"عاوزة يعجبني شكلي في المراية وأنا خارجة من البيت من غير ما أحس بالذنب. عشان كده خلعته" جملة قالتها لي صديقتي عن سبب تخليها عن غطاء الرأس (الحجاب)، الذي لازمها منذ أواخر الطفولة وحتى أواخر العشرينيات.
في الوسط الاجتماعي الرفيع حيث تربت وكبرت صديقتي، يجب أن تجمع النساء بين مظاهر التدين والجاذبية الشاكلية لتحافظ على ثنائية "محجبة بس شيك"، ولكن تظل مقادير تلك الخلطة السحرية -دين على عٌرف- نسبية إلى حد كبير بين أبناء الطبقة الاجتماعية الواحدة، وأحيانا حتى داخل العائلة الواحدة! وإن كانت بعض العائلات تتساهل مع مقدار الالتزام بـ"ضوابط الحجاب الشرعي" - الجملة الأشهر في تاريخ البرامج التلفزيونية الدينية - فإنها لن تتهاون مع الغياب التام لقطعة القماش تلك على الرأس، حتى لو كانت "لفة أسبانش أو بونيه"، لأنها صارت ختم جودة وصك قبول من المجتمع - بأنها "بنت عيلة محترمة".
ولكن عائلة صديقتى لم تكن تقبل بـ"الحجاب المايع"، فنما جسدها اليافع ليضج بأنوثة مُكبلة تحت سطوة معتقدات من نوعية "الحجاب الصح يخبي جمالك"، "جمالك ما يظهرش غير لجوزك"، وصولًا إلى "جسمك عورة يا بنتي".
وسط قريناتها من بنات الطبقة المتوسطة العليا، كانت صديقتي أقربهن إلى المعايير القياسية للحجاب والتي يرددها المشايخ والدعاة ليل نهار؛ ملابس فضفاضة، ألوان محايدة، وجه خالٍ من المساحيق، وفي نفس الوقت كانت أبعد عن الصورة الرائجة للمحجبة الشيك التي يعكس مظهرها رغبة ملحة وطبيعية في أن تبدو جميلة دون أن تفقد احترام المجتمع لها أو تغامر بالدخول إلى النار.
ذلك النموذج من النساء يعيش أيضا مع شعور بالذنب - يعلو ويخبو - لأنهن غير ملتزمات تمامًا بـ"الحجاب الشرعي"!
الفيل في الغرفة
"هو ربنا هيدخلني جهنم علشان عايزة شكلي يبقى كويس؟!" سؤال قد يُطرح في الغرف المغلقة لمجموعات النساء على فيسبوك أو خلال أحاديث بين صديقات مقربات، ولكن المفاجأة أنه جاء - منذ أيام قليلة - على لسان مذيعة محجبة مشهورة، لم تتحرج أن تلقي به على الهواء مباشرة.
طرحت المذيعة المصرية دعاء فاروق، مقدمة برنامج اسأل مع دعاء على قناة النهار، هذ السؤال في حضرة أحد ضيوفها الدائمين، الشيخ الأزهري أشرف الفيل، خلال دفاعها عن استخدام "المرأة المسلمة" للمكياج. السؤال السابق طُرِح عقب اتصال هاتفي من إحدى متابعات البرنامج، وهي مثال لنساء كثيرات، يسمعن رأي الشرع بأن وضع مساحيق التجميل لغير الزوج حرام شرعًا، ولكن ماذا يكون الحال إذا كان زوج المتصلة نفسه يريدها أن تتزين أثناء خروجها معه؟ في تلك المكالمة، أخذت دعاء صف الزوج، والشيخ صف الشرع.
ثم فجأة تناست دعاء فاروق تماما حيرة متصلة البرنامج "نهى"، وبدأت تشير إلى نفسها وحقها في وضع المكياج، حتى أنها بدت في سؤالها السابق أقرب إلى امرأة متدينة تناجي ضميرها المعذب أمام انعكاسها "المتبرج" في المرآة، منها إلى مذيعة محترفة لن تدع ضيفها يرواغها في الإجابة.
بالفعل، انتهت الحلقة والسؤال معلق في الهواء. لكن هل دعاء لا تعرف الإجابة، وهي المحسوبة على جيل من المذيعات اقترن سطوع نجمهن في المحطات التلفزيونية الخاصة بانتشار قابلية الحجاب في أوساط الطبقة المتوسطة العليا في مصر؟ وهل أصلا يجب أن توجه أسئلة عن أجساد النساء إلى المشايخ، يفتون بما يجوز ولا يجوز؟!
