يملك كل من إسلام سعيد "شيبسي" ومحمد عبد السلام "عبسلام" الآلة ذاتها، الكيبورد مع الأول والأورج مع الثاني، وباختلاف التسمية بينهما يختلف مشروع كل منهما عن الآخر
في 6 أكتوبر 2016، كانت قد مرت أربعة أسابيع بعد تطبيق قانون ضريبة القيمة المضافة التي رفعت أسعار عدد من السلع والخدمات والأدوية بنسب تتراوح بين 5% و 75%. أربعة أسابيع كانت كافية لأن يتلمس المواطنون آثار ثاني خطوات "خطة الإصلاح الاقتصادي" بعد رفع التعريفة الجمركية مطلع نفس العام؛ توافق مساء هذا اليوم مع حفلة "حظ" بإحدى مدن الدلتا، أحياها عازف الأورج محمد عبد السلام بمرافقه زميليه من نبطشية الأفراح سيد حسن وكتكوت.
في إحدى فقرات تلك الليلة تسلم كتكوت "الحديدة"، الاسم المتداول بين أبناء الكار للميكروفون، ليبدأ وصلته في النبطشية، تلك الوصلة التي لعبت دورًا في الترويج لعبسلام بين طبقات تختلف عن مستمعيه الأوائل، بعد انتشارها في دوائر أكثر تنوعًا عبر منصات الشبكات الاجتماعية.
أخي كتكوت أفصح مني لسانًا
كانت هذه الدقائق الخمس حدثًا فاصلًا في مسيرة عبسلام الموسيقية، لعب كتكوت فيها دور صديق البطل، أو هارون الأفصح لسانًا من عبد السلام قليل الكلام الذي يتحدث بأصابع الأورج. فرغم أنها الطبيعة المهنية لنبطشية الأفراح؛ إلا أن كتكوت يملك أسلوبًا مختلفًا عن أقرانه من أبناء حرفته الكلامية، فبينما يحترف سيد حسن وصف الصَبيّة، وهي وصلة إيروتيكية لا تخلو من المبالغات في وصف مفاتن الراقصة؛ يحترف كتكوت ملء الهواء بإلقاء الإفيهات، محاطًا بكاميرات الهواتف، يتابع تعبئة وقت الحفل بمواضيع لا ارتباط بينها بتلقائية تناسب شخصية مونولجيست مسطول بلسان متثاقل وعينين منتفختين.
يفتح كتكوت 3 مواضيع مختلفة يتنقل بينها دون إنهاء أي منها؛ فمن 6 أكتوبر "أسطورة شعب" كما وصفها، إلى تحفيز عبسلام بوصفه كمخدرات، أو"قائد كوكب المريخ"، هذا اللقب الذي سيلتصق به لفترة طويلة؛ حتى "السيسي طلّع دين أبونا". لاقت هذه الجمل ردود فعل لحظية في تسخين نجم الحفل وجمهوره، كما لاقت ردود فعل بعيدة المدى حيث ستكون كلمات مفتاحية تفتح الطريق للفيديو بعد رفعه على يوتيوب للظهور لآكبر عدد من المستخدمين عبر خوارزميات الشبكات الاجتماعية، ورغبات المستخدمين لإعادة مشاركتها.
يا عبسلام! (مزج أول)
يعتمد "الحظ" على الارتجال هذه جملة ذات تأويلات، فكما يعرف الحظ طريقه إلى المرتجلين المُخاطِرين، تعتمد ليالي الحظ على الارتجال المتبادل بين الموسيقى والكلام أيًا كان نوعه؛ موال أو أغنية أو حتى كلام نبطشية. كان عبد السلام محظوظًا بالألقاب التي منحها له كتكوت في ارتجالاته، والتي ساهمت في إعلاء نجمه، لكنه كان محظوظًا أيضًا حين انضم لرضا البحراوي وشكّلا معًا ثنائيًا احتل فضاء الأفراح الشعبية في مصر، في فترة كانت المنافسة مشتدة بين ليالي الحظ والمهرجانات، وفيما كانت الغلبة في هذه المنافسة للمهرجانات؛ كان الحظ بمثابة "أندر جراوند" شعبي من أعمدته في تلك الفترة رضا البحراوي، الذي أعطى عبسلام دفعة النجومية بين أوساط جمهور الحظ.
