في أحد فصول مدرسة اﻷورمان الابتدائية، وقف المعلم يتفحص وجوه تلاميذه وقد انتهى لتوه من شرح الدرس. يتوجه بالسؤال المعتاد لزميلهم الخجول جميل "فهمت؟"، فيهزّ التلميذ رأسه بالنفي؛ ليتكرر الشرح والسؤال مرّة ثانية وثالثة؛ حتى تأتي أخيرًا "نعم" كاذبة نطقها الطفل بعد أن زاده تكرار الشرح خجلاً وليس فهمًا.
في تلك اﻷعوام الدراسية، بين الأورمان الابتدائية والإبراهيمية الثانوية، ربما لم يكن أحد ليُصدّق أنها مسألة وقت، حتى تتمزق شرنقة الخجل الطفولية؛ فينطلق ساكنها إلى براح المسرح والسينما، وأن ذلك الذي كان تلميذًا متعثّرًا قليل الحيلة مع الدراسة ينال من الدرجات أدناها، سيكتب له نجاح مهني طويل الأمد وقد صار واسع الحيل مع الفن ينال من التكريمات أرفعها، ويقترن الأداء المتميز باسمه، جميل راتب.
اثنان وتسعون، هو عُمر جميل راتب حين الرحيل عن الدُنيا، والذي كان يوم الأربعاء، بعد أن قضى جلّ أعوام هذا العُمر مع الفن، منذ أربعينات القرن الماضي ولعقود سبعة، صار له خلالها وجوه عدة، فهو شكسبيري في عُطيل والأسطى عبد الله المقهور في عفاريت الأسفلت والسنيور جيوفاني الأرستقراطي الأجنبي في زيزينيا، والشرير خفيف الظل سليم البهظ في الكيف، بل إنه حدث ذات مرّة وأن كان لجميل وجه الشيطان نفسه. فالمفتون بالفن الهارب من خجله، لم يعرف للإبداع حدودًا؛ فصار كالنرد، لكن بألف وجه.
ارستقراطي مُتمرد
من بيت عائلة ارستقراطية بحي الجيزة، وفي يوم الثامن والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني 1926، استقبلت الدُنيا الطفل جميل، ابن أبو بكر راتب وزوجته نائلة سلطان، ابنة شقيق هُدى شعراوي.
من بيت العزّ والترف، خرج الطفل ليتعلم، وعلى عكس المتوقع من أسرة ثرية، لم يقع الاختيار على مدرسة إنجليزية أو فرنسية، بل كانت مصرية، هي اﻷورمان. فحين تكون ابنًا لرجل كان من الطلاب المشاركين في ثورة 1919؛ لن يكون غريبًا أن تنتظم في صفوف مدرسة حكومية.
لم يكن جميل بالتلميذ اﻷمهر، وزاد من عوائق الدراسة خجله وانطوائه، الذي لازمه حتى انتقل إلى التوجيهي في مدرسة الإبراهيمية، إلى أن حدث ذات مرّة واعتلى الصبي خشبة المسرح مع واحدة من فِرَق الهواة؛ فعرف طريقه الحقيقي.
من القاهرة إلى باريس، وقد وضعت الأسرة آمالها على الابن في استكمال المسيرة السياسية للأب واﻷعمام، سافر جميل وقد أتم من العُمر عامه العشرين. كان هدف الأسرة أن يدرس السياسة والقانون، كان هدفه أن يدرس الفنون، تعارضت المشيئتان، فكان لجميل القرار الأخير.
كان العقاب قاسيًا من اﻷسرة، انقطع "المصروف" عن الابن، لكن ذلك لم يغير كثيرًا بالنسبة له، فالدرب صار واضحًا أمام جميل، ابن الذوات الذي خرج للعمل في شوارع باريس.
بحثًا عمّا يغطي نفقات دراسته ومعيشته، عمل شيّالًا في سوق الخضار، وجارسون يطرده المقهى بعد أسبوع واحد، ومُترجم بين لغتين العربية التي أتقنها بالدراسة والفرنسية التي يتحدثها منذ كان في كنف العائلة، بل وعمل كومبارسًا لن يمضي عليه كثير من الوقت قبل أن يرى اسمه مكتوبًا على اﻷفيشات كفنان موهوب، سيمنحه الرئيس فرانسوا ميتران- بعد حين- وسام الدولة.
عرفت باريس جميل، فنانًا في سينماتها ومسرحها، قبل أن تعرفه القاهرة، أفردت له الصحف الفرنسية مساحات، بعد أن بدأ المشوار مع الفرق المسرحية الصغيرة إلى أن صار واحدًا من الممثلين الرئيسيين في الفرق الكبيرة التي تؤدي مسرحيات أوجين يونسكو وشكسبير وموليير.
