دعني أخبرك أنني مريض بالاكتئاب منذ عام ونصف. بدأ الأمر بحزن مقيم، كنت أفكر كل يوم في معنى الحياة، وأسأل نفسي لماذا أنا هنا؟ أبحث عن الله، وأدخل في أسئلة طويلة ومملة بحثًا عن معنى الوجود؟ كل ذلك لأنني لم أكن راضيًا عما صارت له أموري منذ بلغت الرابعة والثلاثين من عمري.
لا يبدو وصف إنسان لنفسه أنه مريض بالاكتئاب أمر سهل، فالكل يكتبها على مواقع التواصل الاجتماعي حين يمرون بحزن أو ألم في الرأس أو انخفاض الهمة في يوم، أو يصادفون فتورًا في علاقاتهم بالعمل أو الناس، وكأن الاكتئاب هو حالة مزاجية لا أكثر، لتصبح الكلمة مشاعًا بين الناس دون إدراك لمعناها الحقيقي.
قبل شهور قليلة زادت حدة ما أمر به، صار الأمر يتخطى ما يسمه الناس اكتئابًا على شبكات التواصل الاجتماعي. صار البكاء وحدي طقسًا يوميًا، بينما باتت مغالبة دموعي في الأماكن العامة أمرًا معتادًا. تستدعي ذاكرتي كل حدث وموقف وتعليق مثير للتوتر والغضب مررت به، تنتقي لي من حوادث يومي كل ما هو سيء ومُحبط لأتذكره وأفكر فيه وحده دون سواه.
كنت أقف وحدي في الشوارع أرفع رأسي إلى السماء وأسأل الله "متى الراحة؟". ثم أبكي.
ذهبت منذ عام ونصف لطبيب نفسي بدأ فورًا العلاج الدوائي من أول جلسة، لم أذهب له مرة أخرى ولم أتعاطَ دوائه، وأخبرت صديقة لي أنني ذهبت له، سألتني سؤالاً غريبًا؛ "عرف نفسك". قلت "أنا شاب أعزب في الرابعة والثلاثين من عمري، أرتدي نظارة طبية، إذ لا أرى ببصري أكثر من خمس رقعات، في رقبتي بروز (تفاحة آدم)، جسدي نحيف، أضلعي كالمسامير، أتنفس بصعوبة، بيّ أذى من رأسي، وعشرات الشعيرات البيضاء التي تسللت فجأة، روحي هشة، قلبي خاوِ، لا أحمل هم الغد، أحب الخير، أذهب لما أحبه من الأنشطة وحدي".
نحن نقول للناس أننا نعاني من الاكتئاب لا ليقولون لنا "أزمة وهتعدي"، نقول ذلك كي ينقذونا ويعرفون أننا بحاجة إليهم.
أنت في تلك الغرفة المظلمة "الاكتئاب" التي دخلها آخرون، تبحث فقط عن باب الخروج ومسارات النجاة.
لا تدع الخبرة السلبية توقفك
لكن مع خبرتي السلبية مع أول طبيب نفسي ذهبت له؛ إلا أنني لم أتوقف عن السعي للعلاج.
وللحق؛ ورغم أني لم أسع للعلاج على يديه إذ أصابني المرض بعدما توفاه الله، إلا أنني لم أحب طبيبًا كما أحببت الدكتور عادل صادق، "1943 ـ 2004"، كان جميلًا وهادئًا، يقول في كتابه حكايات نفسية؛ "هذا كتاب لمن يعيشون بالقرب من إنسان يعاني نفسيًا، الزوج حين تعاني زوجته، الزوجة حين يعاني زوجها، الأب أو الأم حين يعاني أحد أبنائهما أو بناتهما...". يضيف صادق؛ "إنني أعتقد أن بعض الشعيرات البيضاء في رأسي ترجع إلى هول ما سمعت من مرضى الاكتئاب.. كل مرة جلست إلى مريض أشعر بوجع في قلبي. إنه مرض هؤلاء الذين لم يعرف الشر طريقه إلى قلوبهم".
في الكتاب نفسه يصف عادل صادق هذا الذي مررت به، يقول "الاكتئاب كمرض يبدأ بفقدان الاهتمام والرغبة، الألوان كلها باهتة، لا طعم لأي شيء. وذلك قبل أن يشعر [المريض] بقتامة الأشياء ومرارتها، ثم يجرفه الحزن.. حزن غريب في عمقه رغبة في البكاء، ثم يتعرض لأعراض غريبة مؤلمة، أعراض يجب ألا نأخذها باستخفاف فنطلب من المريض أن يقاومها بإرادته، ونضغط عليه لكي يشاركنا الحياة، وأن الأمر سيتحسن إذا هو قام بإجازة وذهب للترويح عن نفسه. أبدًا إنه لن يستطيع، فارحموه من تلك النصائح غير المُجدية".