في الفترة ما بين 2011 و2013 انقسمت سوق الأفراح الشعبية بين اتجاهين أساسيين، "الحظ" في الدلتا و"المهرجانات" في الحزام الحضري المحيط بالقاهرة، وكان يُسمع صداها في عربات الميكروباصات داخل القاهرة وخارجها. إلا أن التركيز كان على المهرجانات باعتبارها لغة تعبيرية جديدة ظنها البعض نتائج الثورة، لذا حظت باهتمام استشراقي النزعة، خاصة مع كونها تتبنى معاني مختلفة وتلتزم بسياق ما في كل مهرجان على حدة، فيما كان الحظ كمحتوى موسيقي لا يبحث عن معنى، يبحث فقط عن الحظ وأن "يسيب الناس تتحظ" كما يقول كتكوت في إحدى نبطشياته، دون الالتزام بسياق ما، فقط وصلة من الارتجال الحر.
يملك البحراوي جرأة فنية ارتجالية أهّلته لقيادة إحدى ليالي صيف 2012، والقيادة هنا تعني توجيه الموسيقى وتحفيز الجمهور على التفاعل، وتوجيه مشاعرهم بين الحزن والفرح والرقص، حيث بدأ فقرته بأحد الأفراح الشعبية بمقطع مستعار من أغنية نادر أبو الليف "ثقة في حياتي"، بعد تغيير اللحن ليناسب الهوى الشعبي المائل للحزن، ثم يتحول بها إلى لحن راقص، ومنه يدلف إلى مقطع آخر من أغنية أخرى، حتى ينتهي بجملة "هل رأى الحب سكارى" من "الأطلال" لأم كلثوم، يغير كلماتها لتناسب الكيف الشعبي للجمهور المائل للحشيش، مع مواجهتهم بأن "ياما ناس في شرب السموم/ الحشيش مضيعة فلوسها"، مع الكثير من لزماته المميزة، مثل "لأ لأ لأ، بابا يا بابا، دي حركة دي حركة" التي يحفز بها الجمهور، ويوجه بها المزيكاتي ويحييه "يا عبسلام" فيرد عبد السلام التحية بصولو من مزاميره الإلكترونية.، لعبت هذه التحية دورًا في التأسيس لنجومية عبسلام، أسبق على الدور الذي لعبه كتكوت مع الموسيقي الصامت قائد كوكب المريخ.
يا عبسلام! (مزج ثان)
لم يكن ثمة سبب لأن يهتف حكيم مناديًا "يا عبسلام!" في أغنيته "حلاوة روح" التي اقتربت من 102 مليون مشاهدة على يوتيوب ونافست "آه لو لعبت يا زهر" على تشكيل الشريط الصوتي اليومي في المقاهي المصرية ومواصلاتها وحفلات أفراحها في أعوام 2014-2016.
لم يكن عبسلام شخصية داخل الفيلم الذي حمل نفس اسم الأغنية، ولم يكن في طاقم إنتاجها، إلا أن اسمه كان واحدًا من لزمات رضا البحراوي في أغنية "مبقاش عندي ثقة في حد" المسجلة قبل عامين من إنتاج الفيلم، والتي استعار حكيم مقاطع كاملة منها كما استعار لزمات مطربها. هذه الاستعارات التي لا تعترف بمفاهيم الملكية الفكرية واحدة من السمات المميزة لسوق الموسيقى الشعبية المصرية، التي لا يعترف جمهورها بشيء سوى الإعجاب والقبول، فمن يملك القدرة على الإمساك بالحديدة وسلطنة الجمهور؛ سيرفعه الجمهور إلى مرتبة النجوم. فلا حملات دعائية أو أشكال "فوتوجينيك" تصنع نجوم هذه السوق، ولا تأثير لمفهوم حقوق الملكية الفكرية على إعجابهم بها، يمكنك الاستماع لأغنية واحدة بتوزيعات مختلفة. أو بسهولة، يمكنك تتبع رحلة تركيبات كلامية كاملة في أكثر من أغنية.
إسلام شيبسي .. "بره الصورة"
على الضفة الأخرى من النهر، مع ظهور أورج عبد السلام على ساحة ليالي الحظ، ظهر أورج آخر يقدم نوعًا مختلفًا من موسيقى السينث، يلعبها "أخطبوط المزيكا" إسلام شيبسي.
حينئذ لم يكن شيبسي قد حمل لقب "الأخطبوط" بعد، كان آتيًا من "بره الصورة" حسبما قدمه برنامج يحمل نفس الاسم أعدته مؤسسة المورد الثقافي التي قدمته مع عمرو حاحا، فيجو، علاء فيفتي، والسادات باعتبارهم "موسيقى الأحياء الشعبية لأول مرة على مسرح الجنينة".
