أبو يوسف، مزارع من قرية الخروبة التابعة لمدينة الشيخ زويد، مثله وآخرين كثر، اختفت مزارعهم من خارطة المساحات الخضراء بمحافظة شمال سيناء، وتلاشى معها مصدر الرزق الوحيد لهم ولعائلاتهم، ولم يتبق لهم سوى الامل في القيد بسجلات التعويضات.
"مش قادر حتى أشوف إيش باقي من المزرعة، آخر مره شفتها كان في 2014، لما تم وضع كمين على تبة في طرفها الشمالي". يحكي "أبو يوسف" عن مزرعته في قرية الخروبة، التابعة لمركز الشيخ زويد.
مثلت له أشجار الزيتون حياة موازية لها طقوسها الخاصة، تعوّد قضاء غالبية أوقات النهار بينها، ونمت الأشجار أمام نظره بعمر يفوق أعمار أبنائه، لكن بعد عقود من رعايتها رآها تتساقط أمامه دون حتى أن يشارك في مراسم جمع ما تبقى منها، فجفت وجف معها جزء عظيم من قلبه.
في أبريل من العام الحالي قال اللواء كمال عامر، رئيس لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس النواب، في حوار مع صحيفة المصري اليوم، إن "زراعة الزيتون أبرز المشروعات القومية لتنمية سيناء".
ما بين تصريحات أعضاء مجلس النواب والواقع الذي حل في مساحات الزيتون بسيناء تحقق المنصّة فيما آل إليه وضع المحصول القومي للمحافظة.
ممنوع الاقتراب
اتخذت زراعة الزيتون في شمال سيناء شكلًا احترافيًا بتنوع الأصناف، فمنها ما يصلح للتخليل و آخر لاستخراج الزيت، ونظرًا لتنوع المحصول نمت أعمال صناعية دعمًا لهذه الزراعة بإنشاء معاصر الزيتون، فوجد أصحاب المعاصر من أطراف المزارع جنوب العريش موقعًا نموذجيًا لخدمة الأهالي خلافًا للمعاصر الحكومية ومصانع التخليل.
وخلافًا لضياع مساحات الزيتون عامًا بعد عام بفعل التجريف والمنع من الإقتراب، ارتفعت أسعار صفيحة زيت الزيتون حجم 16 لتر إلى 1200 جنيه في عام 2017، بدلا من 600 جنيه عام 2016، لكن يتوقع التجار أن يتضاعف سعر الصفيحة، قبل أن تفقد المحافظة هذا المنتج الذهبي للأبد.
يعترف المهندس عاطف مطر ، وكيل وزارة الزراعة، بتأثر إنتاج الزيتون وجودته نظرًا لأسباب من ضمنها تضرر المزارع بأشكال مختلفة منها التجريف أو انقطاع الكهرباء والمياه. ويشير مطر إلى توقف العديد من معاصر الزيتون الأهلية والتى تخص المديرية وحدها، لافتًا إلى توقف عمل حوالي 9 معاصر مملوكة لمديرية الزراعة وحوالى 6 معاصر أهلية أخرى عن العمل بالإضافة إلى توقف مصنع تحليل الزيتون عن العمل.
وفي نوفمبر الماضي، أعلنت مديرية الزراعة بشمال سيناء أنها صرفت 118 مليونًا و 763 ألفًا و 958 جنيهًا، تعويضات عن الأراضي والزراعات المضارة لـ 1849 مزارعًا على مستوى محافظة شمال سيناء، لكن مزارعي حرم مطار العريش الجوي لم يكونوا من ضمن هؤلاء المزارعين.
حرم المطار
لا يتخلف الوضع في مدينة العريش التي تتمتع بظهير زراعي يمتد لعدة كيلو مترات في أراض صحراوية استصلحها الأهالي بجهود ذاتية على مدار أعوام طويلة، وأحاط هذا الظهير الصحراوي مطار العريش الجوي، وأصبح يشكل القوة الزراعية الضاربة لمحصول الزيتون الذي صار يدر ملايين الجنيهات لأهالي محافظة شمال سيناء سنويًا.
لكن في ديسمبر 2017؛ شكل استهداف طائرة هليكوبتر في مطار العريش بصاروخ كورنيت، كان يستقلها وزيرا الدفاع والداخلية السابقين صدقي صبحي ومجدي عبد الغفار، الضربة القاضية لزراعات الزيتون وربما كافة المزارع الخضراء الأخرى.
فقررت الحكومة إنشاء ما أسمته "حرم مطار العريش" بمحيط 5 كيلومترات من الجهات الجنوبية والشرقية والغربية للمطار، فيما تم الاكتفاء بمسافة 1.5 كيلومتر شمالًا عند الطريق الدائري.
