منتصف ليل أمس؛ نجح مراسل المنصة في ايجاد مصدر كهرباء وحيد لكتابة هذا التقرير، بعد ثلاثة أيام في الظلام دون تواصل مع العالم الخارجي.
هنا العريش عاصمة محافظة شمال سيناء حيث مقهى استعان بمولد كهرباء مزعج الصوت للحصول على الكهرباء وخدمة إنترنت عبر الهاتف الأرضي. هنا جولات على الأقدام طوال 4 أيام بسبب قلة المواصلات. هنا رحلة بحث عن فرن يبيع خبز الفطاير لانعدام القدرة على استخدام الفرن الكبير المخصص للخبز العادي بسبب غياب الكهرباء والمياه. هنا غياب لشبكات الهاتف المحمول لخروجها من الخدمة طوال فترة غياب الكهرباء. هنا التواصل الوحيد يتم عبر الهواتف الأرضية التي صمدت خلال أيام الأزمة الأربعة نظرًا لعمل السنترال المركزي بمولدات الكهرباء الاحتياطية. هنا تحوّل الأهالي إلى ساعات اليد للتأكد من مواعيد الصلوات. هنا العريش في شمال سيناء بمصر.
لطالما راقب أهالي مدينة العريش بمحافظة شمال سيناء تفاصيل أزمة غياب الكهرباء والمياه عن مركزي الشيخ زويد و رفح لفترات طويلة منذ العام 2015 من خلال فيسبوك ومن روايات الأهالي، لتجد عاصمة المحافظة نفسها تعيش نفس تفاصيل الأزمة ولكن بشكل أكبر تأثير نظرًا لوجود الكتلة السكانية الأكبر في عموم شبه جزيرة سيناء كلها حيث يقطن العريش حوالي 200 ألف نسمة من جملة 450 ألف نسمة هم إجمالي سكان المحافظة.
سبت الأزمة
في مساء السبت وفي حدود الساعة التاسعة والنصف مساء فاجأ الظلام جميع أحياء مدينة العريش، وبالطبع الشيخ زويد ورفح التي تعاني من انقطاعات مستمرة للتيالر الكهربائي منذ سنوات. ترّقب الأهالي في العريش عودة الكهرباء بعد وقت وجيز، إلا أن الوقت استنزف محاولات الانتظار دون تعقيب رسمي عن سبب انقطاع الكهرباء المفاجئ.
وبسبب غياب شبكات الإنترنت وفقدان شبكات الهاتف المحمول قدرتها على البث تدريجيًا؛ تعمّق الاحساس بالمجهول حتى تكشفت تفاصيل الأزمة في اليوم الثاني. ومع طلوع نهار يوم الأحد شاهد الأهالي 3 أبراج كهرباء متجاورة في منطقة سبيكة، 25 كيلو متر غربي العريش، وهي ممدة على الأرض وهو ما يعني أن الخط الرئيسي جهد 220 ألف كيلو فولت، الناقل للكهرباء من القنطرة شرق وحتى العريش، قد خرج من الخدمة تمامًا.
تناثرت الأنباء عن استهدافٍ آخر لخط المياه الرئيسي الـ 1000 ملم، ويقع 30 كيلو متر غربي العريش، وهو الخط الناقل لمياه النيل من القنطرة شرق إلى مدينة العريش، ما يعني أن انفصال الكهرباء والمياه في نفس الوقت لم يكن حادثًا عرضيًا.
حسم هذا الجدل بيان للشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي بشمال وجنوب سيناء عبر صفحتها الرسمية بفيسبوك يوم الإثنين الماضي، بعد الأزمة بـ 48 ساعة، عندما قالت إن الضرر في خط المياه ناتج عن "عمل تخريبي" دون الإشارة إلى جهة المخربين. و بيّنت الصور التي نشرتها الصفحة وجود آثار انفجار وأضرار كبيرة بالخط أوضحت خروجه هو الآخر من الخدمة.
.. والأفران والبنوك أيضًا تعطلت
تفاقمت الأزمة مع غياب الكهرباء والمياه؛ عندما تعطل عمل الأفران، كما تأثرت منظومة صرف حصص الوقود الجديدة التي بدأت السبت الماضي استعدادًا لانطلاق العام الدراسي الجديد. هذا بخلاف تعطل عمل مكاتب البريد وأفرع البنوك، وتأثر شبكات الاتصالات وخدمات الإنترنت وقلة وسائل المواصلات مع معاناة الأهالي في البحث عن مصادر للمياه.
وفي أول رد فعل رسمي، نشر موقع محافظة شمال سيناء الإلكتروني مساء الأربعاء في رابع أيام الأزمة، اعتذارًا رسميًا من اللواء محمد عبد الفضيل شوشة، إلى أهالي العريش فقط، قبل أن يتم استدراك العنوان في بيان ثانٍ بعد غضب سكان الشيخ زويد ورفح الذين لم يشملهم خطاب الاعتذار، حيث تم حذف البوست الأول، وتعديل العنوان إلى "اعتذار واجب إلى جميع أهالي شمال سيناء" بدلا من "اعتذار واجب إلى جميع أهالي العريش".
وجاء في البيان "إلى جميع أهالي شمال سيناء.. إلى كل أب وأم، إلى كل أخ وأخت، إلى كل أبنائي أتقدم لكم جميعًا باعتذار عما سببه لكم انقطاع التيار الكهربائي خلال الأيام الثلاثة الماضية، من ألم وخسارة كبيرة لكل منكم، وإني أعاهدكم أنني سوف اقتص من المتسبب في هذا الانقطاع أيا كان منصبه، متمنيًا من الله سبحانه وتعالى ألا تتكرر هذه الأخطاء مرة أخرى. دعمكم وتعاونهم مطلوب في هذه المرحلة و أؤكد على أن الدراسة في موعدها 22 سبتمبر لجميع المراحل التعليمية. بتوقيع اللواء دكتور محمد غبد الفضيل شوشة، محافظ شمال سيناء يوم 19 سبتمبر 2018.