قدم شيبسي حفلته في أكتوبر 2011، لم يرافقه فيها سوى صديقيه لاعبي الدرامز خالد ماندو وإسلام تأتأ، يقدمون مزيكا هي خليط من الهيب هوب مع جمل شرقية تشبه نغمات الناي الشرقي، تنبعث من أصابع الكيبورد وآلتي درامز على جانبي المسرح. وبالطبع لم يصاحبه أي لسان بشري يفرش له أثناء الحفل.
لازمت حالة المورد الثقافي الاستشراقية مشروع إسلام شيبسي في المراحل التي تلت حفل بره الصورة، بداية من "سياق البحث عن معنى جديد للموسيقى يتناسب مع الظرف السياسي والاجتماعي بعد ثورة 25 يناير"، التي استهلت بها المورد الثقافي إعلانها عن حفل بره الصورة، مرورًا باعتباره نوع موسيقى يعكس ثقافة الشارع المصري في الوقت الراهن –أعقاب ثورة 25 يناير- بكل صخبه وتناقضاته وتمرده على القوالب النمطية الجاهزة، وانتهاءً باستهداف موسيقاه للجمهور الأوروبي والدولي حسب إجابته على سؤال جون دوران في حواره لـ the Quietus.
انضم إسلام سعيد "شيبسي" وفريقه إلى ستوديو 100 نسخة وأنتجوا ألبومهم الأول عبر أجهزته، وانطلق الأربعة، بعد انضمام محمود رفعت مؤسس "100 نسخة"، نحو جولات أوروبية سنوية.
يلعب كل من إسلام سعيد "شيبسي" ومحمد عبد السلام "عبسلام" الموسيقى نفسها، السينث، المتولدة عن تسجيل وتعديل ومزج الأصوات بواسطة الكهرباء، ومن خلال الآلة ذاتها، الكيبورد مع الأول والأورج مع الثاني، وباختلاف التسمية بينهما يختلف مشروع كل منهما عن الآخر. يمثل عبسلام الهوى الشعبي الباحث عن الحظ بمفهوم الانبساط والفرح، ويتفاعل معه لحظيًا؛ فيما يمثل شيبسي هوى نخبوي يبحث عن المعنى ومخاطبة العالم، ومن هنا تختلف لغة الخطاب والأدوات المساعدة.
يعتمد عبسلام على النبطشي الذي يمثل لسانه في مخاطبة الجمهور بكلماته المفتاحية التي تُولدها اللحظة والظروف، والألحان المألوفة التي يمكن لجمهوره المستهدف أن يجترها من الذاكرة وبالتالي يتفاعل معها، فيما كان شيبسي متخبطًا في مشروعه بين النخبوية والشعبوية، يمارس فيه 4 حيوات موسيقية؛ حيث يعتمد على عازفين اثنين لآلة الدرامز، ويمارس ثلاثتهم تجريبًا موسيقيًا يلائم جمهور حفلاتهم الأوروبية.
يُحيي شيبسي حفلات في أحد النوادي الليلية بصحبة واحدة من المطربات، ويلعب منفردًا مع دي جي في حفلات أفراح وزفاف، حتى أنه يملك رقم هاتف خاص لكل حياة منها حسب قوله في حواره مع جون دوران. لكن هذا التشتت والبحث عن المعنى جعله يظل بره الصورة.
الجمهور هو القائد.. ع الأرض والويب
لكل منهما قناة رسمية على يوتيوب؛ دشن عبسلام قناته في نهاية 2016، وأصدر خلال أقل من عامين نحو 300 فيديو ومقطعًا من حفلات وليال حظ أحياها بمدن الدلتا، جمعت قرابة 51 مليون مشاهدة، فيما أطلق إسلام شيبسي قناته في ربيع 2014، أصدر منذ حينها 37 فيديو من حفلات ومهرجانات شارك بها في عدة مدن أوروبية وعربية، ولم يكمل عداد المشاهدات 1.5 مليون مشاهدة خلال أكثر من 4 سنوات. يبدو هذا انتصارًا مألوفًا للشعبوية على النخبوية، لكنه توضيح لما يمكن أن تقدمه الـSEO لانتشار المحتوى عبر الويب.