ووفقًا لما يتوافر من معلومات، حتى الآن، فإن عدة مقاولين مدنيين تسلموا مواقع العمل لإنشاء جدار حول حرم مطار العريش، تصل مسافته وفقا للمصادر إلى 37 ألف متر، حيث سيتم إنشاء قواعد خرسانية لتثبيت حوائط على هيئة أقواس مسبقة التجهيز فوق القواعد ثم سيزود الجدار ببوابات محددة وأجهزة مراقبة.
وباكتمال إنشاء الجدار ستغيب جميع المساحات الخضراء المزروع أغلبها زيتون جنوب العريش عن الأنظار نهائيًا، وكذلك عدة قرى وتجمعات سكانية، منها تجمعات أبو منونة وبلى والطويل والمسمى والحفن وتجمعات أخرى.
التعويضات بالشجرة
محافظ شمال سيناء اللواء عبد الفتاح حرحور، قال في زيارة سابقة للمهندس إبراهيم محلب مساعد رئيس الجمهورية للمشروعات القومية، أنه أصدر تعليمات بتسريع عمليات حصر الأراضي والزراعات المتضررة في محيط مطار العريش.
أما المعلومات التي توفرت من المصادر الأخرى في مديرية الزراعة أشارت إلى أن عمليات الحصر قائمة وأن التعويضات ستتم بعد حصر المزارع، وبيان عدد الأشجار المثمرة في كل مزرعة، لكنهم قالوا إن التعويضات ستكون للأشجار وليس لمساحة الأراضي التي لا تعتد الدولة بملكية أصحابها لها وفقًا للقوانين المصرية.
داعش يستهدف عمّال السور
إلى هنا، ويبدو أن تنظيم ولاية سيناء الذي تسببت هجمته الصاروخية في إتخاذ قرار بناء حرم لمطار العريش الجوي عندما استهدفوا طائرة وزير الدفاع، لم يكتف بالتسبب في ضرب النشاط الاقتصادي لمواطني العريش، إذ عاد ليضع بصماته بتفجير عبوة ناسفة في سيارة "نصف نقل" بالطريق الدائري جنوب العريش، مستهدفًًا 3 مدنيين يعملون في إنشاء جدار حرم المطار الأسبوع الماضي، ما سيجر المنطقة وسكانها لسلسلة من التداعيات الأمنية مجددًا.
ولم تكن واقعة استهداف عمال مدنيين هي الأولى، فالتنظيم أعلن صراحة وضع الأعمال الاقتصادية ذات الصلة بالقطاع الأمني ضمن دائرة أهدافه، فحسب بيانات نشرها التنظيم في أشهر سابقة حذر خلالها العاملين في مصانع الأسمنت بوسط سيناء واستهدفهم فيما بعد بالقتل وحرق المعدات.
خلال شهر يونيو قُتل المهندس عماد البوصيلي، المسؤول عن قسم فحص السيارات في إدارة مرور العريش، بالقرب من منزله في دائرة قسم ثالث العريش، كما قُتل موظف بقطاع الأمن التابع لإذاعة شمال سيناء، يدعى ماهر محمد شعبان، داخل منزله في منطقة "الدهيشة" التابعة لحي المساعيد جنوب مدينة العريش، بعدما أطلقوا عليه النار أمام أفراد أسرته.
كذلك هدد التنظيم شركة الملاحات في سبيكة غرب العريش، واستهدف شاحنات نقل البضائع المدنية وقتل أصحابها بدعوى تعاونهم مع قوات الأمن، وكذلك استهدف معدات شركة النظافة الخاصة في العريش بالحرق مرتين متتاليتين، حتى أن موقع إنشاء مدينة رفح الجديدة يخضع لحراسة مشددة لحماية العمال المدنيين في الموقع الذي يتم العمل فيه ببطء شديد وحذر أمني واضح لأعين السكان.
وبهذه العمليات ضد الأنشطة الاقتصادية؛ يبدو وكأن التنظيم يوسع الحرب بشعار إنها حرب مفتوحة لا ضوابط أو محاذير فيها، فطالت عملياته سيارات إسعاف وصهاريج مياه ومدارس ووحدات صحية.
حتى أن أصحاب المزارع جنوب رفح و الشيخ زويد خلال العام 2015 تلقوا تحذيرات بعدم حرث الأراضي وذلك لقيام عناصر التنظيم بزرع عبوات ناسفة فيها لاستهداف تحركات الجيش، مما دفع أصحاب المزارع أيضا لهجرتها و خسارة موارد رزقهم.
اقرأ أيضًا: وداعًا رفح.. أبناء المدينة البائدة يصارعون الشتات والعطش