الاكتئاب مرض خفي نفسي ثقيل، أو هكذا رأيت من واقع تجربتي، لا أكتب هنا تعريفًا طبيًا بالطبع يسلبك إرادتك يجعلك تعتاد الأيام، تؤدي أنشطتك بشكل وظيفي، تعتزل الناس بدرجة ما، لا تخرج كثيرًا إلا لعملك، تخشى أي مكان به زحام، تريد ألا تثير ضجة أو صخب يجلب عليك عبارات من عينة (مكتئب إزاي؟ فيه مكتئب بيضحك؟ فيه مكتئب بياكل؟ تعالى كل دراعي".
لا يلزم الاكتئاب أن يصاحبه فقدان الشهية في الأكل، ماذا الذي يضير الناس أن يعاني شخصًا من اكتئاب، فيقرر أن يتعلم وصفات طهى جديدة لكسر حدة الاكتئاب الجاثم على صدره، أليس في الطهى حياة أخرى حتى لو لم تنجح الوصفات.
في تجربة جلسة العلاج الجماعي Group Therapy التي ذهبت لها مؤخرًا، أهدتني إحداهن نسخة مترجمة من كتاب "أنت قوة مذهلة.. كيف تكف عن الشك في أنك شخص عظيم لكي تبدأ عيش حياة رائعة"، وهو من تأليف جين سينسيرو وهي مدربة في التنمية الذاتية، وهو كتاب أتيح بـ 20 لغة وحقق مبيعات زادت على 2 مليون نسخة في العالم. تقول الكاتبة "لعل هنالك صلة عميقة بينك وبين هدفك الأسمى، لكنك غير قادر على تذكر آخر مرة ضحكت فيها من قلبك".
هذا تحديدًا ما أراه في الاكتئاب، أنت لا تضحك من قلبك، فيما الآخرين يرونك طالما كنت تضحك وتُضحكهم فأنت بخير، لا يهمهم إن كان من قلبك أم لا.
تجربة ذاتية
لا أنصح أحدًا بتكرار ما فعلته، فالاكتئاب كأي مرض، بحاجة لتشخيص وعلاج متخصصين، لكنني خضت تجربة ذاتية لمحاولة التعافي من الاكتئاب دون علاج دوائي.
قالت لي أمي إن العلاج الدوائي صعب ومؤلم، كنت وحدي في القاهرة وخشيت تعاطي دواءً يفاقم حالتي ويزيدها سوءا. فتوقفت عن الدواء لكني واظبت على تنفيذ كافة نصائح الطبيب الأخرى؛ بدأت في إحاطة نفسي بالجمال والفن، وذهبت منذ أسابيع للمرة الأولى وحدي لمشاهدة أسبوع أفلام المخرج يوسف شاهين المرممة، كانت تجربة هي الأجمل لشاب يشاهد أفلامًا بعمر الرابعة والثلاثين وبروح مراهق لازال يتلمس الطريق ويكتشف العالم، ذلك العالم الذي لم يحبه يومًا من آتى إلى الدنيا.
قررت الابتعاد عن وسائل التواصل الاجتماعي وتقليل وجودي عليها. ووجدت أنه كلما ابتعدت عنها رأيت الحياة أفضل. الابتعاد عن فيسبوك يجعلك أكثر جرأة على المراهنة على من لهم وجود حقيقي في حياتك، سترى الحياة أوسع من بروفايل متصل بأسلاك وشاشة هاتف.
لا أدعي أنني الآن أفضل؛ لكني استقبل الحياة بروح أخرى، ربما لم أتعافَ من الاكتئاب كليًا لأن الأمر ليس بتلك السهولة، لكنني قررت أن أدع كل شيء أغضبني يومًا ورائي، لن التفت للناس مرة أخرى، لن أسعى لمن لا يريد أن يقطع بضعة مسافات من أجلى.
مما فعلته أيضًا، وربما ساعدني، هو العودة للكتابة والقراءة مرة أخرى. قالت لي صديقة "اكتب كلما استطعت"، أخذتني الكتابة لخبرات أخرى لم أعرفها، صاحت إحداهن "لماذا لا تصدر كتابًا عنك"، لكننا ضحكنا سويًا وقلت "نسميه أحزان رجل عادي". أما القراءة فبادرت فيها للانفتاح على كُتب جديدة في مجالات مختلفة أقرأها للمرة الأولى.. مع الكتب أنت لست وحيدًا.
أنا الآن أحاول أن أكون بخير، أدير حياتي كأني وحدي. أنت وحدك هذه حقيقة لن تتغير، لكن هناك ما يستحق أن تفعله من أجلك.
اليوم وأنا لا زالت أحاول التعافي من الاكتئاب، سأتذكر كيف سيحيى العالم اليوم العالمي للصحة النفسية، بينما في مصر لازال الناس يجعلون من هذا المرض الخطير مادة للضحك والميمز. ولا يرون أزمة في الخلط بين الاكتئاب كمرض والحُزن كشعور. كم مرة أعاد أحدهم عبر "فيسبوك" نشر صورة لطبق يحوي أشهى الطعام والحلوى، مع تعليق عليه "إزاي تعالج الاكتئاب؟.. أحسن حاجة تضيع الاكتئاب.. أعطني طبقًا كهذا فأنا مكتئب".