عدد من أهالي شمال سيناء مثل المهندس عبد الله الحجاوي، ومحمد حجاج، وحسن النخلاوي، وأشرف الحفني وغيرهم، أشاروا إلى فشل منظومة إدارة الأزمة، وتساءلوا عن فشل إيجاد بديل لانقطاع الخط الرئيسي للكهرباء رغم وجود محطة إنتاج الكهرباء البخارية في العريش، والتي تبيّن أنها كانت خارج الخدمة لوجود أعطال بها وقوع الأزمة الأخيرة، مفسرين ذلك بالإهمال والتقاعس عن آداء المهام الوظيفية التي تسببت في فقدان العريش مصدر الكهرباء الرئيسي. وعبر عدد من ناشطي المحافظة رفضهم اعتذار محافظ شمال سيناء.
ماذا عن "ولاية سيناء"؟
في المقابل لم تتبنَ المواقع المنتمية إلى تنظيم ولاية سيناء التابع لتنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام، عملية استهداف خطوط الكهرباء والماء، كما أنها لم تنف قيام عناصرها بالاستهداف خاصة وأن هذه هي المرة الأولى التي تُستهدف فيها الخطوط الممتدة في مجال صحراوي موازٍ للطريق الدولي الساحلي بين القنطرة شرق و العريش.
وهو ما فسره مراقبون لعمليات الولاية الأمنية بالقول "إذا تبنى عناصر التنظيم هذا الاستهداف؛ فإنها ستكون نقلة نوعية في العمل المسلح للتنظيم، ودخولهم في استهداف مباشر لعموم الأهالي وليس الجهات الأمنية كما تعمل داعش عادة في غالبية عملياتها في شبه الجزيرة".
وقال المراقبون إن "استنزاف القطاع المدني بعمليات تخريبية، في حال تأكيده، يضع الأهالي في مأزق لا يمكن تحمله في مدينة العريش، أكثر مدن شمال سيناء الحضرية والمختلفة نسبيًا عن طبيعة أهالي مدينتي الشيخ زويد ورفح، الذين تعودوا على التغلب على صعاب المعيشة من خلال إيجاد وسائل إعاشة بديلة في ظل انقطاع الكهرباء والماء المستمر منذ سنوات".
وأشار المراقبون إلى المأزق الجديد للأجهزة الأمنية لردع عمليات استهداف خطوط الكهرباء والماء لأنها أهداف مكشوفة وسهلة ويحتاج تأمينها إلى عدد كبير من القوات لحماية مسافات تصل إلى 80 كيلو متر من العريش إلى بئر العبد وهو الامتداد الذي نشطت فيها عناصر داعش خلال العامين الأخيرين.
استهداف المدنيين دون بيانات دعائية
استهداف التنظيم المسلح لأهداف مدنية بشرية دون اعتراف بالعمليات ليس بالجديد في شمال سيناء، فالكثير من استهدفات المدنيين خلال السنوات الماضية وقعت دون اعتراف رسمي من التنظيم. وعند تصفية أحد الأهداف البشرية كان التنظيم يذيّل منشوراته الدعائية بأن الهدف كان يتعاون مع أجهزة الأمن، باعتبار ذلك مسوغًا لقتله.
آخر هذه الحوادث في 28 أغسطس الماضي عندما استهدفت عناصر للتنظيم سيارة إسعاف بشكل مباشر من خلال تفجير عبوة ناسفة أدت لإصابة السائق والمسعف إصابات بالغة. ونشر التنظيم للمرة الأولي اعترافًا باستهداف سيارة الإسعاف لكنه قال إنها تابعة للجيش، وهو ما نفته مصادر طبية أكدت أن السيارة تابعة لمرفق إسعاف شمال سيناء.
كما نفذت عناصر مسلحة عمليات كبيرة تركت تأثيرًا أهليًا كبيرًا، مثل واقعة استهداف فرع البنك الأهلي في مدينة العريش يوم 16 أكتوبر 2017، وقتل 4 أفراد بينهم مدنيين والسطو على ما يقرب من 17 مليون جنيه، ولم ينشر التنظيم بيانًا يتبنى فيه الواقعة، لكن شهود عيان وقتها قالوا إنهم تابعون لتنظيم داعش في سيناء.
كما شهدت قرية الروضة في 24 نوفمبر 2017 بمركز بئر العبد أكبر مذبحة بشرية، عندما قتل مسلحون أكثر من 300 مدني داخل مسجد القرية دفعة واحدة، ولم يتم الإعلان عن مسؤولية التنظيم عن المجزرة، عدا روايات لشهود عيان ومصابين عن هيئة العناصر، ولهجتهم خلال تنفيذ الهجوم، ومنشورات سابقة للتنظيم يتوعد فيها باستهداف أتباع الطريقة الجريرية الصوفية التي تدير المسجد.
و رغم أن تنظيم ولاية سيناء " داعش" لم يصدر بيانات تبني لتلك العمليات إلا إنه لم ينف صلته بها بشكل واضح، ما يؤصل شبهة تنفيذ عناصره تلك العمليات ذات التأثير السلبي شعبيًا.
اقرأ أيضًا: بعد 40 يومًا من الحرب.. كيف يشرب ويأكل أهالي شمال سيناء؟