البزنس الشرعي وواجهته
وجد مقطع فيديو الحلقة السابقة طريقه إلى أحاديث المصريين على فيسبوك، ولكنه سرعان توارى في ظل جدل أكبر حول أحدث التحولات في جيل من الفنانين الشباب "المتدنيين"، بدءًا من أحمد الفيشاوي، وصولًا إلى حلا شيحة التي خلعت النقاب وأعلنت العودة إلى التمثيل.
ولكن ما قالته دعاء في تلك الحلقة يستحق الوقوف أمامه وقراءته في سياق موجات امتداد الحجاب لعقود في طبقات اجتماعية متباينة، ثم موجات الجزر الأخيرة - خلع الحجاب - والتى إمعانا في السطحية يتم ربطها بالإطاحة بجماعة الإخوان المسلمين، ودورها في انتشار الحجاب منذ الثمانينات.
دعاء فاروق وجيلها من المذيعات المحجبات "الشيك" ساهمن في تكريس صورة أكثر قبولًا ورواجًا للمحجبة ضمن شرائح عليا في المجتمع، ولكن تلك النسخة لم تكن إلا "صورة تجارية" لسطوة رجال الدين والأعمال على حق النساء في تقرير مصير أجسادهن.
وسط التفاعل بين الدين والعرف في مسألة حجاب المرأة، جاء التجار؛ أصحاب روؤس الأموال من مالكي القنوات الخاصة والعربية، يبيعون لنا صورة تجارية للحجاب، وفي نفس الوقت يسمحون لرجال الدين بإشعال عقدة الذنب من عدم الالتزام بـ"الحجاب الشرعي".
هنا ظهرت ظاهرة "المذيعات المحجبات" من مقدمات البرامج الدينية والاجتماعية، اللاتي سطع نجمهن كظاهرة إعلامية في بداية الألفية، بالتزامن مع ظهور دعاة ومشايخ همهم الأول "ستر نساء المسلمين"، وترهيبهن بعبارات مثل "إنتِ عارفة كل شعرة بتبان منك بتأخدي عليها كام ذنب؟".
ولكن تلك الصورة القياسية للمرأة المحجبة، لم تكن تلقى رواجًا في المجتمع - وخاصة في الطبقات العليا- حتى صار الحجاب موضة وصناعة، وحركة رؤوس أموال تقف وراءها بيوت ومجلات أزياء وصالونات تجميل.
هنا لا يوجد أفضل من جيل المذيعات المحجبات ليكنَّ الوجه الإعلاني لـ"المحجبة الشيك".
تعايش النقيضين
في استديو البرنامج التلفزيوني، يتعايش النقيضان، شيخ أو داعية سيدة - مثل أمل صالح وعبلة الكحلاوي- تتحدث عن حجاب يخفي فتنة النساء- وهو أقرب إلى النسخة السلفية، بينما تجلس أمامه أو أمامها المذيعة في أبهى حلتها، بما يبعث رسالة لجمهور من النساء "شكلك بالحجاب أحلى".
لسنوات لم يتدخل طرف في عمل الآخر، يفتي الشيخ أو الداعية في شؤون النساء بما يجوز وما لا يجوز، والمذيعة مجرد "عامل كابينة في سنترال"، تتلقى اتصالات جمهور حائر ما بين حرمانية "نتف الحواجب"، "ووضع كحل العنين".
كلُ يقوم بدوره في بيع الحجاب، كمنتج ديني أو استهلاكي، للقطاعات المختلفة من النساء. لكن في الحلقة التلفزيونية المشار إليها، أربكت دعاء ضيفها حين أشارت إلى الفيل الذي يتحرك في الغرفة دون أن يجرؤ أحد عن الإشارة إلى وجوده، وهو تناقض تفسيرات الفقهاء - الذكور - في التعامل مع مظهر المرأة المسلمة مقابل الرجل المسلم، قائلة "يعني الراجل يتبرفن ويلبس ويتشيك، ويعملي شعره جيل وكده (...) والست تبقي ماشية شكلها يقرف".