هل حاولت يومًا ما أن تقول لشخص يعاني من آلام مزمنة في المعدة أو تقلصات في القولون أو ألمًا في الرأس، إن طبقًا من المحاشي أو المشويات أو الحلويات أو الآيس كريم سيعالجك؟
تقول الطبيبة والكاتبة هنا أبو الغار في مقال لها ببوابة الشروق "الاكتئاب ليس حزنًا" "أثناء نوبات الاكتئاب تتلون الحياة بألوان المرض فتكبر المشكلات وتبدو غير قابلة للحل، وتزيد حساسية المريض فيفسر كلام أو ردود أفعال الغير تفسيرا سلبيا، ويصبح كل شىء صعبا وثقيلا، فالمريض قد يحس أن الرد على التليفون أو مقابلة أحب الناس إليه أو القيام بأى أعمال منزلية أو مهنية مهما بسطت (كانت بسيطة) وكأنها عبء ثقيل". تواصل هنا أبو الغار؛ "يصاحب هذه اللحظات انهيار فى ثقة الإنسان بنفسه وقدراته، وحكمه على المواقف وعلى حب الناس له، ومع زوال الأعراض تبدأ موجة من حساب الذات والندم على كلمة أو فعل قام به أثناء نوبة الاكتئاب قد يهز صورته لدى الآخرين سواء فى محيطه الاجتماعي أو المهني".
لكن البعض لازال يرى أن الاكتئاب ليس إلا حزنًا، وأنه مجرد إنكار للنعم والضيق وعدم تحمل المسئولية في مواجهة ضغوط الحياة. وتقول منظمة الصحة العالمية في تقرير لها عن الاكتئاب "يعتبر الاكتئاب من الاضطرابات النفسية الشائعة. فعلى الصعيد العالمي، يعاني أكثر من 300 مليون شخص من جميع الأعمار من الاكتئاب". ووزارة الصحة المصرية تقول في دراسة منشورة في أبريل/ نيسان الماضي إن 25 % من المصريين يعانون من اضطراب نفسي، منهم حوالي 43 % يعانون من الاكتئاب.
ويقول الاتحاد العالمي للصحة النفسية، إنه بحلول عام 2030 سيكون الاكتئاب هو المرض الأكثر شيوعًا في العالم. بينما نشر موقع "Care2" مقالاً بعنوان "6 مشاعر تشبه أعراض الاكتئاب لكنها ليست كذلك"؛ إن الناس يستخدمون كلمة مكتئب بشكل غير منتظم، لكنهم يريدون أن يقولون أنهم يقصدون أنهم يعانون من الحزن ومن مشاعر سلبية أخرى. لكن بقاءك حزينًا ليوم أو إثنين لا يعني أنك مكتئب، فالاكتئاب هو حالة نفسية يحدث فيها فقدان الاهتمام بممارسة الأنشطة، فقدان الرغبة في الحياة.
وأجرى الموقع مقارنة ما بين المزاج السيء والاكتئاب وقال "عليك قبل تصنيف نفسك كمكتئب في كل مرة يكون فيها مزاجك سئ حاول أن تصف بشكل حقيقي ما تشعر به". فالحزن شعور يتشاركه البشر جميعًا في خبراتهم، نتيجة لموقف أو تجربة مخيبة، لكنه بمرور الوقت يتلاشى، "لكن الاكتئاب يجعلك تشعر بالحزن من كل شيء، كما أن الشعور بالوحدة يشعر به الجميع، لكن الناس يعتقدون أنهم يعانون من الاكتئاب حينما يصبحون وحدهم لفترات طويلة".
يقول كاتب المقال إن الوحدة يمكن التغلب عليها بسهولة أكثر من الاكتئاب، وأن الانخراط في العمل الخيري ربما يخفف من الشعور بالوحدة، موضحًا أن الشعور بالقلق دائمًا طوال الوقت بلا سبب قد يعني أنك مكتئب، كما أن الملل هو شعور مؤقت يمكن الخروج منه، لكن المكتئبين يفقدون اهتماماتهم في هواياتهم ومغامراتهم.
ابتلاء وأسئلة وجودية
مع الاكتئاب واصلت أسئلتي؛ لماذا خلق الله الحزن والفقد والمرض والفراق والفقر والجهل؟
تقول أمي مما قرأته "لن تكافأ إلا حين تُبتَلى فتُختبر فتصبر، وأن الله سيكون بجانبك سيعوضك كأنك لم تر حزنًا". وأستعيد قول الكاتب الراحل جمال الغيطاني "هناك فكرة يعبر عنها القرآن في الآية فكشفنا عنك غطاؤك فبصرك اليوم حديد. أنا اعتقد أن هذه اللحظة الأخيرة التي ينكشف فيها كل شيء". أنا لم أشف من الاكتئاب نهائيًا، لكن الرضا سكن روحي وهذا ربما يكفي حتى الآن.