الحرية ثم أي شئ
تكبّد جميل عناء الرحلة من طالب يوجهه أهله لدراسة القانون إلى فنان كبير، بل إنه وجد في الرحلة ما عوّضه عن شقائها، إذ اعتبر اختلاطه بكادحي فرنسا بمثابة مدرسة إنسانية واجتماعية وثقافية مفتوحة له.
مكّنته المدرسة- على مصاعبها- من اختبار الحياة خارج أسوار البيت الأرستقراطي، مكّنته من التعرّف الجيد على الكادحين، باعتباره أحدهم منذ رضي وعن طيب خاطر بالعمل الشاق، فقط ﻷنه قرر الدفاع عن اختياره الحُر بدراسة واحتراف الفن بدلاً من امتهان السياسة.
ربما هذه واحدة من نقاط تميّز جميل راتب، أنه لم يكتف بكونه ممثلًا بارعًا، بل كان صاحب رأي وفلسفة، واختلط بكثيرين من أصحاب الآراء المدافعين عن قضايا منذ كان طفلاً نشأ على صداقة بطفلة اسمها إنجي أفلاطون، صارت من أعلام الفن والسياسة في مصر، بينما اكتفى زميلها من السياسة بالمشاركة في تأسيس حزب التجمع (يساري) ومن ثَم عضويته.
على الرغم من أن المسيرة الفنية كانت أعلى صوتًا وصدى من السياسية، إلاّ أن جميل لم يتأخر وهو ابن المشاركين في ثورة 19، عن المشاركة في ثورة عاصرها وهو شيخ، 25 يناير، وكذلك كان حاضرًا في 30 يونيو.
الخواجة الفصيح
يتحدث جميل راتب، فيظن البعض أنه ذي أصول أجنبية، بل إن البعض كان يؤكد- وبالخطأ- أنه مولود ﻷم فرنسية، بسبب لكنة غربية كانت تظهر في نطقه للعربية.
لكن على عكس مما قد يتوقعه أحد، كان جميل راتب ورغم 30 سنة من الحياة والعمل في فرنسا بين منتصفي اﻷربعينات والسبعينات، متحدثًا للعربية الفُصحى بطلاقة، والسر كان في المدرسة "الميري" التي جعلت لغته الأم حاضرة وطيّعة حين احتاج الحديث بالفصحى في أعمال كان أولّها مسرحية عُطيل للمخرج التونسي علي بن عيّاد، وكذلك في مُسلسل الكعبة المُشرّفة الذي أدى فيه دور الشيطان الذي فتح له الباب للّعب والإبداع بـ30 شخصية أخرى، وبالفصحى أيضًا.
لا يتوقف الإبداع عند تنقّل جميل راتب بمهارة بين 30 شخصية تمثّلها الشيطان في مسلسل واحد، فمهارته نقلته بين السينمات اﻷمريكية والفرنسية والعربية، سواء كممثل أو فنان دبلاج ميّز الجميع صوته في النسخة العربية لفيلم عُمر المختار، وهو أيضًا من عمل مساعدًا للمخرج برنارد وايكي في فيلم الزيارة الذي أدى دور البطولة فيه الممثل وصديق جميل منذ جمعهما لورانس العرب، أنطوني كوين.
أسماء كبار السينما العالمية لم تتوقف عند كوين، فجميل راتب وقف أمام آخرين ممن عرفهم الجمهور العربي كنجوم لكلاسيكيات عالمية، وكان منهم جينا لولو بريجيدا التي شاركها التمثيل في فيلم ترابيز للمخرج كارول ريد 1956، والإيطالية كلوديا كاردينالي التي كانت شريكته في فيلم تونسي- فرنسي مُشترك هو صيف حلق الوادي للمخرج فريد بوغدير 1996.
محبّة قلقة
أحبّ جميل الفن كما بدا في غزارة وتنوع إنتاجه، لكن وكما جرت العادة لا يود حب خال من المنغصات، وهكذا كان اﻷمر مع جميل، كان حُبّه للفن مشوبًا بقلق من أنه عمل "غير مستمر"، قلق دفعه يومًا ما كزوج لوضع زوجته الفرنسية التي كانت ترغب في الإنجاب بين خيارين، الإنجاب وترك الفن إلى عمل أكثر استقرارًا لضمان رفاهة أطفالهما، أو الاستمرار مع الفن دون أبناء. وﻷن الزوجة كانت متيقّنة أن زوجها لن يطيق الابتعاد عن الفن؛ رَجَحت كفة الاختيار الثاني.