الـ SEO أو تحسين الظهور على محركات البحث، هو استخدام الكلمات المفتاحية التي تتلاقى مع هوى جمهور الويب، ويشبه إلى حد كبير ما يفعله النبطشي في الأفراح: جذب اهتمام الجمهور. تعمل عناكب جوجل بشكل آلي وخفي على مطابقة الكلمات والنصوص التي تصف المحتوى على الويب، بالكلمات والنصوص التي يستعين بها مستخدمو الويب للوصول إلى ما يبحثون عنه. وكما يمارس النبطشي لعبة التخمين والاحتمالات في توليد الكلمات التي تثير حماسة جمهور الأفراح؛ يمارس مقدم المحتوى أو متخصص الـ SEO لعبة التخمين والاحتمالات في تقديم الكلمات التي يمكن أن يبحث بها مستخدم الويب ليصل إلى مراده.
هذا ما فعلته قناة عبسلام بكتابة أسماء المطربين الشعبيين ونجوم الأفراح وليالي الحظ، بداية من عبد الباسط حمودة وحتى أحمد عامر، وكل النبطشية المشاهير بين ليالي الحظ، وبكتابة كل التهجئات المحتملة لعبد السلام وعبسلام و(uf]hgsghl)، كل المدن والقرى التي أحيا حفلات بها، كل صولوهاته المسمَّاة العبارة وشمس الزناتي والدوامة بكافة التهجئات. وحتى على مستوى الموضوع؛ صنع عبسلام تراك خاص لمنتخب مصر بالتزامن مع صعوده لكأس العالم، وتراك آخر لمسلسل "نسر الصعيد" بطولة كلمة "محمد رمضان" ككلمة مفتاحية أخرى بالتزامن مع عرضه.
هكذا يخلق عبسلام حالة حصار كاملة لعناكب جوجل الآلية، وللجمهور الذي يبحث عن الشعبيات والذي يخاطبه عبسلام بشكل مباشر، فيما لم يهتم القائم على قناة إسلام شيبسي بالوصول إلى جمهور محدد، حيث كتب تعريفه باللغة الإنجليزية، مكتفيًا بكتابة أسماء التراكات والحفلات بخليط من الإنجليزية والعربية، دون بذل جهد في التنبؤ بما يمكن للجمهور أن يكتبه.
اقرأ أيضًا: سيد إمام.. مشروع مصري
بقي هذا الحال حتى منتصف 2017 حين بدأ اهتمام شيبسي -أو من يدير قناته- بهذه النافذة وبإمكاناتها وكتابة كل الكلمات المفتاحية المتاحة، حتى أنه بدأ يستعين بكلمات مثل (عبد السلام وعبسلام ومزمار) في SEO وصف تراكاته الخاصة التي بدأ فيها شيبسي التخلي عن خياراته النخبوية، وتقليد أسلوب عبسلام ومزماره الذي أثبت رواجه وتوافقه مع الهوى الشعبي.
يا عبسلام! (مزج ثالث)
بعد 5 أعوام من نشاطه أصبح اسم عبسلام تميمة حظ لنجوم الحظ والغناء الشعبي، وكلمة مفتاحية فعالة على محركات البحث لذا كان منطقيًا أن يستعين به محمود الليثي وأحمد السبكي في توزيع أغنية عم يا صياد، وأن ينادي عليه كما جرت العادة داخل الأغنية وأن يطلب الصولو الشهير لعبسلام "إدينا دوامة" في مزج بين الأغنية الشعبية ذات البناء الواضح، وبين ليلة الحظ ذات التداعي الارتجالي.
هل تنتهي حالة عبسلام؟ جمهور الأغنية الشعبية لا يقتل نجومه عادة لكنه لا يقدسهم، يسعى دائمًا لتجديد دمائه عبر خلق نجوم جدد، فلم يظل عبد الباسط حمودة على رأس قائمة الغناء الشعبي، ولم يحافظ أحمد شيبة على مساحته من شريط الصوت اليومي للمصريين، ولن تبقى حالة عبسلام تملأ الفضاء الصوتي للموسيقى الشعبية، تظهر أنماط جديدة ونجوم جدد كل يوم، ومن يريد إطالة عمره عليه تجديد دمائه بالتجريب مثلما فعل عبد الباسط حمودة وطارق الشيخ وشيبة باشتراكهم مع موسيقيين من خارج إطارهم الشعبي.
أما شيبسي، فرغم أنه لم يخلق حالة شعبوية مثل عبسلام، إلا أنه يملك فرصًا أكثر للبقاء، في النهاية يمارس إسلام 4 ألوان موسيقية متنوعة، كل على حدة. وكما أصابته بالتشتيت؛ فهي أيضًا تتيح له فرصًا أكثر للتجريب والمزج وتجديد الدماء، فقط لو أحسن إدارة هذا التنوع الموسيقي والأسلوبي.