بقدر تعاطفي، كامرأة، مع دعاء، إلا إني على وعي بأن هذه المرأة الأربعينية لم تنتفض فجأة لحق الفتيات والسيدات المصريات على اختلاف أعمارهن في أن يروقهن مظهرهن دون أن يحملن على أكتافهن ثقل شعور بالذنب من مخالفة شرع الله، بل أرى دفقة الغضب التلفزيوني المفاجئ جاءت على لسان بنت الطبقة المتوسطة العليا، وزوجة رجل الأعمال وصديقة علية القوم من الفنانين والإعلاميين.
مع تقدم نساء تلك الطبقة في العمر، يلجأن إلى التحايل على القواعد الصارمة لـ "الحجاب الشرعى"، قواعد توافق و"اجمع عليها" فقهاء ذكور، ولكنهن لا يحدثن تلك الجلبة، يتحركن حول الفيل، دون الإشارة إليه، هكذا فعلت العديدات من جيل الفنانات المعتزلات، على سبيل المثال: شهيرة وسهير رمزي.
ما يؤكد أن دعاء تتحدث عن لسان طبقة اجتماعية بعينها وشريحة عمرية من النساء، أنها في ردها الفوري على المتصلة نهى أبدت تعاطفاً مع الزوج المسكين الذي يرغب في أن تبدو زوجته في مظهر حسن أمام عائلته ومعارفه، حين مازحتها قائلة "قليل من البودر مش هيضر يا نهي .بس الراجل ما يبقاش ماشي جنبك متضرر."
حتى عندما حولت دفة الحديث إلى الفيل القابع في الغرفة، وهو عدم عدالة تعامل الفقهاء مع مظهر كل من الرجل والمرأة، تراجعت في نهاية الحلقة عن إثارتها هذا التساؤل، مؤكدة رضوخها إلى رأي الشرع وإن كانت غير قادرة على الالتزام به، قائلة "حضرتك بتقول الصح.. واللى تقدر تمشي كده طول عمرها تقدر.. لكن لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.. أنا ما أقدرش أعيش كده. وستات كتير ما تقدرش تعيش كده".
فليبقَ كلٌّ في مجاله
في تلك الحلقة، حاول الشيخ الأزهري أن يذكر دعاء بنص الاتفاق "غير الشفوى" بين رجال الدين، والمذيعات المحجبات، وأن دورهن لا يجب أن يتعدى "عامل كابينة الاتصال"، حين يكون سؤال المتصل متعلق بشؤون الدين، وبالأحرى، الحدود الشرعية للحجاب.
من المضحك أن الشيخ الأزهري استخدم أكثر من مرة كلمة "حرة" في إشارته حرية النساء ألا يلتزمن بالرأي الشرعي. تلك الحرية عندما قررت أن أمارسها في مسجد الأزهر بالقاهرة منذ عامين، كنت على وشك أن أطرد من العاملين في المسجد، عندما رفضت أن يجبروني على ارتداء اسدال، فوق ملابسي "بنطلون وفستان يصل إلى الركبة"! نفس الواقعة حدثت مع زميلة صحفية أخري، كادت على وشك أن تٌضرب في حرم الأزهر!
لا يمانع الشيخ الأزهري وغيره من المشايخ في التعامل مع دعاء وبنات طبقتها، من "المحجبات الشيك" غير القادرات على الالتزام بضوابط الحجاب، شريطة ألا يتدخلن في عمله الأساسي، في محاضرة عوام النساء عن حجاب ينكر عليهن حقهن في التزيّن، وقبل كل شيء اختيار ما يحلو لهن فيما يتعلق بأجسادهن، وبالتالي تعيش النساء من متابعات هذه البرامج في براثن الشعور بالذنب، والحيرة بين منتج ديني ذكوري، وآخر استهلاكي تجارى للحجاب.
إذا كان الشيخ الأزهري حاول إنها الحلقة التلفزيونية بالتغاضي عن الفيل الضخم الذي يتحرك في أروقة الاستديو، بالتأكيد على أنه لا يجوز للمرأة المسلمة أن تتبرج، فإنه في الوقت نفسه طمأن دعاء بأن "اعملي ما يحلو لكِ"، فإن هناك نساء يافعات مثل صديقتي، كسرن الحلقة الجهنمية من الشعور بالذنب، حين قررن أن يسترشن مرآتهن عندما يتعلق الأمر بمظهرهن، عن الاتصال ببرامج الفتوى.