على الرغم من هذا القلق واﻷوضاع التي كانت "ضعيفة" في بعض المراحل، إلاّ أن الوصل لم ينقطع بين جميل والسينما الفرنسية التي ترك لها 15 فيلمًا، من إجمالي أعمال فنية قدّمها هُناك وتُقدر بـ75 عملاً على اﻷقل.
وحتى حين استقر في مصر، إذ أنه عاد عام 2012 ليُشارك في بطولة فيلم فرنسي الإنتاج هو غيمة في كوب ماء، وذلك بعد أعوام ذخرت بالعديد من الأفلام الفرنسية التي كان أولها مغامرة شانزليزيه لروجيه بلان 1957، قبل توقف طويل المدى يُقدر بـ14 عامًا، منذ 1968، حين شارك في فيلم الذئاب الصغيرة للمخرج مارسيل كارني.
لم يكن جميل راتب ممثلًا شرقيًا تستدعيه الشاشة الفرنسية كُلّما احتاجت سد فراغ دور نمطي عن العرب، بل كان كواحد من ممثليها فرنسيي المولد، لذلك كانت عودته لها أمرًا طبيعيًا، ولو بعد ذلك الانقطاع الطويل الذي قدّم بعده أفلامًا كان منها نجمة الشمال للمخرج بيير دفيير، وتوالت بعده اﻷفلام من البلد نفسه، حتى حين اتجه إلى جنوب المتوسط المصري، أو إلى الشمال الأفريقي التونسي والمغربي، وللبقعة اﻷخيرة هذه قدّم فيلم سيدة القاهرة 1992 مع سناء جميل ويسرا.
وفي السنيما التونسية كان لجميل مساهمات قليلة لكنها بارزة، استحق عنها التكريم، وكما حدث ذات مرّة في فرنسا وأن كرّمه رئيس، كان تكريمه في قصر قرطاج عام 2016 من الرئيس الباجي قائد السبسي بوسام الاستحقاق.
كان مما قدّمه جميل لهذه السينما العربية اﻷفريقية أيضًا، فيلم كش ملك للمخرج رشيد فرشيو 1995، والذي تشهد ساحات الإنترنت ومنتدياته على تداول مشاهد منه باعتباره "ممنوعًا من العرض".. غير معروف إذا ما عُرض الفيلم بالفعل- ولو مرّة- على أي شاشة مصرية عامة أو خاصة.
شيطان وطيب
أما السينما المصرية، فمنها بدأ جميل أول خطواته بفيلم أنا الشرق، لتتواصل الخطوات بعد عودته في منتصف السبعينات، وكان المدخل للسينما عبر ملعبه المفضّل، المسرح، حين عمل في مسرحية دنبا البيانولا لكرم مطاوع، ثم توالت العروض على جميل راتب وكانت فرصته الذهبية بفيلمي الصعود إلى الهاوية للمخرج كمال الشيخ، ولا عزاء للسيدات للمخرج هنري بركات.
كانت السينما المصرية، في السبعينات، مُتعطشة لوجه جديد يُضاف لأشرارها، خاصة وأن شريريها اﻷبرز في تلك اﻷعوام، محمود المليجي وتوفيق الدقن انتقلا إلى أدوار الأبوة والطيبة، هنا وكأن السينما وجدت ضالتها في راتب، مَن تعددت أدواره كشرير خفيف الدم أحيانًا، وسيم دائمًا، لكن كل شيء كان بمقدار وحساب، واﻷوراق لم تختلط، أو تجعل اسمه مرتبطًا بالشر فقط، وهو الفخ الذي وقع فيه ممثلون آخرون.
جميل راتب أخافنا وهو الشيطان وأثار غضبنا وهو ضابط الاستخبارات الإسرائيلي أدمون، واستعديناه وهو الديكتاتور نبيه اﻷربوطلي حاكم أهل نبيهاليا، إلاّ أن الجميع تعاطف معه وهو مُفيد أبو الغار الذي يقاوم رفع "الراية البيضاء" أمام فضة المعداوي، صحيح أنه استفزّ جمهوره وهو لطفي الدمنهوري عدو الفلاح سنبل، لكنه عاد وأحبّوه حين صار الجد أبو الفضل، الذي حلّ ضيفًا على البيوت المصرية ﻷعوام طويلة عبر التليفزيون،بالتوازي مع السينما، في مشوار انتهى يوم أمس دون أن ينقضي ذكر صاحبه، فمن أبدع لم يمت.