، كرمز للمجال الحيوي الأخير للعيش، لكن حساباته كلها تختلف بشأن الخير والشر، العزلة والمُثُل، ودوره كمثقف لا يعرف شيئا عن العالم، وأيضا تقديره لقوته وإمكانياته، فهو في النهاية قد نجح في قيادة الشعب ما أن شرع في فهمه.
صورة للكاتب في تمرده
يلاحظ الصحفي عبد الرحمن مصطفى، في مقال منشور على مدونته، مشهدًا يظهر فيه وحيد حامد يلعب فيه الطاولة مع عادل إمام بطل فيلم اللعب مع الكبار، يجلسان في وضع المرآة. كأن حامد يخبرنا أنه هو نفسه حسن بهنسي بهلول، الوسيط الذي يستشرف الفساد عبر أداة "الحلم"، "الرؤيا" التي يملكها المثقف من ناحية، ومن القدرة على التنصُّت على عالمين؛ أوجاع الصعاليك، وفساد المماليك. حسن/ حامد هو رسول إصلاحي، جسر بين طرفين، لكنه يجيد التفريق بين "الضابط الصالح" المتفهم الذي يتمكن من سماع الرسالة، و"الضابط الذي يصم أذنه عن التحذير". لمن يشرح وحيد حامد مهمته، للناس؟ أم للحكومة؟ وأيهما يحذر؟
كان موقف وحيد حامد من ثورة 25 يناير كاشفا لهذا الموقف الملتبس، فإشاراته في أفلامه شئنا أم أبينا، كانت تشير إلى ضرورة التحرك ضد الفساد، مثلاً، واحد من أواخر أفلامه قبل الثورة "النوم في العسل"، ينتهي بمسيرة احتجاج إلى مجلس الشعب يقودها "الضابط الصالح". لكن لم يكن غريبا أن يستنكر وحيد حامد مبكرا قيام ثورة ضد ما أوحى أنه يثور عليه في أفلام كالبريء، الغول، الإرهاب والكباب، النوم في العسل؛ ففي الثورة، يفتقد وحيد حامد موقعه كوسيط معارض لشيء يفهمه، يتكسب من وجوده كصوت متمرد، كانت لحظة فقد فيها السيناريست الطيب تماهيه مع "الصعلوك المتمرد والمتعاون"، لصالح "الضابط الصالح" في مديرية الأمن العمياء. إذا ما انتهت هذه الحالة، فقد الكاتب كل مميزاته ومكاسبه.
الصعاليك يحكمون المدينة؟
في فيلم اللعب مع الكبار، يملك عامل بسيط في السنترال، التنصُّت على كافة مكالمات المدينة، موجها تلك الطاقة إلى حلم حسن بهنسي بهلول لكشف فساد الكبار. في فيلم "الإرهاب والكباب" يتحد "موظَّف ومجند وملمع أحذية وعاهرة" فيتمكنون من احتلال مجمع التحرير الذي يمثل الحكومة، ويحصلون على تعاطف وظهير شعبي يمنح تمردهم اللحظي قوة حقيقية. وتملك ملكة الزبالين في فيلم آخر الرجال المحترمين، القدرة على النفاذ إلى داخل كل بيت، وهي قوة لا تتوفر إلا لسلطات الأمن. وفي سوق المتعة يعيش البطل داخل موقد، والذي يتحكم صاحبه في إفطار القاهرة اليومي، الفول.
في فيلم "الأولة في الغرام" يعيد وحيد تقديم الجيتو الفقير المحكوم من "مولانا"، والذي يتعلم فيه "ابن الذوات" -الذي فات الآوان لمناقشه صعوده الفاسد- طريقة للحياة عبر مستودع القيم، ليعود إلى قاهرة السادة وهو يحمل شيئا من قيم الفقراء، دون أن يتغير الوضع لأيهما.
قاهرة وحيد حامد ليست إلا مجموعة من الصناديق المغلقة العصية، مفاتيحها في يد سكانها الأصليين، ورغم أنهم لا يملكون منها إلا مناطق أشبه بالجيتو المظلم تعيش على هامش السلطة، وتنشيء سلطتها الأخرى، التي تبدو أكثر حكمة وعدلا وميلا إلى الخضوع لنوع من الحاكم المستبد، طالما يوفر المتطلبات الأساسية للحياة، "كالأمن، المأوي، الغذاء والزواج لأبناء مجتمعه"؛ إلا أنهم في النهاية لا يعون قدرتهم على التأثير في المدينة إلا عبر اتحاد ما، يحفزه حدث أو شخص أو قضية (كالأستاذ فرجاني). لكن الصراع لا يخاض على أرضية الانتصار، بل هو مشروط بألا ينتصر البطل إلا بقدر ضئيل، يساعده على إعادة ترسيم الحدود بينه وبين عالم السادة. هذا سقف ثورة وحيد حامد: غضب لا يهدم أركان اللعبة.
رغم جودة أفلامه وانحيازها الواضح ضد القهر، لكنها في المقابل لا تنجح إلا في تلطيفه، وتسويغه، وتقديمه مصنفا في علب للملح وأخرى للسكر. هل هي في جوهرها مجرد تطوير لرؤى أفلام الأبيض والأسود، حيث الشر في الغنى والنفوذ، والخير في البقاء فقيرا كمواطن أصيل متخيل؟
اقرأ أيضًا: ثورة ماهر عوّاد وشريف الأول
واقرأ كذلك: بهاء جاهين ومودي الإمام.. صوت المجاميع